فلسفة وميتافيزيقا

إريك فروم : الشاهد الأخلاقيُّ على اغتراب الغرب

 

إريك فروم

الشاهد الأخلاقيُّ على اغتراب الغرب

                                          

                                            أحمد الفقيه

قد يكون إريك فروم من بين القلَّة من مفكِّري ما بعد الحداثة، الذين وظَّفوا اختصاصاتهم العلميَّة في نقد الحضارة الغربيَّة المعاصرة. فهو لم يحصر التحليل النفسيَّ الذي برع فيه، في المجال العياديِّ العلاجيِّ، كما في التدريس الجامعيِّ، بل جعله ركيزة في عمليَّة تشخيص أزمات المجتمع الحديث وبالتحديد واقع الإنسان في هذا المجتمع. كذلك فعل الشيء نفسه حين نَقَدَ تطوُّرات الحداثة في الغرب من منطلق كونه فيلسوفاً أخلاقيّاً وعالم اجتماع.

فلو أخذنا قضيَّة الاغتراب التي تعامل معها فروم كمفتاح مفهوميٍّ لبناء مشروعه الفكريِّ حول أزمات الإنسان الحديث، لتبيَّن لنا كيف أنَّ هذه القضيَّة تشكِّل محور هذا المشروع.

في المقالة التالية للباحث الدكتور أحمد الفقيه مطالعات في المشروع الفكريِّ عند إريك فروم وعرض لأهمِّ مفاصل هذا المشروع مركِّزاً على مقولة “الاغتراب” كمقولة مركزيَّة في الاستراتيجيَّة المعرفيَّة لهذا الفيلسوف.

لقد بيَّن فروم عيوب العصر الحديث في معظم أعماله- ونستطيع أن نجمل أبرزها في ما يلي: “الهروب من الحريَّة”، “اللُّغة المنسيَّة”، “المجتمع العاقل”، “تشريح نزوع الإنسان إلى التدمير” إلى سواها من الأعمال التي تعكس اهتمامه الكبير بظاهرة الاغتراب التي أحكمت سيطرتها على الإنسان في المجتمع الرأسماليِّ الصناعيّْ. فقد رأى أنَّ كلَّ أشكال الاكتئاب والتبعيَّة والعبادة الوثنيَّة بما فيها أشكال (المتعصِّب) هي ليست فقط تعبيراً مباشراً عن الاغتراب أو تعويضات له، بل إنَّ من نتائج الاغتراب أيضاً، العجز عن أن يعرف الإنسان هُويَّته!. ولأنَّ الإنسان المغترِب أسقَطَ وظائف الإحساس والتفكير العائدة له على موضوعٍ خارج ذاته، فإنَّه لا يعرف أيَّ إحساس بذاته ولا يعرف هويَّة. ولهذا النقص في معرفة الهويَّة نتائج كثيرة. لعلَّ أهمَّها وأعمَّها هي أنَّه حِيل دون كمال الشخصيَّة الإنسانيَّة. فالإنسان ليس متَّفقاً مع ذاته ويفقد إمَّا القدرة على إرادة شيء ما، أو أنَّه افتَقَرَ إلى صحَّة هذه الإرادة. وبالمعنى الأوسع، يستطيع المرء أن يرى كلَّ عصابٍ نتيجةً للإغتراب الذي يعصف بالمجتمع الذي يعيشه.

تبعاً لهذا النسق الرؤيويِّ، يمكن ملاحظة التكامل المنهجيِّ بين التحليل النفسيِّ الاجتماعيِّ والتحليل التاريخيّْ. وعلى هذا الأساس حين يرى المرء الاغتراب ظاهرة مَرَضيَّة (باتولوجيّة) وجب عليه – حسب فروم- ألاَّ ينسى أنَّ هيغل وماركس وَجَدا فيه ظاهرة ضروريَّة هي جزء لا يتجزَّأ من التطوُّر الإنسانيِّ ينطبق هذا الأمر على اغتراب العقل والحبِّ على السواء، ذلك لأنَّ اغتراب الفكر يشبه اغتراب القلب. وكثيراً ما يظنُّ أحدهم أنَّه أنعم التفكير في شيءٍ ما، وأن رأيه هذا نتيجة تفكيره النشيط، على أنَّه عَهِدَ في الحقيقة بقدرته على التفكير إلى أوثان الرأي العام والصحافة والحكومة أو إلى قائدٍ سياسيّْ. فهو يعتقد أنَّ هؤلاء عَبَّروا عن أفكاره هو، على حين يتبنَّى هو في الحقيقة أفكارهم وينظر إليها على أنَّها أفكاره هو شخصيَّاً، اختارهم ليكونوا موضع محبَّته وعبادته وآلهة للحكمة والمعرفة. ولهذا السبب بالذات هو أيضاً تابعٌ لهذه الأوثان وعاجز عن أن يكفَّ عن عبادتهم. فهو عبدهم لأنَّه تَخَلَّى عن قدرته على التفكير[1].

نقد التشيُّؤ:

لا يتوقَّف مسار التحليل لدى فروم على هذا الحدِّ، بل يتجاوز إلى أبعد من ذلك، ليوضح أنَّ الأثر الذي يتركه الاغتراب على الإنسان يتجاوز الجانب الفكريَّ لديه ليطال وجدانه ومشاعره والأمل بحاضره ومستقبله. وهذا ما يسمِّيه فروم بـ “اغتراب الأمل”. وهو الحال الذي يتحوَّل فيه المستقبل إلى معبود. إنَّ هذا التأليه للتاريخ يتجلَّى بصورة أساسيَّة في آراء روبسبير الذي أخذ عنه فروم قوله: [أيَّتها الأجيال اللاَّحقة، يا أمل الإنسان اللَّطيف الرقيق، لستم بغرباء عنَّا؛ فلأجلكم نُقاوم ونُجالِد ضربات الظلم والطغيان؛ سعادتكم وهناءتكم ثمن قتالنا المُمِضّ، وكثيراً ما تثبطنا عوائق محيطة بنا فتكون بحاجة إلى هذا العزاء؛ وإليكم نوكل مهمَّة إتمام عملنا، وفي أيديكم نضع مصير كلِّ الأجيال التي لم تُولَد بعد… سارعي، أيَّتها الأجيال اللاَّحقة، واتركي ساعة المساواة والحريَّة والسعادة تبدأ][2].

هذا القول المأثور لـ “روبسبيير” له وقعه الخاصُّ في منهج إريك فروم. ولذلك يمكن أن نفهم لماذا صعَّد فروم من نقده للحركة الماركسيَّة وخصوصاً عندما أشار إلى الصياغة المشوَّهة التي مارسها الشيوعيون لفلسفة ماركس في التاريخ. فقد كانوا يعبِّرون عن موقفهم هذا بالقول: إنَّ كلَّ شيءٍ يتَّفق مع النزعة التاريخيَّة هو ضروريٌّ، وعلى هذا فهو حسنٌ، والعكس بالعكس. وطبقاً لهذا المفهوم، ليس الإنسان هو من يصنع التاريخ، بل التاريخ هو الذي يصنع الإنسان. ليس الإنسان هو الذي يأمل ويطمئنُّ إلى المستقبل، بل إنَّ المستقبل يَحكم عليه ويقرِّر ما إذا كان آمن الإيمان الصحيح. ولقد جَهَرَ ماركس بمفهوم تاريخيٍّ يُعارض المُغتَرِب المُستَشهَد به للتوّْ. وها هو يكتب في عمله الفلسفيِّ الشهير(الأسرة المقدَّسة): [إنَّ التاريخ لا يفعل أيَّ شيء ولا يملك أيَّة ثروة هائلة ولا أيَّ قتال! بل إنَّ الإنسان، الإنسان الحقيقيَّ الحيَّ، هو الذي يفعل هذا كلَّه ويملك ويُناضِل. وليس التاريخ بالذي يتَّخذ الإنسان وسيلةً ليُنجِزَ أغراضه، لكنما هو شخص فريد، إنه ليس إلاَّ عمل الإنسان الذي يتوخَّى مصالحه ويرمي إلى أغراضه[3].

في هذا المضمار بالذات يحاول إريك فروم إن يستنقذ أطروحة ماركس حول اغتراب الإنسان من الورطة التي وضعها فيها أتباعه. فقد انبرى إلى القيام بمهمَّة تأويليَّة لنظريَّة ماركس الأخلاقيَّة حول غربة الإنسان. إلاَّ أنَّه سيذهب إلى مدى أبعد في التأويل لإنجاز مثل هذه المهمَّة، حيث أجرى نوعاً من الإسقاطات التي تعتمل في داخله لتبرير موافقته ماركس في نظريَّته حول الغربة الإنسانيَّة. والتي هي على الأغلب – كما يقول الباحثون –  ذات بُعد صوفيٍّ أكثر ممَّا تنطوي على أطروحات أخلاقيَّة تقليديَّة.

إلاَّ أنَّ صيغة هذا التأويل جاءت بطريقة بدا معها الموضوع اﻷﺳﺎﺳﻲُّ لجميع ﻛﺘﺎﺑﺎت ﻓﺮوم منطلقاً أساساً من الأنْسَنة. ومؤدَّى هذا التوجُّه ﻫﻮ أنَّ اﻹﻧﺴﺎن ﻳﺤﺲُّ ﺑﺎﻟﻮﺣﺪة واﻟﻌﺰﻟﺔ ﻷﻧَّﻪ اﻧﻔﺼﻞ ﻋﻦ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ وﻋﻦ ﺑﻘﻴَّﺔ اﻟﺒﺸﺮ. وﻛﺘﺒﻪ اﻟﺜﻼﺛﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﻮَّﻧﺖ ﺷﻬﺮﺗﻪ وﻫﻲ: “اﻟﻬﺮوب ﻣﻦ الحريَّة”1941، و”اﻹﻧﺴﺎن ﻟﻨﻔﺴﻪ” 1947، و”المجتمع العاقل” 1955، ﺗﺪور ﻛﻠُّﻬﺎ ﺣﻮل ﻫﺬا الموضوع. على سبيل المثال: اﻻﺿﻄﺮاب اﻟﻨﻔﺴﻲُّ أو اﻟﻌُﺼﺎب، ﻫﻮ ﻋﻨﺪ ﻓﺮوم ﻫﺮوب ﻣﻦ الحريَّة وإﻟﻘﺎء اﻹﻧـﺴـﺎن ﺗـَﺒـِﻌـﺔ ﻧـﻔـﺴـﻪ ﻋـﻠـﻰ ﻏـﻴـﺮه، كالحاكم المستبدِّ مثلاً. ربَّما لهذا السبب لم يقبل ﺑﺎﻟﺘﻔﺴﻴﺮ اﻟﻔـﺮوﻳـﺪيِّ ﻟـﻠـﻌـُﺼـﺎب ﺑﻮﺻﻔﻪ مرضاً ناتجاً ﻣﻦ اﻟﺼﺮاع بين اﻟﻐﺮاﺋﺰ واﻷﻧﺎ، أي ﻣﺘﻄﻠِّﺒﺎت الواقع، وإنَّما هو ينشأ من صراع من نوع آخر: أي الخضوع اللاَّمتناهي للسلطة. وهو ينسب أسباب هذه الأعراض العصابيَّة إلى عوامل ثقافيَّة واجتماعيَّة، أي إلى سوءات النظام الرأسماليّْ.

لا بدَّ من القول أنَّ محور الانشغالات الفكريَّة عند فروم يتركَّز على فهم النفس الإنسانيَّة. فهو يرى أنَّه لابدَّ من أن ينبني هذا الفهم على تحليل حاجات الإنسان النابعة من ظروف وجوده، وهذه الحاجات خمس كما نلاحظها في كتاباته، وهي: الحاجة إلى الإنتماء، الحاجة إلى التعالي والتجاوز، الحاجة إلى الإرتباط بالجذور، الحاجة إلى الهُويَّة، والحاجة إلى إطار توجيهيٍّ، وهي حاجات إنسانيَّة وموضوعيَّة، لا توجد لدى الحيوان، ولم يخلقها المجتمع وإنما أصبحت جزءاً من طبيعة الإنسان خلال التطوُّر والارتقاء.

ما هي إذاً علاقة المجتمع بوجود الإنسان..؟ في معرض الجواب عن هذا السؤال يعتقد فروم أنَّ الصور النوعيَّة التي تُعرِّف بها هذه الحاجات عن نفسها، والطرائق الفعليَّة التي يحقِّق بها الإنسان إمكاناته الداخليَّة تحدِّدها الترتيبات الاجتماعيَّة التي يعيش في ظلِّها. ويقدِّم في هذا المجال أمثلة عديدة من أنواع الطباع التي تنمو في مجتمع رأسماليٍّ، وعندما يفرض المجتمع على الإنسان مطالب تنافي طبيعته فإنَّه في هذه الحال يقيِده، ويجعله غريباً عن موقفه الإنسانيِّ، وينكر عليه تحقيق الشروط الأساسيَّة لوجوده[4].

تطبيقاً لهذه الرؤية يرى فروم أن النظامين الرأسماليَّ والشيوعيَّ يحاولان جعل الإنسان آلة وعبداً مأجوراً مجرَّداً من الهوى، وكثيراً ما ينجح في دفعه إلى الجنون وإلى الأفعال المعادية للمجتمع أو المدمِّرة للذَّات، ولا يتردَّد في وصم مجتمع بأسره بالمرض عندما يخفق في إشباع  الحاجات الأساسيَّة للإنسان.

 

الإنسان وأثر التحوُّل الاجتماعيّْ:

يتناول فروم قضايا التغيُّر الاجتماعيِّ وتأثيرها في شخصيَّة الإنسان ويعتبرها قضيَّة محوريَّة في تحليله. فعندما يتغيَّر في المجتمع أيُّ جانب مهمٍّ، كما حدث عندما تحوَّل الإقطاع إلى الرأسماليَّة، أو عندما حلَّ نظام المصانع محلَّ الحرفيَّة الفرديَّة، فإنَّ مثل هذا التغيُّر يحتمل أن يؤدِّي إلى اضطراب في الطبائع الاجتماعيَّة للناس، ولا يصبح التكوين القديم للطباع مناسباً للمجتمع الجديد، ممَّا يزيد من شعور الإنسان بالاغتراب واليأس، وفي أثناء هذه الفترات الانتقاليَّة يصبح الفرد ضحيَّة لجميع أنواع المزاعم والادِّعاءات التي تهيّئ له ملاذاً ميَّال الشعور بالوحدة.

هنا يقرِّر فروم أنَّ الغرب اليوم يمرُّ بمثل هذه المرحلة الانتقاليَّة. وهذا هو سرُّ نشوء ورواج العديد من “الأيديولوجيَّات” المخدِّرة، والتخبُّط الذي نراه يسود أرجاء العالم كافَّة، وهو ينبِّه إلى أنَّ هناك مخرجاً سعيداً من مثل هذا المأزق، أي مجتمعاً جديداً يعيد للإنسان “إنسانيَّته”، وهو المجتمع الذي يرتبط فيه الإنسان بالإنسان برباط المحبَّة، وتمتدُّ فيه جذور الأخوَّة والوحدة، ويتيح للإنسان التعامل مع الطبيعة بالخلق لا بالتدمير، ويكتسب فيه كلُّ فرد شعوراً بذاته على أنَّها ذات قيمة وفعاليَّة، وليس عن طريق الخضوع والامتثال. إن المجتمع الذي يدعو إليه فروم هو مجتمع يحكمه نظام للتوجيه الروحيِّ لا يحتاج الإنسان فيه إلى تحريف الواقع وعبادة الأصنام.

أمَّا جوهر الشخصيَّة الإنسانيَّة في الأطروحة الأخلاقيَّة الفروميَّة، فهو الميل إلى وضع الطبيعة الإنسانيَّة موضع التحقيق والتنفيذ، وهو في هذا سيكون أكثر وضوحاً من ألبورت Alport. ومن أصحاب النزعة الإنسانية أمثال روجرز Rogers وماسلو Maslow، فالسِّمة الأساسيَّة للطبيعة الإنسانيَّة هي مقدرتها على معرفة ذاتها ومعرفة ما ليس منها، أو ما هو مختلف عنها، وما أن يدرك الإنسان هذه الحقيقة حتى ينعزل عن الطبيعة وبقيَّة الكائنات، وهذا الانعزال أو الانفصال إذا نظرنا إليه من ناحيته الإيجابيَّة هو الحريَّة بعينها. أمَّا من ناحيته السلبيَّة فإنه يعني الاغتراب.

منذ زمن بعيد، رأى فروم أنَّ السبل تضيق بالإنسانية، وأنَّ أشكال المجتمعات الحاليَّة تدفع بالانسان إلى الاختلال والاضطراب، ولا بدَّ من بناء مجتمع جديد، ومن خطوة جريئة إلى الأمام تخرجنا من المرحلة شبه الإنسانية الحاليَّة، والتي لم يصبح فيها الإنسان بعد، كامل الإنسانيَّة. وبالطبع، لا يعني هذا نهاية العالم، أو بلوغ الكمال، أو الوصول إلى الانسجام الكامل الذي تتلاشى فيه المشكلات وأسباب الصراع، فالإنسان بطبيعة وجوده لا بدَّ من أن يحاط بالمتناقضات التي يتحتَّم عليه حلَّها من دون أن يصل فيها إلى نهاية، والمرحلة الإنسانيَّة القادمة هي التي يواجه فيها الأسباب الحقيقيَّة والواقعيَّة للصراع الإنسانيِّ، والتي عليه أن يكون فيها مغامراً، شجاعاً، بعيد الخيال، قادراً على الألم والمتعة.. إنها بداية جديدة للإنسان[5].

هكذا يمضي إريك فروم ليبيِّن للبشريَّة أُسُس “المدينة الفاضلة”، وطرائق بنائها وطبيعة سكَّانها، ولكلِّ هذا أُسُسه وقواعده الموجودة في المجتمع الحاليِّ، والأمر لا يستلزم في رأيه إلاَّ اتحاد الإرادات، فلا بدَّ من حركة مستهلكين تشكِّل تعبيراً وتجسيداً لنوع من الديمقراطيَّة الحقَّة الأصيلة.

من هنا، يدعو فروم إلى علم جديد للإنسان. فلا مستقبل لنا إلاَّ إذا وعت أنبه العقول البشريَّة أبعاد الأزمة الراهنة، وعبَّأت طاقاتها، وكرَّست جهودها المشتركة من أجل هذا العلم الإنسانيِّ الجديد، وعلى هذا العلم أن يجد حلولاً لمشاكل أساسية كبرى مثل:

– استمرار النمط الصناعيِّ ولكن من دون المركزيَّة الشاملة.

– الجمع بين التخطيط العام ودرجة عالية من اللاَّمركزيَّة.

– نبذ فكرة السوق الحرَّة، والتخلِّي عن هدف التنمية غير المحدودة، والأخذ بفكرة التنمية المختارة أو الانتقائيَّة.

– خلق شروط عمل ومناخ روحيٍّ عامٍّ يجعل  الرضا المعنويَّ والنفسيَّ أساساً للحوافز الفعَّالة وليست المكاسب والأرباح المادِّيَّة.

– السير قدُماً في تشجيع التقدُّم العلميِّ، والحيلولة في الوقت نفسه دون تحوُّل تطبيقاته العمليَّة إلى خطر على الجنس البشريّْ.

– خلق الظروف التي يمارس الناس في ظلِّها نعمة الحياة الطيِّبة الصالحة لا إشباع الحدِّ الأقصى لدوافعهم الشهوانيَّة.

– توفير متطلِّبات الأمن والأمان الأساسيَّة لأفراده من دون تحويلهم إلى أتباع أذلاَّء لبيروقراطيَّة تكفل لهم العيش[6].

 

المرتكزات الفلسفيَّة لأطروحات فروم:

لم يبرز إريك فروم كظاهرة فكريَّة مفارقة لحضارة ما بعد الحداثة، إلاَّ من خلال استيعابه وبالتالي نقده الجذريِّ لمنجزات هذه الحضارة. لقد راجع الفكر التنويريَّ، وكان على اتصال بأبرز ممثِّليه. وفي ميدان بحثه الجادِّ عن الأسباب الموضوعيَّة لنشوة ظاهرة الاغتراب في الحضارة الغربيَّة الحديثة قرأ بعمق فلسفة روسو مشيراً إلى نوعين من الاغتراب، أو إلى شكلين من الحالة النفسيَّة تلك:

-الشكل الأول: يعتبره روسو إيجابيَّاً بل ضروريَّاً للعقد الاجتماعيِّ الذي هو بصدده، حيث يسلِّم الفرد ذاته إلى المجتمع بغية تأسيس ذات اجتماعيَّة وكيان اجتماعيٍّ أكبر يدير الأمور ضمن نظام مجتمعيٍّ متَّفق عليه لغرض لمِّ شمل الأفراد وتسيير الأمور الاجتماعيَّة والسياسيَّة و……إلخ.

-الشكل الثاني: يعتبره روسو سلبيَّاً فيكون حيث تسلب الحضارة الذات الفرديَّة وتجعلها تابعاً للآخرين[7].

عند التدقيق في الشكلين المغتربين لروسو نلاحظ أنَّ التناقض في التشخيص عنده واضح للعيان. من جهة يرى أنَّ الذات الإيجابيَّة تأتي من خلال التسليم بوجودها للمجتمع بحثاً عن النظام والأمان. ومن جهة ثانية يتَّهم الحضارة كنظام مؤسَّسيٍّ وبُعد مادِّيٍّ للثقافة بالتسبُّب في استلاب الذات. والتساؤل المشروع هنا هو التالي: أيُّهما المسؤول لديه عن الغربة الذاتيَّة يا ترى؟ المجتمع أم الحضارة؟.

إنَّ الاستلاب الذي يخلُّ بالذات من أثر الحضارة يشعرنا بطبيعانيَّة نهج روسو وازدرائه الحياة المدينيَّة. ومن أجل تجنُّب الأثر الصادم على الذَّات الإنسانيَّة ومكننتها ينصحنا بالعودة إلى حضن الطبيعة والعيش فيها عيشة عفويَّة. بعد هذا نعود أيضاً لنتساءل: ألا نرى هنا أنَّ روسو هو المغترب الأكثر وضوحاً للعيان؟ إنَّه يمجِّد الذوبان داخل الجماعة مرَّة ويدعو للعودة إلى الطبيعة مرَّة أخرى؟.

لقد تناول فروم الجانب التصنيفيَّ لروسو حول مفهوم الاغتراب، إلاَّ أنَّه لم يناقشه حول صحَّة وخطإ الحالة الذاتيَّة. مع ذلك فهو لم يكتفِ بمرجعيَّة صاحب العقد الاجتماعيِّ، بل انصرف إلى الإفادة  من عدد من المرجعيَّات الفلسفيَّة لكي يبني نظامه الفكريّْ. من أجل ذلك، تعدَّدت مصادر إريك فروم التي ستشكِّل مرتكزات عمله الخاصِّ والمفارق في ما بعد. وفي هذا النطاق لم يكن فكر الفيلسوف والأديب الألمانيِّ فريدريك شيلر غائباً عن فروم، فهو أكَّد على الإنسان المغترب، ورأى أنَّه وقع تحت تأثير الثورة الصناعيَّة وتشرذمت ذاته بفعلها، وهذا هو التخبُّط الواضح في الذات التي باتت مغتربة ومنفصلة عن نفسها.

أمَّا هيغل فقد كان في الجانب المتعلِّق بفلسفة التاريخ الملهم لفكر فروم وخصوصاً حول الاغتراب الإنسانيّْ. الاغتراب بالنسبة إليه هو حقيقة أنطولوجيَّة تجد نفسها في (وجود الإنسان في العالم)، هل هو وجود نشط أم سلبيّْ؟ هل تعي الذات نفسها أم لا؟ الوجود النشط عنده هو الوجود بالعمل بمعنى تحديد فعاليَّة الذات الإنسانيَّة من خلال العمل والنشاط الواعي. والوجود الفاعل عنده يجد نفسه من خلال الاتحاد بين الوجود والماهيَّة، بمعنى أنَّ الماهيَّة التي هي العقل النشط لم تكن غائبة عن الوجود الإنسانيِّ وأيُّ حالة افتراق أو انشطار بين الطرفين (الوجود والماهيَّة) يعتبرها اغتراباً ووجوداً غير متناسب.

لكنَّ تحقيق الذات الذي يقف عنده هيغل، كثيراً ما نجده موضوعاً سايكولوجيَّاً بارزاً عند طائفة من علماء النفس غير فروم أمثال ابراهام ماسلو، وكارل روجرز، والوجوديَّين الآخرين (رولوماى وايغور كون). وهو يقول في فينومينولوجيا الروح “الإنسان لذاته هو العقل المثقَّف المصقول الذي شكَّل نفسه ممَّا كان عليه بالقوَّة أو في ذاته، وههُنا يصبح لأول مرَّة متحقِّقاً بالفعل. والإنسان لذاته عنده  بمعنى الرجوع إلى الذات والحريَّة في حركيَّتها، أمَّا في ذاته بمعنى الانطلاق منها إلى العالم والحالة هذه فهي الحريَّة بعينها وهي الفعاليَّة الذاتيَّة التي هي بصدد تحقيق ما تصبو دائماً إليه.

نأتي الآن إلى الفضاء الفلسفيِّ لفيلسوف الدين الألمانيِّ لودفيغ فيورباخ وأثره في فكر إريك فروم. فالاغتراب الدينيُّ الذي وقف عليه بجديَّة يشكِّل أيضاً مصدراً مهمَّاً لعمل فروم حول مفهوم الاغتراب. فهذا النوع من الاغتراب هو وعي الأفراد بصورة غير مباشرة عن أنفسهم، ويعتبره أساساً لكلِّ الأنواع الأخرى كالاغتراب السياسيِّ والاغتراب الفلسفيِّ والاجتماعيِّ والنفسيِّ، ذلك بأنَّ الحالة الاغترابيَّة عنده هي فقدان الفرد لجزء من ذاته الأصيلة.

اغتراب فروم وغربة ماركس:

إنَّ الملهم الرئيسيَّ لمنظومة إريك فروم السياسيَّة والفلسفيَّة وحتى الاجتماعيَّة والنفسيَّة هو كارل ماركس الذي جعل من الاغتراب في العمل وناتج العمل لدى العامل الموضوع الأهمِّ في مخطوطاته الاقتصاديَّة والفلسفيَّة 1844. فالمخطوطات الثلاث عملت على جلاء مفهوم الاغتراب بجديَّة واعتبرت الاغتراب في العمل مصدراً لكلِّ أنواع الاغتراب الأخرى والذي يتسبَّب بالعزلة الدائمة للفرد العامل عن أسرته ونفسه ومحيطه.

وهكذا ينقسم الاغتراب لدى ماركس إلى الأنواع الأربعة التالية:

1- الاغتراب في العمل.

2- الاغتراب من ناتج العمل.

3- الاغتراب من الذات.

4- الاغتراب من الآخرين.

 

لقد رأى فروم أنَّ ماركس اهتمَّ بالحلِّ الاقتصاديِّ للاغتراب بدل الحلِّ النفسيِّ كون الحالة هي نفسيَّة بامتياز ومرتبط مباشرة بالعمق السايكولوجيِّ للفرد. في هذا المجال، انتفع من ماركس كثيراً لا سيَّما من كتابه رأس المال، وتحديداً حول مفهوم التشيُّؤ الذي تبنَّاه في كثير من كتاباته ومباحثه السايكو- فلسفيَّة.

أمَّا فرويد فقد أسهم في بناء الفكر الفروميِّ مساهمة ليست بأقلَّ من المساهمة الماركسيَّة في بناء فكره السوسيو- سياسيِّ، ولكن التوجُّه الإنسانيَّ والاجتماعيَّ طغى على التوجُّه البايولوجيِّ والغريزيِّ.

لقد تطرَّق فرويد إلى الاغتراب والإنسان المبالغ في القلق والعصابيَّة في كتبه “مستقبل الوهم”، و”قلق في الحضارة”، و”الطوطم والحرام”، و”الأمراض العصابيَّة”، و”نظريَّة الأحلام”، و”موسى والتوحيد”، وكثير من الدراسات حول الهستيريا و…..إلخ). إنَّ البناء الحضاريُّ لدى فرويد لن يكتمل ما لم يقدِّم الفرد والمجتمع الإنساني تضحيات بالغة بالطاقة الحيويَّة لديهما، الحضارة عنده تساوي ارتفاع مستوى وحجم القلق لدى الأفراد كونهم لا يعيرون الاهتمام الكافي وراء النزوات والرَّغبات وينهكون طاقاتهم لأجل إظهار أبعاد مادِّيَّة لجهودهم العقليَّة والتي تتجسَّد في الآثار الحضاريَّة.

كان لفيلسوف العدم فريدريك نيتشه حضور بارز في تشكيل فكر إريك فروم. فقد تنبَّه الأخير إلى صرخة نيتشه في “نقيض المسيح” عندما قال: لقد رفعت الستارة عن فساد العالم. إنَّ كلَّ القيم التي تضع فيها الإنسانيَّة اليوم مجمل أمانيها هي قيم الانحطاط. وهو إذ اعتبر أنَّ عقله متحرِّر بامتياز من قيود المقدَّس، أشار إلى أنَّ التحرُّر هذا أعطاه الجرأة لكي يكشف عن 19 قرناً من الأكذوبة والخداع. في هذا السياق يقول: لا ينبغي للإنسان أن يرى خارجاً بل أن يرى داخل نفسه ولا ينبغي له أن ينظر إلى الأشياء كطالب معرفة بذكاء وفطنة وحذر، بل لا ينبغي له أن يرى أصلاً: عليه أن يتألَّم…وعليه أن يظلَّ يتألَّم على نحو يجعله دائم الحاجة إلى القسّْ… ليذهب الأطبَّاء إلى الجحيم! إنَّما المرء بحاجة إلى مخلص. يسترسل نيتشه في انتقاداته للفرد المسيحيِّ في “نقيض المسيح” ويضيف: لابدَّ من أن يكون الفرد مريضاً لكي يشعر بمسيحيَّته.

توقَّف فروم مليّاً أمام الأفكار النقديَّة الغاضبة والرَّفضيَّة التي تنطلق من الحسِّ فوق الإنسانيِّ لنيتشه حيث شعر بأنَّ البشرية ساقت أفرادها إلى جحيم العبوديَّة والسلبيَّة، ولذا فلا بدَّ من أن ينتفض لأجل إيجاد منافذ للخلاص من الغربة الطويلة هذه.

في مرحلة متأخِّرة من مسارات ما بعد الحداثة سيكون لإريك فروم لقاء مع فلسفة الاغتراب والحضور للفيلسوف الوجوديِّ الألمانيِّ المعاصر مارتن هايدغر. فهذا الفيلسوف كثيراً ما تجده في ثنايا مؤلَّفات فروم ليس أقل من نيتشه حيث تملأ فكرة الوجود الأصيل والوجود اللاَّأصيل كتابه (الوجود والزمن). فعلى سبيل المثال يشير هايدغر إلى الأنا في كلِّ مرَّة والأنا الضائع في نفس – الهم- وكذلك يؤكِّد في موقع آخر في كتابه المشار إليه “أنَّ الدازاين يبلغ ماهيَّته في الوجود الأصيل الذي يجد قوامه في الاعتزام. يحاول هايدغر أن يقول لنا إنَّ التحرُّر من ربقة ذات -الهم- هو العودة إلى الأصالة والتحرُّر من ظلمات الآخرين والغياب عن النفس. الأنا الفاعل الذي هو الموجود لنفسه وكذلك في نفسه، بمعنى أن يعمل كفرد مستقلٍّ عن الآخرين، وينطلق من نفسه تجاه الآخرين. والاغتراب من وجهة نظر هايدغر يتحوَّل بالفرد إلى كائن غائب عن الزمن كونه يقلب وحداته من دون الوعي بها.

لكن أصل الاغتراب في فكر إريك فروم يعود إلى الفرد والمجتمع معاً. وهذا ما سيعرضه لنا عندما تيحدَّث عن الصدام بين الكينونة والتملُّك.

لقد صارت الغاية المقدَّسة للعصر الصناعيِّ اقتناء الممتلكات، حتى أنَّ التملُّك لم يعد يقتصر على الأشياء المادِّيَّة؛ وإنَّما اتَّسع ليشمل الأفكار والمعتقدات. وإذا كان هذا النزوع الاستهلاكيُّ هو الذي يعكس الاتِّجاهات الاجتماعيَّة السائدة، فهناك أنماطٌ استهلاكيَّة (ليست أشكالاً متخفِّية من التملُّك، ولكنها تعبير عن متعة حقيقيَّة بأن يفعل الإنسان ما يجب من دون انتظار الحصول على شيء “دائم” من وراء ذلك). على أنَّ هذه الأنماط الثائرة والتي تبدي نوعاً من التمرُّد على الاتِّجاه السائد، هي أنماط هامشيَّة والمؤمنون بها قلَّة لا أثر لهم في الواقع الاجتماعيّْ.

نقد المسيحيَّة اللاَّهوتيَّة:

في سياق تحليله السوسيو- تاريخي لموقع المسيحيَّة وقيمها الأخلاقيَّة في المسار التراكميِّ للرأسماليَّة يرى إريك فروم أنَّ هذه القضيَّة رؤية متداخلة. وستأخذه هذه الرؤية إلى نقد اللاَّهوت المسيحيِّ الذي لم يميِّز بين التقدُّم التقنيِّ وبين ضرورة الرَّقابة الأخلاقيَّة على آليَّات التراكم الماديِّ، وهي الآليَّات التي تؤدِّي برأيه إلى إفساد الروح العام. ولكنَّه سرعان ما يفصل بين البعد اللاَّمتناهي للدين بما هو علاقة مع الله، وبين اللاَّهوت الكنَسيِّ من جهة كونه سلطة زمنيَّة محكومة بوظائف السياسة والاقتصاد والاجتماع.

وهكذا يشكِّل الدين في نظر فروم أحد أهمِّ الركائز التي لا يمكن الاستغناء عنها في إحداث أيِّ تغيير اجتماعيٍّ، ذلك أنَّه بتفاعله مع البنية الاقتصاديَّة للمجتمع، والبنية النفسيَّة للفرد تتشكَّل ما تُسمَّى بالشخصيَّة الاجتماعيَّة، ولذا يجب أن يُفهم الدين بمعناه الواسع أي باعتباره (نظاماً للفكر والعمل تشترك في اعتناقه جماعة من الناس يعطي لكلِّ فرد في الجماعة إطاراً للتوجُّه وموضوعاً يكرِّس من أجله حياته). إنَّ هذا التحديد لا يركِّز بالأساس على محتوى ومضمون الدين، ذلك أنَّ الحاجة الدينيَّة متأصِّلة في الوجود الإنسانيّْ.

غير أنَّ فروم سيذهب بعيداً في نقد التوظيف الرأسماليِّ للمسيحيَّة واليهوديَّة في الغرب. فقد رأى  في هذا الصدد أنَّ تأمُّل المحطَّات التاريخيَّة التي مرَّ فيها الدين المسيحيُّ في أوروبا منذ عهد الأمبراطوريَّة الرومانيَّة إلى الآن، يبيِّن أنَّ اعتناقها للديانة المسيحيَّة (كان زائفاً إلى حدٍّ كبير)، ذلك أنَّ اللاَّهوت الفكريَّ المسيحيَّ لم يحافظ على أصالة قيمهِ ومبادئهِ التي تأسَّس عليها، ولا أدلَّ على هذا أنَّ (تاريخ أوروبا هو تاريخ للغزو والاستغلال والقوَّة واللإخضاع والقهر، ولا تكاد تمرُّ فترة أو مرحلة من التاريخ الأوروبيِّ إلاَّ كانت هذه سمتها. وإذا كانت الحضارة الأوروبيَّة قد انحرفت عن المبادئ والمُثُل المسيحيَّة الأصليَّة، فإنَّ الدين المسيحيَّ قد حافظ على “صورته”، أمَّا “مادَّته” فقد استحالت إلى دين جديد، وهو الدين الصناعيُّ الذي جعل التملّك والإدِّخار هو أساس الحياة، حيث الشخصيَّة الاجتماعيَّة متمركزة حول السِّلع والأشياء، وبسبب من ذلك بدأت تختفي ملامح  الشخصيَّة الإنسانيَّة الطبيعيَّة، لتحلَّ محلَّها “الشخصيَّة التسويقيَّة”، تلك الشخصيَّة التي لا فرق بينها وبين الأشياء والممتلكات.

لقد كان هذا الوضع الذي صنعه الدين الجديد والذي يتعارض مع الطبيعة الإنسانيَّة، وراء ظهور حركة احتجاجيَّة إنسانيَّة، جلُّ المطالب التي تطالب بها تلك الاحتجاجات هي ذات جذور دينيَّة، بل وتدعو للعودة إلى إحياء القيم والمعاير الدينيَّة، وهي حركة ترى أنَّ الخلاص البشريَّ من هذه الكارثة هو (توليد مجتمع جديد يحرِّر الإنسان من الاغتراب والعبوديَّة للآلة!) ويرى أنَّ المدخل للمجتمع الجديد يتمثَّل بإجراء تغيير جذريٍّ في البناءين الروحيِّ والأخلاقيّْ. لكن ما هي طبيعة هذا المجتمع؟ وما هي ملامحه؟

عند هذه النقطة بالذات يبلغ التصعيد الفكريُّ عند فروم درجته القصوى، وخصوصاً عندما يعالج قضية الحضور الإنساني في الحياة وتأرجُحه بين التملُّك والكينونة.

ولعلَّ أهمَّ الأفكار التي ضمَّنها في كتابه “الإنسان بين المظهر والجوهر” هو ما ذهب فيه إلى القول بأنَّ هناك نمطين يتصارعان من أجل السيطرة على الشخصيَّة الإنسانيَّة واحتوائها:

-الأول: “التملُّك” الذي سجن الإنسان في عالم الاستهلاك والمادَّة، وهو النمط الطاغي على الحضارة الصناعية المعاصرة..

-الثاني: “الكينونة”، وهو النمط الذي تتجلَّى فيه ملامح إنسانيَّة الإنسان بشكل واضح.

يعالج فروم هذين النمطين بعمق ليبيِّن أنَّ الكائن الإنسانيَّ هو المخلوق الوحيد في عالم الموجودات الذي يمتلك القدرة على تحديد مصيره. وهو لذلك يسعى في عيشه للبحث عن السعادة انطلاقاً من هذه القدرة. فالإنسان – حسب فروم – تارة نراه يجد سعادته في التملُّك والحرص على المنفعة الذاتيَّة، وتارة أخرى يحاول أن يجدها من خلال البحث عن معنى وجوده في الحياة.

في الواقع، إنَّ نزوع الإنسان نحو التملُّك هو جزء من طبيعته، التي لا يمكن أن تستقيم من دون امتلاكه لأشياء يحقَّق بها وجوده بل ويحافظ عليه، فأسلوب التملُّك ليس بالشيء المذموم إلاَّ عندما يصبح هو الأسلوب الذي يشكِّل الحياة؛ أي حين يصبح الإنسان عبداً للأشياء والمقتنيات التي من حوله، ورغم أنَّه أمر طبيعيٌّ بل وضروريٌّ؛ إلاَّ أنَّ السعادة الحقَّة مرتبطة بجوانب أخرى في حياة الإنسان تحتاج إلى تأكيد وتغليب أكثر من الجانب التملُّكي، خصوصاً الجانب الروحيِّ الباطنيّْ[8].

لقد ارتبط الأسلوب التملُّكيُّ في الحياة المعاصرة بنزوع الإنسان نحو الاستهلاك المتطرِّف، ومن ثمَّة فالاستهلاك هو أحد أهمِّ وأخطر أشكال التملُّك، أمَّا كيف يتمظهر الأسلوب التملُّكي في الحياة؟ فالجواب عند فروم يبدأ من طريقة التعليم المعاصرة التي تكشف بعضاً من الفروق بين التملُّك والكينونة، فالتعليم الذي يركِّز على التلقين السلبيِّ، الذي يكون دور الطالب مقتصراً فيه على تدوين المعلومات وحشوِها في مذكَّرات هذا النمط من التعليم الذي يجعل أساس العمليَّة التعليميَّة امتلاك المعلومة وحفظها، هو نمط تملّكيٌّ، خلافاً للطريقة التي تخلق حواراً وتجاوباً بين المدرِّس والطالب، عن طريق التركيز على إعمال الفكر وطرح الأسئلة المرافقة للدرس بشكل يبعد الطالب عن السلبيَّة، ويجعله في حالة تفاعل مثمر مع ما يتلقَّاه من معلومات ومعارف. على أن ما يُظهر الفرق بين التملُّك والكينونة هو طريقة التخاطب والحوار التي تجري بين الناس، فالذي يعبِّر عن رأيه، ويعتبر ذلك الرأي جزءاً منه ولا ينفصل عنه، هو، ضمنيَّاً، يعتبر ذلك الرأي من ممتلكاته الشخصيَّة، حيث يصعب عليه التنازل عنه. أمَّا الذين يتجاوبون بطريقة عفويَّة بعيدة عن التكيُّف فإنَّهم قادرون على تجاوز “مركزيَّة الذَّات” وفي هذه الحالة يكون الحوار والتواصل مثمراً وفعَّالاً، حيث يتمُّ التركيز على تبادل الأفكار بغضِّ النَّظر عمن يملك الصواب فيها[9].

إذا كان بالإمكان إجراء تلخيص مكثَّف لنظريَّة إريك فروم في مجال القيم، وخصوصاً ما يتعلَّق منها بقضية الاغتراب الإنسانيِّ في العصر الرأسماليِّ، فيمكننا القول أنَّنا أمام نظريَّة أخلاقيَّة متعالية تسعى لتخليص الإنسان الغربيِّ من غربته وكآبته وانفصامه…

 

 

 

 

                                                                    (باحث في الفلسفة الغربيَّة الحديثة- جامعة القديس يوسف – بيروت).

 

[1]– مأمون التلب – مرض الإنسان الحديث عند إريك فروم – المدوّنه الإلكترونيَّة الخاصَّة – الجمعة 7 شباط (فبراير) 2014 http://Teenia.blogspot.com

[2] – راجع: من سي. ل. بيكر: المدينة الإلهيَّة لفلاسفة القرن الثامن عشر، نيوهافن 1932م، ص142-143.

[3]– بيكر – المصدر نفسه- ص 144.

[4]– لطفي فطيم – مقدِّمة ترجمة كتاب إريك فروم – الإنسان بين المظهر والجوهر – ترجمة سعد زهران – سلسلة عالم المعرفة- رقم 140- الكويت 1989 – ص 15.

[5]– فطيم – المصدر نفسه.

[6]– المصدر نفسه – استناداً إلى ما جاء في كتاب إريك فروم حول أطروحته عن الكينونة والتملُّك.

[7] – محمد طه حسين – ذاتنا المغتربة من منطلقات فكر إريك فروم – مركز الدراسات والأبحاث العلمانيَّة في العالم العربي – راجع موقع:  www.ssrcaw.org

[8]– راجع: فروم – الإنسان بين المظهر والجوهر – مصدر سابق، ص 195.

[9]– عبد الحكيم كرومي – من التملُّك إلى الكينونة – نقلاً عن موقع http://arabi21.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى