العلمُ العائدُ إلى وَحْيِه
العلمُ العائدُ إلى وَحْيِه
مبتدأ الاستغراب العدد الثالث عشر ـ السنة الرابعةــ 1440هـ خريف 2018م
د. محمود حيدر
قلَّ أن نقرأ في حقول التفكير عن ثنائياتٍ مثيرةٍ للإشكال والالتباس، كثنائيّة الدين والعلم. حتى لتبدو الصورة وكأنّ اختصاماً تكوينيًّا بين طرفيها لا يقبل اللقاء والمصالحة. وهي كنظيراتها من متناقضات الحداثة جيئَتْ بمقدمات ملتبسةٍ لتنتهي إلى نتائج ملتبسة. كما لو أن قَدَرَ العقل الحديث من بعدِ ما قطع حبل السُّرَّة مع المسيحيّة، أن يأنس إلى فتنة المفاهيم ولا يفارقها البتَّة.
من أجل هذا عُدَّت فرضيّةُ المخاصمة بين العلم والدين، إحدى أبرز سلالات الحداثة كما هو حال العقلانيّة والعلمانيّة والإلحاد المعرفي. ولسوف يتبيَّن لنا أنّ هذه الفرضيّة لم تكن مجرّد موقفٍ فلسفيٍّ أقام الفِرقة بين عالمين متمايزين، وإنّما لتُعرب عن سيرورةٍ حضاريّةٍ طبعت الروح الغربيّة بطبعها سحابة قرونٍ متصلة.
أطروحة التناقض بين العلم والدين إذاً، قضيّةٌ ساريةٌ في مجمل الحقول المعرفيّة للغرب الحديث. فهي تبدأ من الميتافيزيقا، ثم تتمدّد في أعماق المنهج الحاكم على العلوم الإنسانيّة كافة. لهذا جاز القول أنّ لحظة الفصل بين الإيمان الديني وتطوّر العلوم، وإن كانت حدثاً حضارياً بدأت معالمه في عصر النهضة، إلا أنّ تأسيساتها الأنطولوجيّة تعود إلى التنظير اليوناني، وتعييناً عقب الإنقلاب الأرسطي على الأفلاطونيّة. فعلى مرِّ الأحقاب اللاّحقة على ذاك التأسيس، ظلّ يُرى إلى ثنائيّة العلم والدين ضمن معادلةٍ متماديةٍ من التناظر المستحيل. وأما التحولات البَعْديّة التي جرت في مجالي اللاَّهوت والفلسفة والعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة، فلم تُنهِ الاحتدام، بل ستفضي إلى تعميقه بوسائط ومناهج مستحدثة.
وأنّى كانت مسالك السجال الفلسفي والسوسيولوجي حيال هذا الإشكال، فسيكون علينا
ـ لدواعٍ منهجيّةٍ ـ حصر المقاربة بالسؤال الأساسي التالي:إلى أيِّ مسافةٍ يمكن العلمُ أن يأخذ الفعلَ الإلهي بعين الاعتبار ويُقرَّ بسَرَيَان الإرادة الإلهيّة في الكون؟
هذا السؤال يستبطن استفهاماً مركباً: من ناحيةٍ هو استفهام إبستمولوجي (معرفي) يتوجّه حصراً إلى العلم آملاً منه الإجابة، ومن ناحيةٍ ثانيةٍ هو سؤالٌ أنطولوجيٌّ يدور مدار الفلسفة وهمومها الميتافيزيقيّة.
في كلّ حال، ينبغي علينا النظر إلى السؤال بجناحيه كواحدٍ من أهم مفاتيح السجال حول منزلة الدين في العقل العلمي الحديث. ولمَّا كان التحقُّق من القضيّة متعلقاً بالمنهج، وَجَبَ الرجوع إلى ماهيّة نظريّة المعرفة التي أخذت بها ميتافيزيقا الحداثة من أجل التعرّف على تلك القضيّة ومشكلاتها.
تخلص ميتافيزيقا الحداثة إلى الاعتقاد بأنّ فهم العلم يُنجز وفق الشروط الخاصة به، ولا يعتمدُ على أيِّ شيءٍ خارج ذاته. هذا المعتقد هو في الواقع تظهيرٌ شديد الكثافة لميراث عصر التنوير الذي نظر إلى العالَم كآليّةٍ ماديّةٍ مستقلّة. وتبعاً لهذه النظرة عُدَّت كلّ إشارةٍ إلى الدين أمراً فائضاً عن الحاجة ونزوعاً إلى اللاَّعقلانيّة. مردُّ ذلك كلّه إلى تسليم الحركة التنويريّة، المطلق بقوّة العقل البشري وقدرته على تذليل الاستعصاءات التي تعترض اكتشاف الكون وفهم أسراره. لذا غالباً ما جرى التعامل مع العقلانيّة كحقيقةٍ قُصوى. حتى لقد أوشك كبار فلاسفة الحداثة وعلمائها على “تأليهها” لمّا رأوا كيف حُوِّلت الكنائس بعد الثورة الفرنسيّة إلى “معابد للعقل”. يومذاك بدت العقلانيّة -وهي في غلواء توتّرها- أدنى إلى عقيدةٍ مرادفةٍ للإلحاد ومنتجة له في الآن عينه.
لكنّ النزعة العقلانيّة ما برِحَت حتى خضعتْ للتحديات التي افترضتها حركة “ما بعد الحداثة”. قامت هذه الأخيرة على نقد وتفكيك قيم الحداثة لا بقصد بناء نظام قيمٍ بديل، وإنّما لإطلاق سيلٍ هائلٍ من الأسئلة لا يزال أكثرها ممتنعاً على الإجابة الناجزة في التفكير الغربي المعاصر. وما من شك، فإلى ما اقترفته ما بعد الحداثة من تقويضٍ لثوابت النظام الحداثي، وما نجم عن ذلك من فوضى عارمة في عالم الأفكار، فإنّها أسهمت أيضاً بتقويض الأساس المنطقي للعلم الطبيعي. والذي تجدر الإشارة إليه أنّ بعض المفكرين واللاهوتيين سرَّهم ما قامت به حركة ما بعد الحداثة حيال ادّعاءات العلم. هؤلاء أغواهم الظن بأنّ ما حصل سوف يفسح في المجال أمام تسييل الدين في المجتمعات المُعَلْمَنَة. ثم ذهبوا إلى تسويغ مدَّعاهم بفرَضَيّةٍ تقول: إن لم يستطع العلم ادّعاء الحقيقة، فإنّه لا يُمكنه استبعاد الدين والتعامل معه على أساس أنّه باطل. لكن هذا الاستنتاج ما لبث أن ارتدَّ على الدين وعلى العلم سواءً بسواء. فقد أنزلَتْهُما تنظيرات ما بعد الحداثة منزلاً واحداً، وحكمت عليهما بمعيارٍ واحد. والنتيجة المنطقيّة: أنّ الحكم على العلم بالعجز والبطلان سَرَى أيضاً على الدين. إذ بانتفاء سبب الانشغال بحقل العلم، ـ كما تزعم هذه التنظيرات ـ ينتفي سبب الإلتزام بالحقل الديني.
* * *
الحاصل أنّ شيئاً جوهرياً في مقاصد العقلانيّة لم يحدث لأجل التمييز بين موقف الحداثة وما بعدها، تجاه الأمر الديني. لقد ورثت ما بعد الحداثة عن الحداثة عقلانيّتها لتكون إحدى أهمّ مرتكزاتها الأيديولوجيّة. استظلّت بها لتمضي بعيداً في تقديس العلم، ثم لتحوّل العالم النيو-ليبرالي المعاصر إلى كينونةٍ تقنيّةٍ خرساء تدير ذاتها بذاتها. لقد أعلنت جهاراً أنّ الكون يعمل على نحو ما يعمل العقل حين يفكّر بصورةٍ منطقيّةٍ وموضوعيّةٍ؛ في حين أنّ الإنسان يمكنه في نهاية الأمر أن يفهم كلّ ما يدخل خبرته تماماً كما يفهم، مشكلةً رياضيّةً أو ميكانيكيّةً بسيطة. وبالتالي فإنّ القدرات العقليّة التي كشفت للإنسان سبيل صنع واستخدام وتشغيل وإصلاح أيّ آلةٍ منزليّة، سوف تكشف له في نهاية المطاف، السبيل إلى فهم كلّ شيء عن الموجودات الأخرى. لهذا يميل المفكر العقلاني إلى الموقف القائل بأنّ المعقول هو الطبيعي، ولا وجود لشيءٍ خارقٍ للطبيعة، وأقصى ما يُعرف به هو المجهول الذي قد يصبح يوماً ما معلوماً ولا مكان في مخططه الفكري لقوى خارقة. وتبعاً لهذه السمات تنزع العقلانيّة إلى عدم الإقرار بكلّ ما هو غيبي، ثم لتكتفي بالطبيعي، الذي يؤمن المفكر العقلاني أنّه قابلٌ للفهم، وأن السبيل إلى فهمه في الغالب الأعم يتم عبر ما سمي بـ “مناهج ووسائل البحث العلمي”…
* * *
دأبت العقلانيّة الجائرة على الاكتفاء بخطابها الأحادي، وأعرضت في الغالب الأعم عن الإصغاء لنداء الإيمان. وما كان هذا ليكون إلا بسبب الاختلال المنهجي بين منطق عمل العلم ومنطق عمل العقلانيّة. وللنظَّار في هذا المضمار حجّةٌ منطقيّةٌ أوردوها على النحو التالي: بينما تدخل أسئلة الوجود الكبرى في اهتمامات العقلاني، تتوارى هذه الأسئلة أو قد تصل حدّ التبدّد لدى علماء الرياضيات وفيزياء الطبيعة. ربما هذا هو الفارق الجوهري بين المشتغلين في كلّ من هذين الحقلين. ولو أخذنا العلم بمعنى نسق المعارف العلميّة المتراكمة (أي المنهج العلمي) فإنّنا لن نجد له رابطة اعتناءٍ بالميتافيزيقا أو بـ “ما بعد الطبيعة”. وما ذلك إلا لأنّ العلم من حيث هو علم، لا يقدّم لنا مذهباً في الكونيات (كوزمولوجيا) أو في الوجود في ذاته (الأنطولوجيا) فضلاً عن الغاية من وجود الموجودات. العلم بما هو علم لا يسعى إلى الإجابة، ولا حتى التساؤل، عن القضايا الكبرى المتعلّقة بمصير الإنسان في الحياة والموت أو الخير والشر. بعض العلماء لا تجد عندهم أي فضولٍ ميتافيزيقي. وشأنهم في هذا شأن كثير من البشر، ولكن ما أن يسأل أحدٌ منهم أياً من الأسئلة الكبرى ويحاول الإجابة عنها، فإنّه يكفُّ بهذا السلوك عن أن يكون عالماً، بل إنّه يفعل شيئاً آخر مغايراً لطبيعة عمله كعالِم. أمّا المفكر العقلاني فإنّ لديه مجموعةً كاملةً من الإجابات عن القضايا الكبرى، زاعماً أنّ الزمن والدأب كفيلان، إذا ما لازم الإنسان صواب التفكير، بتقديم الإجابات الصحيحة. وعليه عُدَّت النزعة العقلانيّة بالصورة التي ظهرت فيها خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر في الغرب نسقاً ميتافيزيقياً كاملاً. بل وأكثر من هذا، عوملت في كثير من الأحيان كبديل من الدين.
* * *
من مفارقات العقلانيّة أنّها ـ على رغم تمايزها عن العلم في الماهيّة والوظيفة ـ تعاطت مع الأخير كموضوعٍ من مواضيع نشاطها الفكري. وضمن هذا المنحى جرى ضربٌ من التكييف “العقلانوي” للثورة العلميّة. فقد تمادت في ذلك إلى الدرجة التي أمست فيها العقلانيّة بنسختها الليبراليّة الانتفاعيّة مذهباً مناوئاً للإيمان الديني، وذريعةً أيديولوجيّةً لترسيخ العلمنة الشاملة.
ما مرَّ يدل على نحوٍ بيِّنٍ كيف استولت الحركة العقلانيّة على حضارة الغرب الحديث، ووضعت كلّ منجزاته في الفكر والمعرفة والتقانة تحت سطوة أجهزتها الأيديولوجيّة. ولقد كان من الطبيعي أن تسفر هذه الديناميّة الاستيلائيّة عن فرضيّتين أطلقهما التقدّم الاستثنائي للعلوم، ثم لتشكِّلا معاً أساساً لـ”نظريّة معرفة” تامَّة القوام:
الفرضيّة الأولى: مبنيّة على الاعتقاد بأنّ العلم والتفكير العلمي قادران لوحدهما أن يحدِّدا ما علينا أن نتقبله على أنّه حقيقيٌّ، وأنّ كلّ شيءٍ يجب أن يخضع لقوانين الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا أو أيّ فرعٍ آخر من فروع العلم، أمّا أمور مثل النزعة الروحيّة بل وحتى الشعور بالجمال والحدس والعاطفة والأخلاقيّات فقد اختزلتها النظرة العقلانيّة إلى مجرّد متغيراتٍ في كيمياء الدماغ الذي يتفاعل مع مجموعةٍ من القوانين الميكرو ـ بيولوجيّة المرتبطة بتطوّر الإنسان.
أما الفرضيّة الثانية: فترى أنّ الهدف من تحصيل المعارف هو التحكُّم بالعالم الخارجي، أو الهيمنة على الطبيعة. وبذلك يصبح مركز اهتمام الغرب مركوزاً في العثور على الطريق الأمثل للوصول إلى هذه الهيمنة ولو جاءت عواقبها تدميراً للبيئة وعبثاً بنظام الطبيعة.
* * *
بحلول القرن السابع عشر سيظهر لنا كيف ستبدأ رحلة معرفيّة جديدة في أوروبا قوامها هيمنة العلم وكشوفات العقل. سيظهر ذلك بقوّةٍ مع كتاب “تقدّم التعلم” (1605) لفرانسيس بيكون
(1561 – 1626) الذي سيؤكد أنّ كلّ حقيقةٍ يجب إخضاعها للنّقد الصارم عبر العلم التجريبي حتى تلك المتعلّقة بأكثر الاعتقادات الدينيّة قداسة.
تلك كانت لحظةٌ مفصليّةٌ في التنظير الغربي للعِلمويّة سوف تؤسس لما يمكن اعتباره فصلاً وظيفياً بين الله والعالم. وكان ذلك في الحقيقة ضرباً من علمنةٍ تعترف بالخالق وتعطل في الوقت نفسه تأثير هذا الاعتراف على الاجتماع البشري.
مثل هذه الطريقة نجدها في فلسفة ديكارت الذي كان قادراً على التكّلم بلغةٍ عقلانيّة. لكنّه وهو الكاثوليكي الورع، أراد أن يقنع نفسه بوجود خالق للكون مع رفضه العودة إلى معتقدات الكنيسة. ورأى أنّ الشيء الوحيد الذي يمكننا التأكّد منه هو تجربة الشك العقلي في إطار بديهيّته المعروفة “أنا أفكر إذاً أنا موجود”.
بالتزامن مع ديكارت اعتقد الفيلسوف البريطاني توماس هوبس -وربما لتأثره بمنبته التوراتي- أنّ العالم المادي خالٍ من الإلهي، وأنّ الله قد كشف ذاته في فجر التاريخ البشري وسوف يكشف نفسه في نهايته. وحتى ذلك الوقت ـ يقول هوبس ـ علينا الاستمرار في العيش من دونه، وكأنّنا ننتظر في الظلام.
أما جون لوك (1632 – 1704) الذي كان أول الفلاسفة من الذين أدخلوا التنوير الفلسفي في القرن الثامن عشر، فلسوف يُدخل العلمنة إلى الحيّز السياسي الاجتماعي. فكان عليه أن يسيِّلها كفلسفةٍ وعقيدةٍ في حركة الواقع، فمن أجل الوصول إلى دين صحيح- حسب لوك- ينبغي على الدولة أن تتسامح تجاه جميع أشكال الاعتقاد، ويجب أن تنشغل بالإدارة العلميّة وحكم المجتمع فقط. وينبغي أن تكون الدولة منفصلةً عن الكنيسة وألا يتدخل أيٌّ منهما في شؤون الآخر، بذلك سيكون الناس لأول مرةٍ في التاريخ البشري أحراراً، بالتالي قادرين على إدراك الحقيقة.
مع وفود العلم الحديث، فرضت الرياضيات ـ وليس الميتافيزيقيا ـ نفسها باعتبارها الأسلوب المناسب لتشكيل فهمٍ علميٍّ وتجريبيٍّ للعالم. لم يستمدّ العلم الجديد في تطوّره الناضج قوانينه من اعتباراتٍ ميتافيزيقيّةٍ ولم يُقدّم نفسه كتابعٍ جوهرياً أو كطالبٍ للاندماج والاكتمال ضمن منظومة الميتافيزيقيا واللاهوت الطبيعي. ولقد مضى بعض الوقت قبل ظهور الطابع الإلحادي للمفهوم الجديد للعالم والمنهج العلمي الذي يُسنده. بالتدريج، أصبحت أيُّ إشارةٍ إلى الله في التفسير العلمي للعالم بعيدةً وعرضيّةً بشكلٍ متزايد. ومع الوقت، أصبح الله خارجاً عن الموضوع حتى حين يجري الحديث عن مصدر النظام الشمسي وصيانته، وأصبح ضائعاً في تخمينات نظريّةٍ مبهمةٍ حول أصل السديم السابق للوجود الشمسي. كما أضحى التفسير الطبيعي الحصري لكلّ الظواهر الماديّة هو محور الاهتمام المسيطر. في الأحقاب المتأخّرة للحداثة (القرنان التاسع عشر والعشرين) سيأخذ الانفصال القطعي بين العلم والدين مداه الفعلي. ومع هذا الانفصال توسّعت البيئات المتأثّرة بالنظرة الكونيّة العلميّة الجديدة على نحوٍ لم تعد تقبل فيه الإيمان الديني. ذلك بأنّ المنهجيّة الإلحاديّة للنظرة العلميّة المعاصرة قامت ببساطةٍ على إقصاء السؤال عن وجود الله. تلقاء ذلك، ولَّدت إطاراً ذهنياً يميل نحو تعميم لامبالاتها المنهجيّة تجاه ما هو إلهيّ وتحويله إلى نزعةٍ إنسانيةٍ علميّةٍ مُطلقة.
* * *
لم تستمد “العِلمويّة” شرعيّتها فقط من العقلانيّة التي أخرجها عصر التنوير العلماني، بل هي وجدت الحاضنة الدينيّة لنموّها، حيث استغلَّت الندوب العميقة التي تركها الأثر العميق للحداثة على بنية الكنيسة. وتدلّ اختبارات الإصلاح البروتستانتي في القرن الخامس عشر على رسوخ قاعدةٍ لاهوتيّةٍ قوامها الجمع بين الإيمان بالله والإيمان بالعلم مع إسقاط العصمة عن سلطة الكنيسة. تبلورت هذه النظريّة مع مارتن لوثر (1483 – 1546) وجون كالفن (1509-1564) وهولدريش زفينغلي
(1484 – 1531م) الذين عادوا إلى منابع التراث المسيحي لتدعيم محاجّاتهم اللاَّهوتيّة في وجه الكنيسة الكاثوليكيّة. شدّد لوثر على أهميّة الإيمان، لكنّه رفض العقل بشدّةٍ لأنّه يؤدي إلى الإلحاد. حسب تأويليّته أنّ معرفة الله عن طريق التفكير في نظام الكون العجيب -كما فعل اللاهوتيون المدرسيون ـ لم يكن أمراً مسموحاً. في مؤلفات لوثر كان الإيمان بالله قد بدأ ينسحب من العالم المادي الذي لم يعد له أهميّة اطلاقاً. وهذا ما دفعه إلى علمنة السياسة. أمّا كالفن وزفينغلي فذهبا أبعد مما ذهب إليه “المعلم” في التأسيس اللاهوتي للدنيويّة العلميّة. حيث آمنا بضرورة الجمع بين وحيانيّة الكتاب المقدس وواقعيّة الحياة البشريّة. لقد وجدا أنّ على المسيحيين أن يعبّروا عن إيمانهم بالمشاركة في الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة بدلاً من الانسحاب إلى داخل الدير. وأنّ عليهم أن يقدّسوا العمل من خلال تعميد أخلاق رأس المال الصاعد. ذلك بأنّ العمل هو سعيٌ مقدّسٌ نحو الألوهة وليس عقاباً إلهيًّا على الخطيئة الآدميّة الأولى. لقد اعتقد كالفن أنّ رؤية الله في خلقه أمرٌ ممكن، فلم ير تعارضاً بين العلم والكتاب المقدس. فالإنجيل لم يقدّم معلومات حرفيّة حول الجغرافيا ونشأة الكون، بل إنّه عبّر عن حقيقةٍ عصِيّةٍ على الوصف من خلال كلمات ليس في وسع البشر المحدودين فهمها وإدراك أسرارها الخفيِّة.
* * *
تضيء لنا هذه المقدمات على حقيقة أنّ العلمنة ومعها النزعة العلميّة، كانت تنمو بقوّةٍ في أوروبا ولم يكن نموها خارج المسيحيّة. في مثل هذه الحال، بدت الصورة وكأنّ البروتستانتيّة المحتجّة لاهوتياً على إكراهات الكنيسة الكاثوليكيّة الرومانيّة، هي التي فتحت الباب العالي لنظريّة العلمنة ولثورتها العلميّة الشاملة فيما بعد. وسيأتي من روّاد حركة الحداثة -ممن تأثروا بالتأويل البروتستانتي- مَن يُضفي على هذه الصورة مشروعيّتها العلميّة:
عند مستهل الحداثة سيشارك العالم الفلكي الهولندي كوبر نيكوس (1473 – 1543م) كالفن رؤيته اللاهوتيّة المعلمنة، لمّا قال إنّ ما أنجزتُه حول مركزيّة الشمس، هو أكثر إلهيّةً مما هو بشري. أمّا غاليلي الذي اختبر فرضيّة كوبرنيكوس عملياً فقد كان مقتنعاً بأنّ ما أنجزه كان نعمةً إلهيّة. كذلك سيحذو إسحاق نيوتن (1642 – 1727) حذو نظيريه حين تحدث عن فكرة الجاذبيّة كقوّةٍ كونيّةٍ تجعل الكون كلّه متماسكاً وتمنع الأجرام السماويّة من الاصطدام بعضها ببعض. فقد أعرب يومها عن اعتقاده بأنّ ما توصّل إليه يثبت وجود الله العظيم ميكانيكياً. على النحو إيّاه سنستمع إلى اينشتاين (1879-1955) وهو يعلن في خريف عمره أنّ الله لم يكن يمارس لعبة الحظ، وهو يهندس الكون الأعظم.
* * *
في أحقابٍ تاليةٍ سيشهد الجدل الفلسفي على مساءلاتٍ غير مسبوقةٍ طاولت الأسس الأنطولوجيّة والمعرفيّة التي قامت عليها ميتافيزيقا العقل المحض. من بين أبرز هذه المساءلات ولادة بيئةٍ فلسفيّةٍ لاهوتيّةٍ قصدت إثبات التكامل بين حقائق الإيمان والحقائق العلميّة. لعلّ من أظهر الفرضيّات المطروحة القول بعدم وجود صراعٍ بين الإيمان في طبيعته الحقيقيّة والعقل العملي في طبيعته الحقيقيّة.
نشير هنا إلى ما ذهب إليه الفيلسوف الألماني لايبنتز في كتابه المعروف “مقالة في الميتافيزيقا” من أنّ تعريفه لله يختلف جوهريًّا عن تعريف الفلاسفة المحدثين أمثال ديكارت وسبينوزا. فقد صرَّح بأنه أبعد ما يكون عن رأي مَن يزعمون أنّه ليس ثمّة قواعد خير وكمال طبيعة الأشياء أو في أفكار الله عنها، وأنّ أعمال الله ليست خيّرة إلّا من جهة العلّة الصوريّة [المتمثّلة] في أنّ الله قد قام بها”. فالله ـ كما يقول ـ كائنٌ ضروريٌّ، وملكة فهمه مصدر الجواهر وإرادته أصل الموجودات، وهو التناغم الأسمى وعلّة الأشياء القصوى”…
بين القرنين التاسع عشر والعشرين سوف تزدهر مناخات الحداثة البَعديّة بمساعٍ فكريّةٍ مفارقة لما دأبت عليه العقلانيّة الكلاسيكيّة ولا سيما لجهة الإهمال المتعمَّد لسؤال الإيمان. لنا أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر، مطارحات الفيلسوف واللاهوتي الألماني بول تيليتش (Paul Tillich 1886-1965م). ركّزت هذه المطارحات بصفةٍ خاصةٍ على ضبط وتحديد طريقة ارتباط المسيحيّة بالتراث العلماني. ومع أنّه كان بروتستانتياً فإنّه لم يوفّر البروتستانتيّة من النقد. لقد سعى إلى تظهير منهجٍ جديدٍ يقيم توازناً دقيقاً وإيجابياً بين الإيمان والعلم. ودعا إلى إجراء تحوّلٍ عميقٍ يحدُّ من النزعة الأصوليّة للمذهب البروتستانتي، ولا يؤدي في الوقت نفسه إلى استظهارشكلٍ جديدٍ من العلمانيّة.
رأى تيليتش أنّ العلم يحاول أن يصف ويفسّر البنى والعلاقات في العالم، بقدر ما يمكن التحقق منها تجريبياً وحسابها كمياً. ذلك بأنّ حقيقة كلّ حكمٍ علميٍّ برأيه، هي وصف القوانين البنيويّة التي تحدّد الواقع، وبالتالي التحقّق من هذا الوصف عن طريق التكرار التجريبي. ثم إنّ كلّ حقيقةٍ علميّةٍ هي أوليّة وعرضة للتغيرات في الإمساك بالواقع، وفي التعبير عنه تعبيراً كافياً أيضاً. وما ذاك إلاّ لأنّ الحقيقة العلميّة وحقيقة الإيمان لا تنتميان لبعد المعنى نفسه. إذا فُهِمَ ذلك، -كما يقرّر تيليتش- ظهرت الصراعات السابقة بين الإيمان والعلم في ضوءٍ مختلفٍ تماماً. فالصراع في الحقيقة ليس بين الإيمان والعلم، بل بين إيمانٍ وعلمٍ لا يعي كلاهما بعده الصحيح. كذلك لا يمكن أن يصطرع العلم إلا مع العلم، ولا يحتدم الإيمان إلا مع الإيمان، إذ لا يمكن للعلم أن يبقى علماً حين يصطرع مع الإيمان. ويصحّ هذا أيضاً على دوائر البحث العلمي الأخرى كالأحياء وعلم النفس. فلم يكن الصراع الشهير بين نظريّة التطوّر ولاهوت بعض الطوائف المسيحيّة صراعاً بين العلم والإيمان، بل صراعاً بين علم يُجرّد إيمانه الإنسان من إنسانيّته وإيمان شوه التأويل الحرفي للكتاب المقدس تعبيراته. ومن الواضح أنّ اللاهوت الذي يفسّر قصّة الخليقة التوراتيّة باعتبارها وصفاً علمياً حدث في الزمان يتعارض مع العمل العلمي المسيطر عليه منهجياً، ونظريّة التطور التي تفسّر انحدار الإنسان من أشكال حياةٍ أقدم بطريقةٍ تزيل الاختلاف اللامتناهي النوعي بين الإنسان والحيوان هي إيمان وليست علماً.
[تيليتش ـ بواعث الإيمان ـ ص 94].
هذا المستوى من النقاش وإن كان لا يزال منحصراً في في بيئات محددة، فإنه يكشف عن وعود بانعطافات كبرى في بنية العقل الغربي حيال العلاقة بين الإيمان الديني والتورات العلمية المعاصرة، ولعلّ ما يضاعف من تحقق هذه الوعود المراجعات الفكرية لثوابت النظام المعرفيّ العالمي، كما يدل عليه أيضاً المستحدث حول دخول العالم الغربي في ما سمي بـ “حقبة ما بعد العلمانيّة” وعودة أسئلة الدين لتحتلّ حيّزاً وازناً من حلقات التفكير. وما من ريبٍ فإنّ هذه اللهفة إلى اليقينيّة ليست سوى محاولةٍ لملء الفراغ الثاوي في قلب التجربة الحديثة.
* * *
تدخل موضوعات هذا العدد من “الاستغراب” ضمن دائرة الإشكاليات الأساسية المطروحة في الغرب حول الرابطة المعقّدة والملتبسة بين الدين والعلم. ويمكن لنا أن نقرأ هذا الموضوع الإشكاليّ كما تعالجه الأبحاث الواردة من وجهين رئيسيين:
1ـ وجه التدافع السلبي الذي يفضي إلى إثبات التناقض بين العلم والدين، وهو ما فعلته تنظيرات الفلسفة الكلاسيكيّة للحداثة عبر ما سمي بالعقلانيّة العلميّة.
2ـ وجه التكامل وعدم الانفصال بين العلم والدين، حيث لا تناقض بين إيمانٍ دينيٍّ غايته سعادة الإنسان، وعلمٍ يسعى إلى توفير مقتضيات التطوّر الحضاري للبشريّة.
يضم العدد الجديد مجموعةً من المقاربات النقديّة شارك فيها مفكّرون وعلماء من أوروبا وأميركا ومن العالَمَين العربي والإسلامي.