
فلسفة وميتافيزيقا
الذكرى التاسعة والأربعون لوفاة مارتن هايدغر
في ذكرى وفاته التاسعة والأربعين أُقدم هذا المقال إلى روح المُعلم، وإلى روح جدتي التي لم تستطع الموت في قريتها، وإلى كُل من يزالُ يجدُ السعادة في بيت شِّعر:
_________________
نشر عالم الإجتماع البولندي “زيغمونت باومان” (Zygmunt Bauman) في السنة الأخيرة من القرن العشرين كتابه “الحداثة السائلة” (Liquid Modernity), وفيه يُوصف حالة العصر الحديث بعدم الثبات والإستقرار بسبب ذوبان كل ما يمتُ للهوية – والتي تُمثل حالة الصلابة – بصلة، بحيثُ يصبحُ كل شيء “سائلاً” من علاقات الفرد الإجتماعية والزوجية، العمل، الدولة ومؤسساتها، السوق والإقتصاد، المبادئ والأخلاق… فالسيولة هي سّمة العصر الحديث. وهذه السّمة نجد ما يوازيها في مصطلح {Bodenlosigkeit} لهايدغر الذي يعني حرفياً “غياب التُراب” في دلالة على فقدان أرضية صلبة، وعدم التجّذر أو “الإجتثاث”.
“سواء رضينا أو لم نرضى، نحنُ نباتات تُزهر من الأرض التي تسندُ جذورها فيها، تخرجُ منها لتزدهر في الأثير وتُعطي ثماراً”. / يوهان بيتر هيبل.
بهذا المقطع الشعري للشاعر الألماني “يوهان هيبل” يختمُ هايدغر كلمتهُ المُعنونة “السكينة” {Gelassenheit}, والتي ألقاها عام 1955 في مسقط رأسه “ميسكرتش” خلال حفلٍ تذكاري لإبن البلدة الموسيقار “كونرادين كروتزر”. في كلمته يُردد هايدغر كلماتٍ مثل “الأرض” {Erde} و “التُراب” {Boden} وما يرتبطُ بحقلهما المُعجمي، ويبرزُ مصطلحٌ مُهم في فلسفته قليلاُ ما يُسلط الضوء عليه وهو {Bodenständigkeit} والذي يعني “رسوخُ التراب” في دلالة على “التجذّر”. إن “الإجتثاث” و “التجذر” ليسا حالتين تدلان على واقعٍ فعلي مثل إنغراس جذور شجرة في التراب أو إجتثاثها منه، بل هما تُمثلان واقعاً أنطولوجي للإنسان والأشياء بعلاقتهم مع الوجود. يُركز هايدغر خلال كلمته على العصر الحالي الذي يتسمُ بالطابع التقني ويصفه بـ “إقتلاع الجذور”، ويتسائل:
“هل ما زال بإمكاننا أن نتحدث عن مكان آمن للإنسان بين الأرض السماء؟”.
قد يخطرُ في ذهننا أول ما نسمعُ كلمتيّ “مكان آمن” بأن نقابلهم بمفهوم “الخطر”، ونردُ هذا الخطر التقني إلى الأسلحة والحروب وخاصة القنبلة الذرية التي كانت تُشكل في ذلك الوقت ذروة التطور التقني وأظهرت للعالم خطرها الكبير، ومن ثُم نتمثل حالة إقتلاع الجذور بأنها تغيير مكان سكن الإنسان من مكانٍ إلى آخر، ولكن الأمر أنه ليس هكذا بالنسبة لهايدغر، ذلك أن يتحدثُ مثلاً عن الألمان الذين دُمرت مساكنهم في وقت الحرب وأجبروا بفعلها على ترك مسقط رأسهم إلى ما يسميه “صحراء المناطق الصناعية” وأصبحوا غُرباء عن بلدهم الأصلي، ولكن في نفس الوقت ماذا عن الذين مكثوا فيه؟ يتسائلُ هايدغر؛ ويقول:
“ليس غريباً أن تُقتلع جذورهم أكثر من اللاجئين… ذلك أن جذر الإنسان اليوم مُهدد في كينونته الأكثر حميمية”.
إن مُقدمتنا هذه لا تعدو عن كونها مُقدمة، وفي ظاهرها قد تبدو إنشائية، إلا أن التمهيد ضروري من أجل الغوص في العُمق، ذلك أن الفلاح لكي يزرع الأرض عليه أن يكون متواجداً فيها، أن تطأ قدمهُ الأرض، أن يكون واقفاً على قشرتها، إلا أن هذه المُقدمة مثل القشرة، ضرورية من أجل الوقوف إلا أننا لا نقفُ عندها إلا لكي نزرعَ الأرض أي أن نُقلب تُربتها ونغرس فيها من أجل فسح المجال لتجذر البذور.
• الحرثُ والغرس:
يقفُ هايدغر في القرن العشرين ولكن كآخر ما-قبل السقراطيين كما يصفهُ “غادامير”، وهذا شعورٌ سيشعرُ به المرء عند قرائته لأعماله، يعودُ هايدغر بلسانه الضليع في اللغة اليونانية إلى أرض الإغريق، وذلك لتقليب تُربتها الراكدة، فإنها الأرض الخصبة التي منها نشأت الفلسفة وصقلت بها طُرق تفكيرنا لقرون وما زالت. هُنا يظهرُ للمرة الأولى مفهوم “التجذر” {Bodenständigkeit} عند هايدغر في محاضراته التي تعود للعام 1924 تحت عنوان: “المفاهيم الأساسية للفلسفة الأرسطية”، حيث يظهر مفهوم “التجذر” ضمن سياق ما يسميه {Bodenständigkeit des Begriffes} أي “تجذر المفهوم” ذلك أن ما يسعى إليه بالعودة إلى الإغريق ليس ممارسة نفس فلسفتهم بإستخدام نفس مفاهيمهم ولكن محاولة لوضع “الأساس” {Grund} الذي منهُ ينشأ المفهوم الفلسفي. إن هذه العودة هي تتبع للمسار التاريخي للفلسفة وتاريخ مفاهيمها، هذا التاريخ هو ليس سوى ما يدعوه هايدغر “تاريخ الميتافيزيقيا”، هذه العودة ضرورية كانت من أجل فهم سبب الخمول الذي أصاب الفسلفة وفقدان عُصارتها الحيوية في القرن العشرين، الذي يرّدهُ هايدغر إلى الميتافيزيقيا، وضمن هذا الإطار يُفهم إهتمام هايدغر بالإغريق ليس إحياءً لمُجرد رغبةٍ نوستالجية مُنفصلة عن الحاضر، بل بسبب أن الحاضر بما يُمثلهُ من ذروة الميتافيزيقيا – الذي يراها هايدغر مشكلة الفلسفة – يوجبُ العودة إلى الماضي لمعرفة سبب المشكلة، ذلك أنهُ ما من مشكلة تطرأ فجأة بل هي نتيجة تراكمات عدة. وبما أن تاريخ كل قومٍ يودعُ في لسانهم، كان إهتمام هايدغر بلغة الإغريق ليس من باب الترجمة، بل محاولة لفهم روح لغتهم ومعرفة المعنى المُراد من مفاهيمهم، مثل {οὐσία}, {λόγος}, {ἀλήθεια}, {φύσις}… فكان اللسان هو بمثابة “المنجل” الحاصد للحشائش بحيثُ يكشفُ عن أديم الأرض التي تأسست عليها هذه المفاهيم، تلك الأرض التي هي المفهوم الأساسي الذي يُسمى “الوجود”. تلك الأرض التي كان يتجذر فيها في نظر هايدغر فلاسفة ما قبل سقراط الذي يرى بهم هايدغر حفظاً للتجربة الأصيلة للوجود والفلسفة.
إن الحرث مفهوماً بهذه الطريقة هو بمثابة تمهيد الأرض عبر حصد ما هو دون فائدة من أجل غرس بذورٍ جديدة. لقد سبق أن وصف “ديكارت” الفلسفة بالشجرة التي تكون جذورها الميتافيزيقيا وجذعها الفيزياء وأغصانها باقي العلوم، بالنسبة لهايدغر فإن مثل هذه الشجرة قد أصابها العُقم وما عادت تُزهر وأصبحت ضارة للتُربة بذلك وجب إقتلاعها من الجذور، وهذا هو مقصدُ هايدغر من وراء قوله:
“أن نُكافح ضد الديكارتية اليوم، يعني أن يقطع المرءُ رأسه”.
بهذا الإقتلاع والحرث يغرسُ هايدغر البذور لشجرة جديدة، لفكر جديد، تكون تُربته مفهوم “الوجود” {Sein} الذي فيه يتجذرُ الفكر ليُبدع مفاهيم جديدة تفهمُ واقع مُشكلات الحاضر وأصلها، وهذا ما سوف يتضحُ في فلسفة هايدغر فيما بعد في تناوله لموضوع التكنولوجيا.
في نفس العام يلقي هايدغر محاضرة “مفهوم الزمان” (The concept of time), يُتابع فيها هايدغر الحديث حول “تجذر” {bodenständig} المفاهيم، لكن يأخذ هذا المصطلح بُعداً آخر، فإذا كان المفهوم هو الهادي إلى ما يجب فهمهُ من السؤال الأساسي، فإن هايدغر يحيلُ السؤال إلى السائل نفسه، هذا السائل الذي هو ما يسميه هايدغر “الدازاين” {Da-Sein}, إن التجذر هنا لم يعد مُجرد صفة لغوية في نقاش أصل وتاريخ المفاهيم، بل يُصبح ذو واقعٍ أنطولوجي مُرتبط بكيان الإنسان الكُلي وبكيفية وجوده، ولهذا فإن “الدازاين” تعني بترجمتها الحرفية “الوجود- هناك” فهو بهذه الطريقة يُجذر العلاقة بين الإنسان والوجود، الدازاين في الحقيقة هو “إنفتاح” الوجود أو فُسحته {Lichtung} الذي من خلاله يكشف الوجود عن نفسه. إلا أن التركيز الأساسي لهايدغر في المحاضرة هو حول الزمان {Zeit}، الذي يسعى منه هايدغر إلى تجذيره في بنية الدازاين بإعتباره الأفق الذي ينفتح به الدازاين في الوجود، كون أن الدازاين بطبيعته هو “مُتزّمن” {Zeitlichkeit} أو بعبارة أفضل “مؤقت”، بحيث أن الزمان خارجاً عنه كوحدة قياس بل هو متأصل في الدازاين بشكل أنطولوجي.
إن ما يسعى إليه هايدغر بعد هذا هو التمهيد لمؤلفه الرئيسي “الوجود والزمان” {Sein und Zeit}, الذي سيُبصر النور عام 1927. بهذا يكون هايدغر قد أتم الغرس في التُربة.
• رسوخُ الجذور:
قد تبدو إلى الآن محاولتنا هي مجرد تقصي لتاريخ إستعمال المصطلح وسياقاته بشكل متسلسل، ونسأل ما الفائدة؟ ماذا يعني تجذر الإنسان في الوجود؟ كيف يبدو العالم من خلال هذا التجذر؟ كيف تكون علاقتنا معه؟ وفي المقابل، كيف يبدو في إجتثاثه؟ ما الرابط بين ما كتبناه حتى الآن وبين المقدمة التي بدأنا فيها المقال التي تتحدث حول المسكن والعصر التقني؟…. إننا سرعان ما نسأل مثل هكذا أسئلة مُتناسين أن الجذور لكي ترسخ والزرع لكي يُثمر فهو بحاجة إلى الصبر والعناية، وهذا هو مقصد الفكر المُتأمل. لقد سبق وأن وجّه لهايدغر إتهام بأن فلسفته لا تعني الإنسان وحياته وأنها غارقة في التجريد حول الوجود مُتناسية الوجود البشري، إلا أن مثل هذا الإتهام لا ينبعُ سوى من فكر مجتثٌ من تُربته، وناتج عن سوء فهم. ذلك أن مركزية السؤال الهايدغري حول الوجود تتمحور في صُلبها حول الإنسان {Da-sein}, بإعتباره إنفتاحه، وأن الإنسان يكون فقط إذا ما أدرك نفسه على ضوء الوجود بما هو كذلك.
“الوجود والزمان؛ محاولة غير كاملة من أجل سّبر زمانية الدازاين لإعادة طرح سؤال الوجود للمرة الأولى منذ عهد بارميندس”.
بهذه المقولة يصفُ هايدغر مؤلفه الرئيسي؛ “زمانية الدازاين” هو الهدف المُراد الذي يسعى هايدغر إليه، ماذا تعني هذه “الزمانية” {Zeitlichkeit}؟ سبق أن عبرنا عنها بـ “الوقت” أي بأن الدازاين يوجود بشكل مؤقت، لكن ما نسعى إليه هنا هو تبيان واقعية هذا التزّمن وانعكساته على حياة الإنسان لتأسيس نظرة أكثر أصالة للعالم وعلاقته مع الأشياء. والآن نطرحُ السؤال من جديد ماذا تعني زمانية الدازاين هنا؟ إن القول بزمانية الدازاين هو القول بحدّه، وهذا الحدّ هو “موته”، ولهذا يصفُ هايدغر الدازاين بأنه [وجودٌ نحو الموت]. إننا عادةً ما نقابل الموت بإمكانية “الحياة”، وذلك أن ما يُعطي لهذه الإمكانية معنى هو حدُّها، وعلى هذا الأساس يقومُ التأويل الفينومولوجي للحياة عند هايدغر. كان إعادة تعريف مفهوم الحياة مُلحٌ في ذاك الوقت نتيجة إبهامه، ذلك بسبب ما أسماه هوسرل (Husseral) “أزمة العلوم الحديثة”، حيث فقدت الحياة تجربتها المُعاشة ومعناها في ظّل موضعتها أمام العلوم. بينما يعيد هوسرل تأويل الحياة على أساس الفينمولوجيا بإعتبارها تجربة مُعاشة تكشفُ عن نفسها للوعي البشري ما قبل التنظير العلمي، يأخذ هايدغر تأويله للحياة على أساس الفينمولوجيا ويضعها في مدار سؤال الوجود، لتكون الحياة بمعناها الوجودي “ماذا يعني أن نكون؟”؛ ولذلك يعود هايدغر وفقاً لمبدأ تجذر المفاهيم بالفينمولوجيا إلى أرسطو ليرسخها ضمن الأنطولوجيا.
“زمانية الدازاين”، هذا هو الهدف الذي وضعناه أمام أعيننا، ربما أوضحنا حتى الآن الزمانية وما تفضي إليه لمفهوم الحياة، إلا أننا ما زلنا نواجه غموضاً وشيء من عدم الرضا. علينا أن لا تغفل بأن الزمانية هي دائماً زمانية “الدازاين” {Da-Sein}، ماذا نسمعُ هنا؟ “الوجود” {Sein}, هذا شيء يجب أن لا نغفل عنه، ولهذا فإن عنوان الكتاب “الوجود و الزمان” فإن الواو هنا هي بمثابة واو العطف التي تقرنُ الكلمتين ببعضهما البعض، وربما سيساعدنا إذا أمكننا مزجهما في كلمة واحدة مثل “زمكان” في الفيزياء، وهذا أمرٌ يفعله هايدغر لاحقاً عندما صياغته لمفهوم “الحدث” {Ereignis}. إذاً وبإختصار ترّد زمانية الدازاين إلى “حياته”، فإن وجوده يردّه إلى “عالمه”، ولهذا أيضاً يقولُ هايدغر عن الدازاين بأنهُ [وجودٌ في العالم]. إن “الحياة” و “العالم” هما وحدة ضمنية، عندما نقول “حياة” فإننا لا نصل إلى تعريفٍ كافٍ من خلالها، ولكن الفعل المُشتق من الكلمة ربما يهدينا أكثر؛ نحنُ نقول “أن نحيا” أو “أن نعيش” أو نقولها بصيغة الأمر “عِش”، نقولُ مثلاً “عشتُ تجربة جميلة” أو “عشتُ تجربة مريرة”، إننا الحياة نرّدها عادة إلى التجربة، إلى تجربة مُعاشة نتلقاها عبر أحاسيسنا ومشاعرنا، وهذا ما نسميه “الوجدان”. لهذا عندما نقول “الحياة” نحنُ لا نقصد التعريف البيولوجي السخيف لها ومردها إلى المادة، على نفس المنوال نتحدث عن مفهوم “العالم”، إن الحياة هي عيشٌ بالقرب من…، مع… ، وداخل…، نعيشُ في العالم، كما أن الحياة ليست بشيء مادي كما أوضحنا، نفس الشيء بالنسبة للعالم، نحنُ نقول مثلاً “عالم الخيال وعالم الواقع”، أو نقول “عالم الفرح وعالم الحزن”، نقول “عالم السياسة” أو “عالم الرياضة”… إننا نستخدم مفردة العالم في الكثير من السياقات، نعتقدُ بأن العالم واحد ذلك لأننا عادة ما نرّده إلى مجموع الأشياء، ولكن إذا ما تأملنا نحنُ نرى بأن العالم هو بمثابة السياق الذي يظهر ضمن أفق زمن مُعين. نقول “عالم الفراعنة”، “عالم الإغريق”، “العالم الإسلامي”… لا يمكننا أن نقول بأن سكان دولة اليونان أو مصر يعيشون في نفس عالم الإغريق أو الفراعنة ذلك سيكون السُذج، مع أنهم يعيشون في نفس البقعة الجغرافية، هُنا نفهمُ بشكل أعمق أن العالم ليس بمجال جغرافي وأنه ليس بمجموع للأشياء.
إن التجذر {Bodenständigkeit} الذي يهدفُ إليه في “الوجود والزمان” هو تجذر الدازاين في تجربة الحياة والموت والعالم التي يختبرها في حياته اليومية، وهذا هو المقصد من وصفه الدازاين بأنه “وجودٌ في العالم” أي أنهُ وبمعنى آخر مُترسخٌ داخل العالم. لهذا فإن الفينمولوجيا بالنسبة لهايدغر ليس كما عند هوسرل بإعتبارها طريقة تأويل ظواهر الحياة كتجرية مُعاشة بالنسبة لبُنية الوعي الإنساني، بل إن هايدغر عبر تجذيره للدازاين يذهبُ بقوله إن الوعي الإنساني والوجود واحد – في إستحضارٍ لوحدة الفكر والوجود عند بارميندس – {φαινόμενα} أي “الفينومن” تعني بالإغريقية: “الشيء الذي يُظهر نفسه”، الفعل {φαίνω} يعني “جلب شيء إلى مجال الضوء” ذلك ان الجذر {φα} يشتركُ مع كلمة {φῶς} أي “الضوء”, إن ما يُجلب إلى مجال يُصبح ظاهراً بفضله، إن الضوء يُظهر وهو ليس بظاهر، لا يمكن رؤية الضوء بل فقظ ما يظهر في مجاله، وهذا هو جوهر الفرق الأنطولوجي بين الوجود والموجدات أو بين الكينونة والكائن، إن الفينمولوجيا تكون مفهومة على هذا الأساس إمكانية الدازاين على “أن يكون” ليس بوصفه كموجودٍ بين الموجودات بل ما يسمحُ بإنفتحاه بأن توجد هذه الموجودات ضمن أفق زمني وفي عالم. لهذا يصفُ هايدغر الدازاين بكلمة {Lichtung} والتي تُستخدم في الألمانية لدلالة على فُسحة بين أشجار الغابة يدخل منها الضوء، فإن كلمة {Licht} تعني “الضوء”.
• الإنبثاق:
نفهمُ الآن العالم كأفق كالضوء، المجالُ التي تظهرُ فيه الأشياء، وهو ما كان يدعونه الإغريق “الطبيعة” {φύσις}, لكن ما الكيفية التي تظهر بها الأشياء؟ إن العالم هو كالسياق، التي منها تكتسبُ الكلمات ضمن الجملة معناها، ليس العالم بمجموع الكلمات ولا الأحرف كما أنه ليس الجملة ذاتها، إنما السياق (context) الذي فيه يكون للجملة معنى أي يكون للجملة وجودٌ أصلاً. إذاً تظهرُ الأشياء ونقابلها ضمن سياق مُحدد، لقد رسُخَ في ذهننا ومنذ قرون أن العالم هو دلالة على كُلية الأشياء بحيثُ وبما أن الشيء يكون عبارة عن مادة فإن العالم هو مادي بطبيعته، هذا الترسيخ الذي ساهم به “ديكارت”، ولكن كما ذكرنا سابقاً “أن نكافح اليوم ضد الديكارتية يعني أن يقطع المرء رأسه”، وهذا بالظبط ما يجب فعله، علينا أن نُفكر بلا رؤوس. يقيمُ “الكوجيتو” الديكارتي تعارضًا بيني كذات وبين العالم، يكون العالم على هذا الأساس هو موضوع لإدراكي، إن الشيء لا يظهر لي إلا كموضوع يمكنني أن إصدار أحكامٍ تجاهه، وهذا هو جوهر التفكير العلمي، إن الإنسان في هذا الفكر لا يكون إلا في مقابل العالم وليس فيه. لكن بالنسبة لنا إن هذه الطريقة التي تقابلنا بها الأشياء ليست أصيلة، نحن لا نقابل الأشياء في حياتنا اليومية كموضوعات جاهزة للتصنيف والحُكم. كيف نقابلها؟ يجاوب هايدغر في “الوجود والزمان” بما يسميه “جاهزة لليّد” {Zuhandenheit}, أي أنها “جاهزة للإستعمال”. إن إستعمالية الشيء تظهر ضمن سياق العالم الذي يوجد فيه وهو ما يطلق عليه هايدغر {Bewandtnisganzheit}, يظهرُ الحديد مثلاً في عالم المهندس كأداة للبناء، بينما يظهر في عالم الطبخ كأداة للقطع، وفي عالم الحرب كأداة للقتل؛ إن ماهية الشيء لا تُعرف عبر عزله وتصنيفه وإطلاق أحكام عليه كموضوع، بل عبر سياقه الذي يأخذ منه ماهيته، فالمسمار لا يكتسبُ ماهيته إلا عبر وجوده ضمن سياق عالم النجارة وفي إستعماله لتثبيت الأخشاب. لذلك سمى الأغريق الماهية {οὐσία} أي أنها “حضور ظاهر”، لهذا فإن العلل الأربع عند أرسطو التي تحدد ماهية الشيء ليست علل بمعنى أسباب، بل هي العلل الأربع هي بمثابة “الدَّين” التي تدين بعضها لبعض من أجل ظهور الشيء وجعله حاضراً، أن يكون حاضراً في العالم.
أن يكون الشيء حاضراً في العالم يعني أن يكون ضمن سياقه، وبهذا يكون الشيء حاضراً فقط كشيء له معنى ضمن سياق إستعماله، نقابل الأشياء بشكل أولي كأشياء “جاهزة لليّد” أي “للإستعمال”، عندما أذهب إلى قاعة في الجامعة للجلوس على مقعد لا أرى المقعد وأفكر فيه كموضوع للوصف والتصنيف بل أراه كشيء للجلوس عليه أي بما هو جاهز للإستعمال، في إنفلات الشيء من إستعملايته يظهر الشيء كموضوعٍ “حاضرٍ لليّد” {Vorhandenheit}, لكن هذا الظهور هو دوماً شيء ثانوي أمام كيفية العالم ما قبل-موضوعية، فعند إنفلات الشيء من كونه لليّد نستطيع أن نصدر أحكاماً حوله مثل القول بأن المقعد الذي كنت أريد الجلوس عليه “يهتز” أو السكين “لا تقطع”، لكن ما نحاول قوله هنا هو أن المقعد أو السكين ليسوا صالحين للإستعمال، ذلك أن كون الشيء “حاضر لليّد” هو إغترابٌ عن الكيفية الأولية لظهوره أي بكونه “جاهزٌ لليّد”، لذلك عند إصدارنا حُكماً حول موضوع فهو محاولة لردّه إلى أُلفته ما قبل موضوعية. يُطرحُ هنا سؤالين أمامنا:
١- أليس إنسحاب الشيء وجعله يصبح حاضراً لليّد يعني يجعله موضوعاً أمامنا كما في النظرة الديكارتية؟
٢- أليس تأويل هايدغر للأشياء على أنها جاهزة للإستعمال يدلُ على نظرة براغماتية التي هي أساس التكنولوجيا التي ينتقدها؟
– أولاً، إن كون الشيء حاضرٌ لليّد صحيح أنهُ يجعلهُ موضوعاً أمامنا لكن هذه الموضوعية ليست سوى أمر ثانوي، وإن تركيز هايدغر على هذا الأمر هو لكي لا نقع في فخ الديكارتية، ذلك أن ما يسعى إليه هايدغر في جعل الشيء حاضراً لليّد هو الرجوع إلى السؤال الأساسي وهو الوجود، وذلك ما تناسته الفلسفة الديكارتية حيثُ جعلت كون الشيء حاضراً كموضوع هو أمر أولي، بالتالي صبّت تفكيرها على الموجود.
– ثانياً، إن القول بأن الأشياء تظهر بشكل أولي بكونها جاهزة للإستعمال لا تعني بأنها الكيفية الأصلية لظهورها، إن هايدغر لا يقول بأن كون الأشياء جاهزة لليّد هي الطريقة الوحيدة التي نقابل بها الأشياء في العالم، إلا أنها أولية لأنها بكونها كذلك تفتحُ سياقية للعالم ليكون الدازاين فيه، إلا أن التركيز الذي يهدفُ إليه هايدغر هو الشّعرة التي تقوم ما بين كون الأشياء جاهزة لليّد و حاضرةٍ لها، للسؤال حول ذلك الشيء الذي يظهرُ للبصر كلمحة في إنسحاب الشيء من جهوزيته لليّد، وأخذه على محمل التأمل.
إنه الوجود لا غيره، ذلك بأنه لا يجب أن نغفل أنه السؤال الأساسي المنصوب أمام أعيننا، ويغدو السؤال الآن، كيف نهتدي إلى الوجود من خلال الأشياء مفهومة على هذا النحو؟ إن ما نسعى إليه في التأويل الفينومولوجي للحياة والأشياء ليس الاشياء كما هي، بل هو كما أوضحنا مُسبقاً هو “العالم” الذي يعطي للأشياء إمكانية الظهور داخله ضمن دلالة. لقد سبق أن وصفنا العالم بأنه أفق كالضوء وعلى ضوئه تظهر الأشياء، إلا أننا عادةً لا ننتبه إلى ضوء، ذلك أن الضوء لا يُرى بذاته إنما بما يُظهره، إن ما يُظهره هو كما قلنا سابقاً هي الأشياء ضمن سياق الإستعمال، أي ضمن أفقه، في إنسحاب الأشياء من هذا السياق عند خللٍ أو عطلٍ ما يظهرُ الشيء كموضوعٍ ويبرز، إن الإنسحاب الذي يحدثُ للأشياء يمنعها من الغرق في الإستعمال الوظيفي، في إنسحابها تقاوم غيابها التام الذي يحدث في الإستعمال، وهُنا يكمنُ مربض الفرس لهايدغر، فهُنا فرصتنا لرؤية الضوء، إلا أنه سرعان ما يتجه تفكيرنا مرة أخرى للشيء كموضوع مُتناسين ذاك الضوء الذي على ضوئه يظهر الشيء كموضوع، وذلك لأن ما يشغلنا دائماً هو كيفية إعادة الشيء إلى سياق الإستعمال الوظيفي. لذلك عندما نغفلُ عن رؤية الضوء، يستعصي علينا معرفة ما هو الشيء، ولهذا إن الشيء عند ديكارت هو مُختزل كمادة أي إلى شيء ممتد (res extensa) ولهذا يصبح الوجود (existentia) محصورٌ ضمن إطار إمتداد المادي ويكون مجموع الأشياء، وبذلك يخسرُ العالم مفهومه ومعه الحياة، وبهذا يُمكن للمعرفة العلمية أن تجد سبيلاً لها لكي تترجم فيما بعد من خلال التقنية التي تشكل ذروة الإستعمال الوظيفي، والتي في ظل عالمها يغيبُ أي منفذٍ يسمحُ للضوء بالعبور، بالتالي يتمُ إجتثاث {Bodenlosigkeit} الإنسان من الوجود. “ما هو الشيء؟”؛ نسأل كما سأل رجلٌ اعتبرته آلهة معبد “ديلفي” بأنه أحكم رجال عصره، وهو سقراط، الذي ما انفك يسألُ هذا السؤال، تروي القصة بأنه ذات يوم كان هناك سفسطائي عائد من درسٍ له ورأى سقراط واقف مثل عادته يسأل الناس، فقال له: “أما زلت تقول الشيء نفسه حول الشيء نفسه؟”؛ فردَّ عليه سقراط: “نعم، على عكسك فأنت لا تقول أبداً الشيء نفسه عن الشيء نفسه”. إنهُ سؤال قديمٌ قدم الفلسفة يتركنا دوماً في حيرة من أمرنا، لم يكن سقراط في سؤاله عن الشيء يوجه نظر الناس إلى الشيء كموضوع، مثلاً عندما يسأل الإسكافي “ما الحذاء”؟ فهو يعلم ما الحذاء، وهو يعلم بأن سؤال الإسكافي سيكون “الحذاء هو شيء لإنتعاله في رجلك”، أو عندما نسأل نجاراً “ما الخشب؟”، سيجاوبنا بأن الخشب هو لصناعة الطاولة أو الكرسي، أو ربما سيقول بأنه شيء صلبٌ له طول وعرض ممتد في حيز مكاني مُعين، الجواب الأول هو الخشب كشيء له دلالة ضمن سياق الإستعمال وهو جواب بديهي والثاني سيكون إذا جواباً عن الخشب كشيء مُجرد وهو الجواب الديكارتي للشيء كموضوع، إلا أننا سؤال ما الشيء يظلُ يُلاحقنا ذلك أن هذه الأجوبة لم تروي ظمأنا، ذلك أن سقراط كان يُدرك هذه الأجوبة قبل سؤاله، إلا أن ما كان يرنو إليه في سؤاله عن الشيء هو بالظبط ما نحاول الوصول إليه لحدّ الآن مع هايدغر، إنه الوجود/العالم/ ذاك الضوء الذي يومضُ في الإنسحاب الذي تتسمُ بها الأشياء، ذلك الضوء الذي على إثره تظهر ويجعلها “تكون!”، هذا هو بالظبط ما أثار دهشة الإغريق القدماء، ولهذا يضعُ أرسطو الدهشة كأساس للتفلسف، ذلك أنه حقاً شيء مثير للدهشة كيف أن ما هو أكثر بداهةً وظاهرٌ بنفسه هو في نفسُ الوقت ما يحجبُ نفسه ويتوارى، وهو ما دفع هيراقليطس للتساؤل بتعجب في إحدى شذراته: “كيف يتسنى للمرء أن يحجب نفسه عن ذاك الذي لا يغيب أبداً؟!”، ما هو الشيء الذي يقول لي “رَ” ولكنهُ هو نفسهُ لا يُرى. كانت دهشة الإغريق نابعة من هذا التأمل في الطبيعة، في البُعد المفتوح للسماء في أفق الأرض ورهبة البحر، في شروق الشمس ومغيبها في ضوء النهار وعتمة الليل… تلك الطبيعة التي سموها “فيسيس” {φύσις}، تلك الطبيعة التي يقول عنها هيراقليطس بأنها تُحب أن تحتجب، وهذا هو بالظبط ما نسميه الوجود، ذلك البُعد المُحتجب إلا انه في إحتجابه هو الأكثر إشراقاً ونوراً، فالضوء لا يُرى بذاته إنما بما يُظهره، فالضوء ببداهته يحجبُ نفسهُ، إلا أن إنسحابهُ هذا هو ما يُفسحُ المجال للعالم كي يظهر، فالمرء إذا أطال النظر إلى الشمس عميت عينهُ عم رؤية ما يقعُ في مجال نورها، إن الوجود كإنسحاب يسحبُ ذاته دوماً إلى الخفاء، هذه العلاقة بين الظهور والخفاء، بين الكشف والحجب، هي بالظبط ما سموها الإغريق “الحقيقة” {άλήθεια} التي تعني حرفياً “اللا-خفاء”.
• التفتُح:
رسخت الجذور واشتد عودُ الزهرة التي غرسناها في التُراب، في أرض الوجود، وآن آوان تفتُحها. مسكنا الخيط الهادي حتى الآن، إلا أننا نسألُ عن كيف يمكننا تجربة الأشياء والعالم بطريقة أصيلة؟ أي كيف يمكننا جعل الأشياء تُظهر لنا الوجود دون أن يقع في النسيان؟
في تجربتنا للعالم ضمن الحياة اليومية نغرقُ ضمن سياق الإمكانيات المتعددة للأشياء، وذلك أن الحياة تفرضُ علينا هذا الأمر بسبب شبكتها المعقدة من العلاقات الوظيفية والإجتماعية والخدماتية وغيرها، وهذا أمرٌ قد تفاقم أكثر فأكثر في العصر الحديث مع تزايد تعقيدات وتكاليف الحياة، إننا في هذه الحال لا نخلدُ للسكينة أبداً، وهذا ما يسمية هايدغر “الوجود الزائف” {uneigentliche Sein}، حيثُ لا يُمكن للإنسان نفسه، ويكون دائماً عُرضة للذوبان داخل “الهُم” {Das Man} أو “الآخرين” في إطار ما يسميه “اللغو” أو “الثرثرة”؛ بهذا لا يُمكن للإنسان تجربة وجوده الأصيل {eigentliches Sein}. كيف يُمكن للإنسان أن يختبر وجوده الأصيل؟ لقد سبق أن عرفنا الدازاين في محاولة سبرنا لزمانيته بأنه “وجودٌ نحو الموت”، إن الموت يُشكل الإمكانية القصوى للإنسان ذلك بأنه يُهدد جميع إمكانيات الحياة اليومية الأخرى بجعلها غير ممكنة، بذلك نستجمعُ أنفسنا من التشتت. إن العزم على تقبل الموت يجعلنا نعيشُ يطريقة أصيلة ونختبر بها الوجود كما هو، الموت يسحبُ منا العالم من حولنا، ويسحبُ الأشياء من يدنا، تفقد الأشياء سمتها الإستعمالية، كما تفقدُ سمتها الموضوعية لأنه عند لحظة الموت تفقد الأشياء قيمتها على هذا النحو، إن الموت ينتمي إلى كل لحظة آنية فهو لا يمكن التنبؤ به، بذلك فهو يقعُ خارج دائرة نفوذنا أي لا يمكننا أن نموضعهُ. في العزم على الوجود الأصيل تظهرُ الأشياء كفائض، إن تجربة الموت التي تسحبُ منا العالم والأشياء، تمنحنا إياها على شكل آخر، في جعلها فائضاً، في جعلها تظهر بكيفية زائدة، هذه الزيادة هي منبعُ الفن الجميل.
“منبع الأثر الفني” {Der Ursprung des Kunstwerkes} هي إحدى أهم محاضرات هايدغر، وفيها مفتاح الباب إلى كيفية ظهور الأشياء الفائضة، أي الأشياء في ظل بزوغ الوجود. إن المرور ضمن هذا العمل ضروري من أجل إكتمال الصورة ورسوخ الجذر، لتمهيد الطريق نحو التفتح الذي فيه نفهمُ ما مقدمتنا التي بدأنا بها لفهم إقتلاع الجذور الذي يهدد بفقدان الموطن وسكن الإنسان على الأرض.
ينبعُ الأثر فني ويكون نظراً لإرتباطه بالوجود، إن أول منبع للأثر الفني هو كما سميناه سابقاً “الطبيعة” {φύσις}، ففيها يبرزُ اللون في جلاء السماء وبديع الشجر وثماره، ويُسمع الصوت في خرير المياه وتلاطم الموج، أو حفيف الشجر، فيها يبرزُ الضوء ويلمع نهاراً ويغيبُ ويخفتُ ليلاً، وفيها يُصبحُ المجال والأفق اللامرئي للهواء مرئياً في رسوخ الجبال وشهاقة قممها، والطبيعة هي كما اوضحنا هي البُعد المنسحب الذي في إحتجابها تمنح الظهور، كالضوء؛ وإنه ليس من الصدفة إشتراك كلمة الطبيعة مع نفس جذر كلمة الضوء {φῶς}, فالطبيعة هي مجال حدوث “الحقيقة” {άλήθεια} أي كـ “اللا-تحجب”. من هنا فإن “الفن” {τέχνη} هو كيفية لحدوث الحقيقة، لكن كيف؟ إن الفن هو ليس كما هو مفهوم ضمن مجاله الضيق اليوم كرسم لوحة أو عزف آلة موسيقية، إن الفن يعني “الصنعة والإنتاج”، نقول مثلاً فن الحرفة اليدوية كالنجارة والحدادة والخياطة، أو نقول فن العمارة، إن الفن هو إنتاج وصُنع الأشياء، أي إخراجها وجلبها إلى مجال النور أي الوجود، وهذا هو المفهوم الجوهري للخلق بالمعنى الديني. ولهذا إن “الفن” بالكلمة الإغريقية هي لفظ “téchne” الذي منه يُشتق الكلمة المُستعربة “تقنية”. الآن نقفُ بحيرة، كيف يكون الفن والتقنية، هو الشيء نفسهُ؟ ألم نقل بأن الفن هو كيفية ظهور مُغايرة للأشياء في سياقها الوظيفي؟ صحيح، إن الفن والتقنية هما الشيء نفسهُ بأنهم كلاهما يشتركان بأنهم إخراج وجلب الشيء إلى مجال الضوء، ولكن الفرق يكمنُ في كيفية هذا الإخراج. إن الشيء في الطابع التقني هو دائماً شيء للإستعمال الأداتي، في هذا الإستعمال لا يبرزُ الشيء بما هو بذاته، ويحجبُ أي إمكانية لحدوث الحقيقة فيه، فالحديد في نصلُ السكين لا يبرزُ إلا كأداة للقطع، الحجرُ في إستعماله كأداة لمقياس الوزن يرتدُ ويختفي كحجر، اللون في تحليله كموجات ضوئية ذو قياس رياضي يخفتُ عن اللمعان، الصوتُ في تجزيئه إلى موجات صوتية يفقدُ رنينه، إن أي محاولة لسبّر غور الشيء بالكيفية العلمية والتقنية تبوء بالفشل، ذلك أن الحقيقة مفهومةً كـ “اللا-خفاء” تمتنعُ عن تسليم نفسها في محاولة انتزاعها بالقوة. أما في الفن إن الشيء يبرزُ كما هو ذلك أن الفن يتركُ الشيء على سجيتهُ إنما يعيدُ إنتاجه لجعله يبرزُ مرة أخرى، فاللون يبرزُ في لوحة الفنان ويلمعُ، والصوتُ يُسمع ويرن في جرس المعبد أو في آلة موسيقية، الحجرُ يبرزُ بثقله ويخرجُ من عتمة الأرض عند نحته بإزميل نحات. إن الحقيقة التي تضعُ نفسها في الأثر الفني تحدثُ بما يسميه هايدغر “إنتاج الأرض” {das Herstellen der Erde}، إن الأرض ليست ذلك الشيء الصلب الذي نقفُ عليه بأقدامنا، بل هي تُشكل المنبع الأساسي للمادة الأولى التي منها يتمُ إنتاج الفن وإنتاج الأداة على حدٍ سواء، يصفُ هايدغر الأرض بأنها “الحاضن” {das Bergen}, ماذا يعني بأنها الخاضن؟ يعني ما يقول لنا الفعل {verbergen} أي “أخفى”، ماذا تحتضن الأرض؟ إنها تحتضن “الحقيقة”، بحيثُ أنها تمنعُ أي محاولة لإنتزاع الحقيقة بالقوة، كما يحدثُ في التقنية الأداتية، ذلك أن الأرض كحاضن تصون وتحمي وتحافظ على ما تحتضنه، مثلما تحكي الاُم إبنها في حضنها، ولهذا فإن الألسن الشعوب القديمة تصفُ الأرض بالأُم مثل قولنا “الوطن الأم” (motherland)، أو “الطبيعة الأم”، في صونها هذا تسمحُ للحقيقة للبروز، ذلك أن الحقيقة لا تبرزُ إلا في خفائها، مثلما أن الشجرة لا تنبتُ وتظهر فوق الأرض إلا إذا رسخت جذورها تحتها.
نبدأ الآن نفهمُ أكثر فأكثر مفهوم الأرض والتراب والتجذر {Bodenständigkeit} في كتابات هايدغر الأخيرة، وكيف يأخذ المفهوم بُعداً واقعياً أكثر وأكثر. نفهمُ الآن الأرض كحاضن يخفي أي يحمي ويحفظ الحقيقة كما أوضحناها بأنها “لا-خفاء”، الأرض هي المجال المخفي والمُحتجب، ولكن أين تكون “اللا-“؟ أي أين يكون الظهور والكشف؟ إنهُ في البُعد المُقابل للأرض، وهو ما نسميه “السماء”، السماء المجال المفتوح للعالم، الذي يسمحُ للحقيقة بالبروز بشكل حُر. ترتسمُ العلاقة بين السماء والأرض كجلاء للحقيقة التي تحدث بفضل عزم الدازاين على تقبل الموت، نُقابل البُعد المنغلق للأرض بالبُعد المفتوح للسماء، بماذا نُقابل الدازاين الفاني؟ بذلك الذي لا يفنى، الخالدون/الآلهة؛ وهُنا كمال مفهوم العالم عند هايدغر، إن العالم هو ما يسميه هايدغر “الرُباعي” {das Geviert}: “الأرض/السماء/الفانين/الآلهة”. في الرُباعي تحدث الحقيقة، في الإنسحاب نحو البُعد المنغلق للأرض الذي يُمكن العالم من البزوغ نحو المجال المفتوح للسماء، إن العالم هو دائم عالم الفانين أولئك الذي يسكنون الأرض، في عزمهم وإرادتهم على مواجهة ماهيتهم كفانين يفسحون المجال أمام الإلهيين للحضور من أجل حدوث العالم. في الشيء كأثر فني يحدث العالم وينفتح أمام الفانين بفضل إستجلاب “المُقدس” {das heilige} إليه، يستعملُ هايدغر مثال المعبد كأثر فاني لإبراز كيف يحدث ذلك أن المعبد هو دوماً رمزٌ للمقدس عبر التاريخ، إن المعبد دائماً ما كان الأثر الأكبر الذي يكون مركز الحضارات والشعوب الكبرى التي رسمت مجرى التاريخ، إن مصر الفرعونية ليست يقعة جغرافية يتمُ تحديدها بخطوط الطول ودوائر العرض وعبر رقم زمني نسميه السنوات أو العقود أو القرون، بل إن الفراعنة هم الأهرامات هم ذلك الأثر الفني المُقدس الذي لا يزالُ يقفُ منتصباً في صحراء مصر إلى الآن، ويقول لنا هنا كان بشر وحضارة هنا عاشوا وماتوا. إن المعبد كأثر فني يصبح أثراً بفضل حضور الإلهي {das Göttliche} فيه، وبفعل حضوره يفتحُ للشعب الذي شيّد الأثر عالماً تاريخي على الأرض في ظله يسكن ويعيش، يفكر وينتج، في إنسحاب الإلهي الذي هو ليس شيء سوى الحقيقة، ينسحب ويختفي تاريخ هذا الشعب، لذلك نرى بأن شعوباً وحضارات اختفت من مسرح التاريخ، يبقى الأثر الفني منتصباً عبر الزمن، نقفُ أمامها بدهشةٍ ورهبة إزاء هيبتها، تلك الهيبة المُستمدة من إنسحاب الآلهة الذي سحب وجود شعباً بأكمله من الحضور. إن الفن الذي عادةً ما نُقرنه بالجمال هو جميلٌ لأنهُ يحملُ الحقيقة ويبرزها، إن الجمال جميلٌ لأنهُ تجلي الجلال.
إن المعرضين للموت، يسعُهم تجربة العالم كرُباعي بطريقة أصيلة، ذلك أنهم يفهمون وجودهم في العالم بأنه أمر عجيب، يحيث يدركون أعجوبة فسح الطريق للبعد المفتوح للعالم بأنه هدية أو هبّة {die Gabe}، هبةٌ تلقائية، ولكن إن هذه الهبة أي هبة الوجود لكي تُمنح يتوارى مانحها ويغيب، ذلك لكي يتقبل الفانون الهبّة دون حرج، أوليس هذا هو ما قلناه عن الكيفية التي يظهر فيها الوجود من خلال إنسحابه؟ إن مانح الهبة يظلُ غائباً ذلك لكي نبقى متقبلين لهذه الهبة، لا يجب أن نفهم الهبة هنا كشيء يعطى بحيثُ يصبح مانحها لا علاقة له بها، بل هي بمعنى أدق “أمانة” {Treue}، تُحفظُ وتصون حتى يأتي مؤتمنها لكي يأخذها، لماذا يأخذها؟ لأنه الأمانة هي دائماً شيء مؤقت، وهذا بالظبط لماذا نحنُ فانون، إلا أنه في فنائنا فقط نستطيعُ تقبل هذه الأمانة التي نسميها الحياة.
• الثمرة:
أن نفهم الحياة كأمانة يعني أن نعيش لنحفظ ونصونَ هذه الأمانة، ذلك أن الأمانة تكون في مأمن المؤتمَن عليها. كيف تُصان هذه الأمانة؟ نفهمُ الآن عنوان كلمة هايدغر التي ألقاها في مسقط رأسه – والتي بها بدأنا مقدمتنا – “السكينة” {Gelassenheit}، الآن علينا أن نسمع إلى ما تقوله لنا اللغة، تعني السكينة “العيش مُطمئناً” أي “أن أعيش في أمن وأمان”، ومن السكينة أيضاً “السكون” أي “الهدوء والإستقرار”، إنهم كيفيات للعيش، لكن الكلمة أذا ما أصغينا إليها جيداً تقول لنا كيف نعيشهم، في “السكن”!
“السكن” أن “نسكن” مكان ما، مثلاً في البيت، في المدينة، في القرية… إن السكن هو كيفية عيشنا كفانين على الأرض، أن نسكن في العالم يعني أن نقيم مع وبجوار الأشياء. والآن نعيد طرح سؤال هايدغر الذي ذكرناه في المُقدمة: “هل ما زال بإمكاننا أن نتحدث عن مكان آمن للإنسان بين الأرض السماء؟!”
نفهمُ الآن معنى “مكان آمن” أي “مسكن”، إن السؤال ليس سؤال إستفهامياً، بل هو ينمُ عن تنبيه عن خطرٍ يهدد مسكننا، إن هذا الخطر يتمثلُ كما يُعبر عنه هايدغر في “روح العصر الذي أوجدنا في تاريخ ميلادنا”، الذي هو العصر التقني.
إن الخطر الذي يتمثلُ في التقنية هو ليس خطورة ما أنتجته من أسلحة، ولا ما أنتجتهُ من مشاكل عالمية مثل الإحتباس الحراري أو ذوبان الجليد أو التلوث البيئي، إن هذه المشاكل هي ليست سوى نتائج لعدم فهمنا لماهية التقنية، لذلك فإن عادةً ما نواجه هذه المشاكل عبر ترقيعها أو محاولة تحسين حسابتنا مرة أخرى لتجنبها أو الحد منها. إن الخطر الذي يلوح في أفق العصر التقني هو تهديد الإنسان بأن لا يعيش تجربة الحياة داخل العالم بوصفها حدوث للحقيقة، ذلك أن التقنية تُمعن في غرق الأشياء أكثر وأكثر في الإستعمال الوظيفي بل حتى يدفعها أكثر إلى كونها أشياء للإستهلاك السريع، وبهذا نفقد حتى الشعور بأن هناك شيء كالإنسحاب يدفعنا إلى التفكير المتأمل.
“لقد بلغ التدهور الروحي للأرض حدًا بالغًا، حتى أن الأمم مُعرَّضة لخطر فقدان آخر ما تبقى من طاقتها الروحية التي تُمكّنها من رؤية هذا التدهور. هذه الملاحظة البسيطة لا علاقة لها بالتشاؤم الثقافي، ولا علاقة لها، بالطبع، بأي نوع من التفاؤل؛ فظلمة العالم، وهروب الآلهة، وتدمير الأرض، وتحول الإنسان إلى كتلة، وكراهية كل ما هو حر ومخلوق والشك فيه، قد اكتسبت أبعادًا هائلة في جميع أنحاء الأرض، لدرجة أن هذه التصنيفات الصبيانية من التشاؤم والتفاؤل أصبحت منذ زمن بعيد ضربًا من العبث”.
بهذا الإقتباس يوضحُ هايدغر جوهر الخطر التقني للعالم والإنسان، إن ماهية التقنية هي ما يسميه {Gestell} أي نوعٌ من “التأطر” بمعنى وضع جميع الموجودات والعالم وحتى الإنسان نفسه ضمن هذا الإطار. تنبعُ النظرة التقنية للعالم من أساس تناسي سؤال الوجود، إن الأشياء لا تغدو في نظرتها سوى موضوعاتٍ للحساب والإستهلاك، التقنية تنزعُ البُعد المقدس عن الأرض، وبذلك تغلق علينا تجربة العالم كرُباعي. إن الغابة في وجهة نظر التقنية لا تعدو عن كونها رصيداً من الخشب الذي يُستعمل للصناعة، إن الأرض بأسرها تغدو عبارةً عن مستودع كبيراً للموارد التي تُستهلك من أجل الطاقة، إن الإنسان نفسهُ يُختزل إلى مُجرد مورد للإستعمال، فلا يبقى للإنسان قيمة سوى بقدر ما يفيدُ الآلة الصناعية الكبرى المُسماة إقتصاد. في ظل هذه التقنية يخسرُ الإنسان ماهيته كساكنٍ للأرض، وهذا هو جوهر إقتلاع الجذور والإجتثاث {Bodenlosigkeit}.
إن ما يسعى إليه هايدغر خاصةً في محاضرته “البناء ،السكن، التفكير” التي ألقاها عام 1951, هو إعادة إرساخ ماهية السكن لفهم العلاقة بين الإنسان والمكان، خاصة في إطار أن هذه المحاضرة جائت ضمن حوار نتج بسبب أزمة السكن والدمار الهائل بعد الحرب العالمية الثانية. إننا لا نبني لكي نسكُن بل إنه ولأننا نسكن ولأن السكن هو ماهيتنا كفانين فإننا نبني، إن البناء والسكن ليس علاقة مثل الغاية والوسيلة. منذُ عهد “غاليليو” ونحنُ نتصور المكان كفراغٍ وأن الأشياء هي موضوعات تضاف إلى هذا الفراغ، تخضع للحساب الرياضي، كان هذا التصور هو منبع فيزياء نيوتن التي دفعت التقنية إلى حدها الأقصى في العصر الحالي، لذلك فإن التقنية تبقى أسيرة لنظرة غير أصيلة للمكان، وهذا التصور أيضاً كان نظرة فلسفة ديكارت، يقومُ على هذا التصور دوماً بأننا موجودون في فضاءٍ سحيقٍ فارغ تكون فيه التباعدات والإقترابات من الأشياء هي مجرد قياسات مسافية بينها، يعيشُ الإنسان بناءً على هذا التصور حالة من الإغتراب، هذا ما نلحظه في السكن في العصر الحالي، لا تعدو البيوت والمكان من حولها وخاصة في المُدن سوى عُلب وصناديق ينامُ فيهم المرء لبضع ساعات ليعود إلى دوامة العمل المستهلكة تحت رحمة الإطار التقني، نظنُ أننا إذا أنشأنا ما يُسمى أماكن ترفيه يمكننا أن نعوض هذا الإغتراب إلا أن هذه الأماكن هي مثل مُخدرٍ مؤقت. ألا نتسائل لما نعيشُ العزلة على الرغم من وجود مئات الأشياء والناس حولنا؟ إن المكان {Raum} هو ما يتمُ فسحهُ وفتحهُ من قبل شيء ما، وهذا ما عبر عنه الإغريق بلفظ {τόπος}، ولهذا فإن الحدّ عند الإغريق هو {peras, πέρας} أي ذلك الذي يبتدئ شيء ما ماهيته إنطلاقاً منه، فليس الحدُ هو ما ينتهي عنده الشيء. إن الشيء ليس مُجرد موضوع له إمتداد (extensio) في فراع بل إن الشيء هو ما “يجمع” وهذا هو الترجمة الحرفية للفظ “thing” أي “إنه ما يجمع”، وإذا ما تمعنا في الكلمة الإغريقية {λόγος, Logos} الذي يدعونا هيراقليطس للإنصات إلى حكمتها، فهي من الجذر {λέγω, leg*} أي “الجمع”، ماذا تقول حكمتها كما قال هيراقليطس: “الكل هو الواحد، والواحد هو الكل”.
إن المكان هو الأشياء عينها، إلا أن الشيء هو ما يجمع، ماذا يجمع؟ إنه يجمع رُباعي العالم “الأرض، السماء، الفانين، الآلهة”. في هذا الجمع ينفسحُ المكان بتجربته الأصيلة ويمكننا من عيش ماهيتنا كدازاين {Da-Sein}، إنها تجربة مختصة فينا نحن، لأننا نحن البُعد المفتوح للوجود {Lichtung}. ضمن هذه العلاقة الأصيلة للمكان نعيشُ ماهية السكن قُرب الأشياء، إن العلاقات التي تقومُ بيننا وبين الأشياء كمكان نعيشُ ما نسميه “الأُلفة”، في الألفة لا يغدو المكان مُجرد فضاءٍ فارغ وبارد لتباعدات جغرافية بل مكان فيه حرارة وأُلفة، فليس البُعد والقُرب في ماهيتهم هم البُعد والقُرب الرياضي بل إن قرارة أنفسنا تخبرنا بشكل صادق أكثر ما هم، نقول مثلاً في لغتنا “الأقرب إلى قلبي” فالقُرب هو قُرب القلب، فيمكنني أن أصعد يومياً في النقل العمومي وأكون قريباً رياضياً من أشخاص كُثر ولكن في نفسي أنا بعيدٌ عنهم كونني لا أعرفهم فهم غرباء عني، بينما تكون حبيبتي أقرب إليَّ رغم بُعدي الجغرافي عنها. في هذه التجربة للحياة والسكن نكون علاقتنا مع الأشياء والآخرين أي مع المكان بطريقة أصيلة، مجموع العلاقات هذه للحياة والأشياء تُفسح المكان الذي نسميه “الوطن” {Heimat}، ذلك المكان الذي نعيشُ فيه الويلات والنعم، الحزن الفرح، الشقاء والراحة، الذكريات والنسيان، الحُب والكره، الموت والولادة…
كان هايدغر معروفاً بفيلسوف الريف، وعاش حياته في كوخٍ خشبي بسيط، حتى أنهُ رفض مرتين دعوة لتولي منصب الفلسفة في جامعة برلين نظراً لتعلقه بمسقط رأسه، وردّ في رسالة قائلاً بأن بما معناه فلسفته تنبع من حياته في تلك الطبيعة الريفيّة. ولهذا وصف هايدغر المُدن بصحراء المناطق الصناعية، ذلك أن الصحراء تمثلُ الأرض الجرداء التي لا تسمح بالتجذر، فهي تُمثل الإجتثاث.
قلةٌ هم الذين يعيشون في عصرنا ويتمكنون من تجربة العالم على نحو أصيل، كانت جدتي رحمها الله من بينهم، إمرأة نجت من الغرق في العصر التكنولوجي بحيثُ سمح لها هذا من العيش ببساطة الحياة والسعادة، كانت في آواخر سنين عمرها عازمةً على تقبل الموت أشدّ العزم، حتى أنها كانت ترفضُ دعائي لها بأن يطيل عمرها. لم تجد جدتي السعادة يوماً في المدينة، ذلك أنهُ لا يرسخُ في الصحراء أي جذور، فهي التي ما زالت تعيشُ تجربة العالم الأصيلة لم تُقتلع جذورها بعد، كنت ألاحظ عُزلتها في المُدن مع أننا كنا جميعاً حولها، لكنها كانت معزولة في تجربتها للموت بينما تأخذنا حياة التقنية بعيداً عنها، في سؤالي لها عن الموت وأنا كنت أعلم قُرب ساعتها، تجيبني بكل قلبٍ مطمئن بأن مانح الأمانة عليه أن يأخذها. وعند سؤالي لها عن القرية، ولماذا تود العودة لهناك رغم أنها ستكون وحدها، تقول لي ببساطة لأنها جميلة، في الورود أمام الدار في شجر الزيتون بالحقل، كانت ترى الفن والجمال كما هو الطبيعة. وفي سؤالي لها عن “الله” كانت تقول لي بأنه “هناك” في الوردة وفي الشجرة في السماء وفي الأرض، تقول لي بأنه قي كل مكان، ولا أخفي إقشعرار بدني من جوابها، وجدتي أُمية لم تقرأ كتاباً في حياتها ولا حتى القرآن، أشعرُ بعبثية ما أكتب في تذكر جوابها، وكيف لا وأنا أناطح رأسي بالكتب واللغة فقط لكي أستطيع قول ما قالته من دون عناء.
توفت جدتي وبقيت حسرةً في قلبي عدم وفاتها في مسقط رأسها كما تُحب، توفت في زمن الحرب، تلك الحرب المدفوعة بوحشية بقوة التقنية التي كانت آخر طفراتها الذكاء الصناعي، الذي يهدفُ إلى إجتثاث جذر الإنسان أكثر وأكثر، والذي نُلاحظه في أحداث عصرنا والذي صُرح عنه علناً بأن هذه الحرب المدفوعة بفضله تريد إجتثاث شعبٍ مجاور لنا من أرضه كاملة من أجل بناء معلم سياحي إقتصادي بفضل التكنولوجيا. توفت جدتي في فندق في المدينة، الفندق الذي هو ليس سوى تجسيد للإجتثاث السكني، فليس الفندق سوى مجموعة من الصناديق التي تُسمى غُرف، ينزلُ فيها المرء بشكل مؤقت، فلا شيء فيه له ولا أُلفة. لكن جدتي عادت ودُفنت في مسقط رأسها، وثوت في التُراب، ذلك التُراب الذي منهُ نبتت وعليه عاشت وفيه ترسخت جذورها فيه.