إشراقات عرفانية…
إشراقات عرفانية…
الشاعر الفارسي الصوفي جلال الدين الرومي*
د.ميساء يوسف علي
طبَّقت شهرته الآفاق، وذاع صيته بين العلماء،عُرِفَ في الشرق والغرب باسم شاعر الإنسانية والحب الإلهي إنّه جلال الدين الرومي محمدٌ البلخي المولود سنة (604هـ-1257م) الشاعر الصوفي الفارسي،والمعروف بالرومي نسبة إلى بلاد الروم قديماً،والتي تعرف حالياً بتركيا، لَقَبهُ(خدواندكار)وتعني مولانا،وهو لفظ أطلقه عليه مريدوه لتفرده بالطريقة المولوية.
رحل عن وطنه الأم فارس إلى بغداد ومنها إلى مكّة تليها دمشق إلى أن انتهى به المطاف في قونية (تركيا) ،حيث عمل في تدريس الفقه والعلوم الدينية الإسلامية لبراعته المشهودة له في ذلك الوقت.
لقد منّ القدر عليه بلقاء أشبه بالسحر بينه وبين شمس الدين التبريزي الذي أمسى شيخه الروحي، فقد لعب دوراً كبيراً في فتح بصيرة الرومي حول أهمية علوم الحقيقة ودور العشق في الوصول إلى المعرفة.كما حوَّلَ أنظاره إلى ضرورة الاهتمام بالجانب الروحي في الإنسان. لقد شكَّل هذا اللقاء نقطة التحول الكبرى،حيث اعتُبِرَ بداية الانجذاب الصوفي عند جلال الدين الرومي، وخاصة بعد أن تحولت رزانته إنشاد أشعار لا ينقطع، ونيران عشق تستعر، وروح هائمة في فضاءات المعنى بقلب يفيض بالإلهامات الإلهية والمعرفية .
والملفت للنظر أن جلال الدين الرومي لم يقف عند النظرة الإنسانية لشمس التبريزي بل تعداها إلى اعتباره وليَّ عصره وزمانه، وخصه بمكانة سامية، فقال في وصفه :
مليكٌ يمنحُ الرَوح مُلكاً فخرُ أهلِ تبريزَ
هو مَنْ ينطقُ في أسرار العشق نَطقَ المصطفى.
اختار الرومي العشق المعرفي طريقاً لمعرفة الله فلم يكن عشقُه على هيئة شكل أو صورة، بل كان شاملاً؛ لأنّ العاشق الحق هو الذي يدرك السر الإلهي و المعنى الخفي من وراء تعدد الصور.يقول:
يدان، عينان، قدمان، لابدَّ أنّ ذلك خير،
بل إنَه لا شقاق يسن فروقاً لا تفي
كـ”يهودي”،”مسيحي”، ومسلم.
كما تميز الرومي بالخروج عن النظرة التفاضلية للأديان إلى النظرة التكاملية، حيث أنها بمجموعها خير ومحبّة، ولابدَّ لهذا الخير أن يفصح عن نفسه بصور شتى تراعي التطور المعرفي وانفتاح الوعي الإنساني على الوجود الأسمى، لكن الأهم من ذلك كله أنّه جعل حياته صورة حيّة حقيقة للتسامح والإخاء الإنساني.
اعتبر الرومي أن الطريق إلى الله هو طريق الحب نفسه الذي خلق الله به العالم، فكان العشق القوة السارية في الموجودات كلها مما يفسر انجذابها إلى خالقها الذي به تستقيم النفس وترتقي.
يقول :السماوات بالعشق تأتلف
النجم بغير عشق ينخسف
صارت الدال بالعشق ألفاً
كل ألف بغير عشقٍ دال.
كما اهتم الرومي بالموسيقا التي تتناغم مع الأناشيد الصوفية الرومية مما جعلها تزيد أرواح العاشقين سمواً، و تزيد نفوسهم نقاءً و ارتقاءً في مدارج العشق الإلهي.
نجح الرومي في إيصال رسالته إلى البشرية بدليل اهتمام الشرق والغرب بمؤلفاته والاعتراف بعبقريته الشعرية، وفهمه العميق لفلسفة الوجود؛لأنَّ نتاجه كالشمس في أشعتها ينفذ ويتخلل الأشياء، ثم ينعكس على صفحة الوجود بأنواع شتى من التعبيرات.
كما أن المحبة التي نالها الرومي في الأوساط العالمية شاهدٌ حيٌّ على أنَّ الحبَّ الإلهي الذي سرى في كيانه انتقل إلى محبيه وقارئيه، وكأن العشق أصبح العدوى التي لا مفر منها، وأيُّ عدوى تلك التي ترق بها الروح وتصفّيها .
ترك لنا الرومي العديد من المؤلفات كتبت جميعها باللغة الفارسية، وقد عكف الباحثون على ترجمتها ودراستها، نذكر منها:المثنوي المعنوي، ديوان شمس تبريزي، الرباعيات، الرسائل، وكتاب فيه ما فيه. ولاتزال الدراسات مستمرة حول القضايا التي أثارها الرومي وانشغل بها وأشغلنا بها إلى يومنا هذا.
فمن الطبيعي أن يكرِّم الإيرانيون شاعرهم العظيم و يحتفلوا به في يوم الثلاثين من شهر أيلول/سبتمبر من كل عام و يقيموا من أجله المؤتمرات والنّدوات الأدبية والعرفانية،فهو جديرٌ بلقب “شاعر الإنسانية والحب الإلهي”و يستحقُّ كلَّ إشادةٍ و تقدير و تكريم.
فطوبى لمن كانت حياته تأملات وعرفان وأغنى روحه بالمعرفة و قدم للفكر الإنساني أسمى المعارف الروحانية .. طوبى لروح جلال الدين الرومي وهي تحلق بسلام وسرور في عالم الروح.
____________________
*نقلًا عن موقع صحيفة “الوحدة”.