في وجوب التنظير
من أجل هندسة معرفيَّة لتفكير عربي إسلاميّ مفارق
د. محمود حيدر
* مفكِّر وباحث في الفلسفة والإلهيَّات – لبنان
* استاذ محاضر في الفلسفة والأديان المقارنة
* رئيس مركز دلتا للأبحاث المعمّقة.
رئيس تحرير فصليَّة “علم المبدأ”
*
مسعى هذه الأملية، النظر في إمكان التأسيس لمنهج في المعرفة يفتح الآفاق على استيلاد الأفكار وسط عالم مكتظِّ بالمفاهيم المستعادة ومسكون بمعضلة التكرار والتقليد. ولقد ابتنينا هذا المسعى على فَرَضية التنظير بوصف كونه ممارسة تفكيرية تتوخي تنشيط حركة الفكر، واستكشاف عِلَلها، وتظهير الأجوبة على الاسئلة المتعلقة بشأنها.
تنعقد مطالعتنا على محورين متلازمين يتمِّمان بعضهما بعضاً:
المحور الأول، مقتضاه إحياء سؤال التنظير من خلال تظهيره على ثلاثة مستويات:
- تعريف مفهوم التنظير في حقليْ النظر والعمل.
- استكشاف حيويات التفكير في البيئات العربية، وبيان مشكلاتها، والسعي الى صوغ استراتيجية معرفية تسهم ولو بقسط يسير في ايقاظ مكامن المعرفة في أوساطها وتسييل ما تختزنه من إمكانات ووعود.
ج- نقد الاستغراب السلبي في الفكر العربي والإسلامي المعاصر. وهو جهد معرفي يتغيَّأ فهم وتدبُّر أحوال النخب في مجتمعاتنا، ولا سيما لجهة تلقيِّها العَجول لتدفقات الحداثة الغربية في حقول الفلسفة والفكر والعلوم الإنسانية.
المحور الثاني: وهو نظير للأول وملازم له. حيث لا تنظير يعوَّل عليه في البيئة المشرقية بمنأى من المتاخمة العميقة لمشكلات الفكر الإنساني وتأسيساته الفلسفية منذ المنقلب الأرسطي الى ازمنة الحداثة وما بعدها. ما يوجب – تبعاً لذلك -. بيان معاثر الفلسفة الغربية الحديثة بما هي امتداد للميراث اليوناني، ومعاينة آثاره عليها تكوينياً وتاريخياً.
- التنظير في ماهيته والغاية منه
يتغيَّأ وجوب التنظير التمهيد لمنفسحات تفكير تستحثّ على تظهير الأسئلة التي لم تُسأل بعد، أو تلك التي سُئِلت من قبل ولمّا يُجْبَ عليها. ولقد ابتنينا هذا المسعى على فَرَضية مؤداها ان التنظير بذلٌ معرفيٌ وممارسةٌ تفكيريةٌ تتوخى تحرِّي عِلَلِ الانسداد الحضاري بغية التعرُّف إليها، وفهمها، واستيلاد المفاهيم المتعلقة بشأنها.
والتنظير – بحسب فرضيتنا- غير موقوف على توصيف ظواهر الأفكار والاحداث. فإنما هو قبل أي شيء، مجهود متبصِّر يروم معاينة القابليات الكامنة وراء الظواهر، والمفضية من ثمة الى ولادتها. من أجل ذلك فإن الأفق الذي يتخذه التنظير مسلكاً له يمضي الى عمق الفكرة ومنشأ الحدث ليستظهرَ منهما ما كان يشقَّ على الفهم. الأمر نفسه يجريه التنظير حيال التاريخ وأحداثه. فإنه يعاين المستتر في تحولاته سعياً الى جلاء ما يحيطها من لبس واشتباه. وعليه فإن مهمة المنِّظر تنحو في اتجاهين متوازيين: انطولوجي وتاريخي. وعبر هذين الاتجاهين يُقصد التعرف على الوجود الاصيل، وعلى ظهوراته في الزمان والمكان. فالتلازم بين الاتجاهين شأن أصيل وجوهري في الجهود التي يبذلها الفكر الانساني للتعرف على العالم وفهم حقائقه المعلنة والمستترة. من أجل ذلك حقّ التفكر بهما معاً خلافاً لما درج عليه الفصل الذي اقترفته الفلسفة الأولى وامتداداتها المعاصرة بين الوجود والموجود. بهذا المعنى يتغيَّا التنظير النفاذ الى قلب الظواهر لاستكشاف أسباب ظهورها. أي متاخمة المبدأ الذي بسببه ولدت الأحداث من الأفكار، والأفكار من الأحداث. ثم ان ينتقل الى طور أعلى ليتاخم ما لا يتناهى التفكُّر فيه. وعليه فإن مهمة مركبة كهذه تستحث على التقدم نحو فتوحات فكرية تملأ مناطق الفراغ في الحيز الحضاري الذي تنشط فيه، مثلما تسهم في تخصيب فعاليات التفكير على نطاق الحضارة الإنسانية ككل.
مهمة التنظير التي نرمي اليها، هي ضربٌ من مبادرة تراهن على اجتياز ما هو مألوف من أسئلة شغلت مجتمعاتنا زمناً طويلاً.
ان أصل التفكير بتنظير الحادث الإنساني والقيم الناشئة عنه يشير الى الاستعداد والقابلية لفتوحات مستأنفة في فضاء الفكر ومشاغله. وهنا يكمن البعد الخلاَّق للمهمة التنظيرية بما هي فلسفة عمل. من ناحية تتوجه نحو كل ما لم تُدرَك حقائقه بعد في عالم الأفكار، ومن ناحية ثانية تنخرط في قلب الحدث لتتعرف إليه بالتجربة والمعاينة الميدانية. في رحلته الشاقة هذه لا ينبغي لحامل المهمة ادعاء القدرة على الإحاطة بالموضوعات الداخلة في مجال عمله. فلو انه أفلح مرة في الكشف عن غامض فكري ما، أو شقّ السبيل لجلاء معضلة كانت عصية على الفهم فلا تأخذه دهشة الصنع، بل هو يمضي ليعاين القضية بغية استبيان حقائق لا تزال قيد الاحتجاب. فالمنظِّر يدرك أن الذات المفكرة قادرة على الفعل والإيجاد متى غادرت وتكاملت بالوجود. وحالذاك لا تعود هذه الذات حبيسة القلق والتشظي وانعدام اليقين. ولا يعود السؤال بالنسبة اليها مطروحاً لمجرد السؤال، وإنما ذاك الذي تسألُه ذاتٌ مسؤولة تنظر وتتدبَّر.
- السؤال المؤسس كمنهج للتنظير
إذا كان للتنظير – بحسب ما تذهب أطروحتنا– غاية تأسيسية لأفق جديد في التفكير، فلزومه سؤال مؤسس يكون من طبيعته وسلالته. والسؤال المؤسس هو الذي يُبنى منه وعليه فهم الوجود. والمقصود بالتأسيس في ماهية هذا السؤال يقوم على تلازم وطيد بين الانطولوجي (علم الوجود) والفينومينولوجي (علم ظواهر الوجود). أما جلاء هذه الحقيقة فلا يتأتى من التشطير بين المرتبتين، وإنما من التجانس والإنسجام بينهما، حيث يكون السؤال مطابقاً لكل مرتبة وجودية بقَدَرِها.
وما كنا لنتطلع الى سؤال يؤسِّس للتنظير ويفتح على بدءٍ جديد، إلا لقصور الخطبة الفلسفية الحديثة عن الإفلات من عالم الممكنات. فالأسئلة الناشئةَ من هذا العالم والمشدودةُ إليه هي أسئلة تتبدَّد تبعاً لتبدُّد موضوعاتها. أما السؤال المؤسِّس فسمْتُه الأصالة والرسوخ والامتداد ومجاوزة الممكنات العارضة. بيد انه وهو يغتني بهذه السمات المفارقة لا ينأى من دنيا الأشياء، بل يسعى إليها ويشملها باهتمامه ورعايته باعتبارها حقلاً ضرورياً الى متاخمة المطلق. يكتسب السؤال المؤسِّس القدرة على التمهيد للمابعد. حيث لا يحد من تجدده وديمومته متعاقبات الزمن مهما تنوّعت موضوعاتها وتكثَّرت حوادثها.
والسؤال المؤسِّس بوصف كونه بَدءاً أوَّلياً، يرقُب كل سؤال يأتي من بعده. يعاينُه ويعتني به بالتأييد والتسديد. والأثر المترتب على المعاينة لا يقتصر على نتائج المراقبة والفحص لبيان خطأ أو صواب الأسئلة الفرعية، وإنما أيضاً في معرفة مدى صواب وخطأ السؤال المؤسس نفسه. فهذا الاخير بحكم تعاليه وتواضعه ينظر إلى نفسه بميزان المحاسبة وعين النقد، فيما هو ينقد كل سؤال فرعي ويختبر جدواه. فلو جاءت النتيجة، على سبيل المثال، باطلة، فذلك يعني أن السؤال نفسه يحمل في داخله شيئاً من البطلان. إنها طريقة عمل السؤال المؤسِّس التي تتوسل حكم الواقع لا حكم القيمة وحسب. تبعاً لهذه الطريقة لا تعود أحكامُه متعلقة بخيرية مقاصد الفكرة أو حسن طويَّتها، وإنما بواقعها الزماني والمكاني الذي نشأت فيه. ذلك بأن حقَّانية كل استفهام عن شيء ما تعود الى التناسب بين اللحظة التي طُلِب فيها واللحظة التي يستجاب له فيها عن ذلك الشيء.
السؤال المؤسِّس محيط بمبتدأ الأفكار وخواتيمها. ومتبصِّر في مسار الزمن ومآلاته. من أجل ذلك كان له ان يحظى بمكانة أصيلة في فلسفة التاريخ. وهذه المكانة متأتيِّة من توفِّره على تكوين ذاتي يدرك التناسب بين لحظة صدور الفكرة وزمن تحقِّقها في واقع محدَّد. على حين أن تحويل الفكرة الى حدث هو أمرٌ غير مرهون فقط برغبة السائل والميقات الذي يحدِّده لتلقي الجواب، وإنما يعود أيضاً الى ما تقرره روح التاريخ المحكومة بالأسباب، حيث تحدد الوقت الأنسب لمثل هذا التحويل.
فلكي يكتمل السؤال المؤسس وينجز ذاته سيكون على سائله أن يبذل جهداً مضنياً للعثور على ما يؤسِّس لآفاق الفكر وما يوقظ التاريخ من كسلِهِ ووهنه، وكذلك ما يحمل على التساؤل عما يحتجب أو يتعذّر فهمه.
كان الفيلسوف الألماني فرانز فون بادر Franz Von Baader (1756- 1841) (وهو أحد أهم فلاسفة عصر المثالية الألمانية) يتحدث عن المبدأ الذي يؤسِّس ويؤسَّس منه وعليه. وقد قارب موضوعه الشائك على نحو فارق فيه معظم فلاسفة الحداثة من ديكارت مروراً بكانط وصولاً الى هيغل ومن تبعهم[1].
تبتدئ الفلسفة عند بادر بالسؤال عن الذي يؤسّس بنية الكينونة والتفكير. ويقصد بذلك المبدأ الأساسيّ الذي يُحدث الكينونة ويؤيّدها ويرعاها. هذا المبدأ يجيء إثر النسيان الذي اقترفته الميتافيزيقا الأولى بحق الوجود ثم سرى بالوراثة الى أزمنة الحداثة. يذكر بادر بهذا المبدأ الذي يخلق ويؤسّس ويدعم في الوقت نفسه. هو عنده أكثر من مجرد سبب أوّل، أو محرك أول كما وصفه أرسطو مثلاً. فعندما يكون الذي يُحدث ويؤيّد ويساعد مؤسِّساً فبديهي أن يكون هو الذي يُحدث ويؤيّد ويساعد. فالمحدِث والمؤسّس الأول لا يمكن أن يُحدث ويؤسّس غيره من قبل أن يُحدث ويؤسّس نفسه أولاً. ومن خلال كونه مؤسِّساً لذاته فقط، يمكن لذاتيّ التأسيس أن يؤسّس.
لقد رأى انه لا يمكن لسببية أُولى لا تكون مؤسَّسة بذاتها أن تكون سببية أُولى. وأي تفكير لا يكون تفكيراً نابعاً من ذاته وواعياً لذاته وللغير، لا يمكن ان يكون مؤسِّساً ومُحدِثاً للتفكير والوعي. فالسببية الأولى سببية أولى لأن الإحداث يعني التأسيس بالذات، والتفكير بالذات والوعي بالذات. وإن هذا الإحداث للذات وإنشاء الذات لا يمكن أن يحدث بأي شكل في العالم المتناهي، وانما في حياة الحقيقة الإلهية اللامشروطة والأزلية والتي لا بداية لها[2].
فالمبدأ المؤسِّس بحق هو الذي يولّد المعرفة وكل ما يتعلق. ذلك بأن المعرفة المطلقة والخالقية المطلقة يتماهيان في المبدأ. أي مطابقة روح السؤال مع روح الاستجابة. وبذلك يكون المبدأ المؤسِّس للسؤال مبدأ حقاني، يتاخم الأبدية ويرعاها بقدر ما يفيض على الزمان الطبيعي ويرعى أحقابه المتفاوتة في ضعفها وشدَّتها. من داخل ذلك كان من السمات الجوهريّة للمبدأ المؤسِّس التنبيه الى حقيقة أن تماهي الذات والموضوع في العقل الواعي لذاته يفضي الى إدراكهما معاً بحيث يدرك عندما يُحدِث. وعندما لا يكون وعي الذات تماهياً أزلياً بين الذات والموضوع لا يكون تماهياً حقيقياً؛ لأن التماهي بين ما يُحدِث وبين ما يُحدَث، والتماهي بين ذات وموضوع الوعي الذاتي الذي لا ينشأ إلا في الزمن، ليس تماهياً، بل هو تعاقب وإلغاء للفوارق. وهذه المعرفة اللاأولية أو الثانوية هي معرفة ذاتية لكل عقلٍ متناهٍ. والعقل المتناهي لا يؤسِّس ولا يحدِث نفسه، ولا يُعرف إلا بكونه معروفاً من الروح المطلق الذي أحدثه. أما النتيجة التي يتوصل إليها فون بادر فهي التنظير لمنظومة معرفيّة تقوم على الوصل بين الموجود والواجد، وعلى الرعاية التامّة التي يؤديها المبدأ المؤسّس للموجودات ويجيب على أسئلتها أين كانت وكيفما صدرت: وبناء على هذه النتيجة يصبح كل تفكير ذاتي للموجود المحدود مفكَّر فيه، ويعرِف أنه مفكَّر فيه في الوقت نفسه. بذلك يكون بادر أول من أماط اللثام عن الخلل المعرفي في ذاتية الكوجيتو الديكارتي، على أساس أن “الأنا أفكر” (الكوجيتو) هي دائماً في الوقت نفسه «أنا مفكّرٌ فيّ إذا أنا أفكٍّر (cogitor ergo cogito)[3].
- زمانية التنظير وجغرافيته
للأفكار بدء وختام، ومبتدأ وخبر. وهي ككل العوالم التي تولد وتعيش ثم تشيخ وتؤول الى الانتهاء. ولأنها متعلقة بزمان حدوثها وجغرافية هذا الحدوث، فإن لكل فكرة مكان تولد فيه وتنمو حتى تؤدي الغاية من ولادتها. ذلك ما نستدل عليه في ما يمكن تعريفه بـ “زمانية التفكير وجغرافيته”. والشواهد في التجارب التاريخية بيّنة. فسنرى كيف أن المفاهيم التي حكمت مذاهب التفكير في أزمنة الحداثة راحت شيئاً فشيئاً تفقد جاذبيتها التي حظيت بها طيلة القرون المنصرمة. لقد أُشبعت معارف الحداثة وما بعدها بتجارب واختبارات أُتيح فيه للتفكير النيوليبرالي فرصة اعلان نهاياتها. لو كان لنا ان نتجاوز عن الدوافع والمتكآت والغايات الأيديولوجية لهذا الإعلان، لوجدنا أن المآلات التي بلغها التطور العالمي في بدايات القرن الحادي والعشرين قد جاوزت الحد الذي تتوفر فيه الشروط الضرورية لولادة فكرة النهايات. كان واضحاً أن الإعصار الذي عصف بعالم الأفكار لم ينحصر بأرض الغرب حيث أذيع بيان نهاية التاريخ، بل مضى ليشمل الشرق بعامة، والعالم العربي والإسلامي بصفة خاصة. ومن المفارقات التي تثيرها هذه النقطة بالذات، ان نشأ ضربٌ من الفراغ الفكري المتوازي شمل الغرب والشرق وأعرب عن نفسه بضمور فكري لا يمكن إحيائه إلّا بفتح الآفاق لتنظير يؤسّس لقيم ومعارف مستحدثة.
من أبرز خاصِّيات هذا الافتراض، العناية بطبيعة الأسئلة المطروحة وخصائصها. قد تكون مساءلة المفكر نفسه عما ينبغي عليه أن يفعل، ونوع هذا الفعل، هي قضية راهنة وذات سمة استثنائية. فالمهمة التي تفترضها التبدلات العميقة في عالمنا المعاصر تلزمها قيامة بيئات مفكِّرة ذات وعي تاريخي ومسؤولية أخلاقية تحيط بجذرية التحولات وتتعامل معها بالعناية والتدبير. وتلك قضية أخلاقيّة ومعرفيّة فضلاً عن كونها فلسفة عمليّة بالدرجة نفسها. ففي غضون هذه القضية يعتني المفكّر بمهمة مركبة: استكشاف الذات، وتحرِّي الآفاق، وإرادة تغيير في آن. هذا المثلث المتوازي الأضلاع هو ما يشكل ماهية المنظِّر الذي نقصده بالذات. ذاك الذي يعاين اللحظة التي توجب التفكّر بخصائصها ومكوناتها، وطبيعة حركتها والمآل الذي تنتهي إليه، وبوصفه شريكاً في كل ذلك على الجملة. وعند هذه اللحظة بالذات- وهو الزمن الذي تعبره الحضارة الإنسانيّة اليوم وبخاصة الحضور العربي – الإسلامي – سيكون على المنظِّر وعي حساسية وأهميّة المنفسح الحضاري الذي هو فيه، بالقدر الذي ينبغي له ان يدرك سائر الحلقات الحضارية المحيطة.
مقتضى هذا النوع من الخاصية التفكيرية، انه يرتِّب للمفكّر تعريفاً مستحدثاً. إذ بقدر ما يكون قاصدَ غاية، متحرِّياً ماهيته ووظيفته، بقدر ما يتوفّر له الحيز الضروري لممارسة عمله التنظيري. وعندئذٍ لا يبقى المفكر يعمل في معزل، أو داخل قلعة ذهنية مغلقة. لقد غدَوْنا في عالم صار كل إجراء فكري فيه جزءاً من عوالم متصلة تتعدد هوياتها وافهامها وغاياتها. وما على المشتغلين في حقل التفكير سوى تفعيل ما هو ذاتي، مع ما هو غيريٌ في الآن عينه. وفي السياق نفسه مواءمة الخاص مع العام، والمحلي مع العالمي، ضمن جدلية مفتوحة على التدافع والتناظر والتفاعل.
ولئن اكتسب الكلام على الفراغ الفكري حيوية استثنائية، في مستهل القرن الحادي والعشرين، فذلك مرجعُه استشعار الحاجة الى تلبيته بإنشاءات فكرية مفارقة للمألوف. والاستقراء المتدبِّر لحصيلة ما انتهت إليه السرديات الأيديولوجيّة الكبرى للحداثة، ومنها “الحداثات المضطربة” في العالمين العربي والإسلامي، يفضي الى مراجعات تتعدى التحيّزات الأيديولوجيّة وأحكامها الصارمة. ذلك يستلزم النظر الى منجزات المعرفة البشرية كحقل مشترك يجعل كل منجز فيها مصدراً لتغذية حركة التكامل المعرفي بين الحضارات وعلى مستوى كل حضارة بعينها. ولنا في الأنساق الكبرى، واختباراتها ما يسدد استراتيجيّات التنظير ويؤيدها بالشواهد، ويمدها بخصيصة الجرأة على الابتكار والإبداع.
هكذا يقع التنظير كفعلٍ خلّاق تلقاء تهافت القيم وتنميط الثقافات في زمن الحداثات الفائضة. وإذاً، فلا حركة نهضة وإحياء من دون نظريّة، ولا نظريّة من دون جهد تنظيري تتصدى له النخب الفكرية وترسم مقدّماته ومسوغاته وحججه واستراتيجياته.
- التنظير بما هو استراتيجيّة معرفيّة
يراد للتنظير أن يشكل أحد الإجراءات المفترضة لبلورة منظومة قول وعمل تحيط بالحاضر العربي والاسلامي وبأزمنته الآتية. من خلال هذه المنظومة بالذات، ينفتح مسار حر ومسؤول لاستيلاد معارف تتصدى لمقتضيات الإحياء الحضاري، وتنظّر للإجابة عليها. لهذه المعارف أيضاً ان تتولى تنظيم حلقات التفكير حول قضايا تحوّلت مع التراكم والتقادم من طور المشكلة العارضة لتصبح معضلات متجذرة. منها ما هو مزمن ولم ينجز بعد.. كإشكالية التأخّر والتقدُّم، ومنها ما هو مستحدث، كذاك الذي ينعقد حول استحالة التواؤم بين الإيمان الديني ومعطيات الحداثة، أو لجهة التناقض الموهوم بين روحانية الشرق وعقلانية الغرب، أو سوى هذا وذاك مما أشكل أمره على الأفهام ردحاً طويلاً من الزمن.
مهمة المفكر بإزاء هذه الجدليّة الشاقّة والمعقّدة تتعيّن في سبر الفجوة التي توسّعت على مساحة تاريخ مديد من التناظر اللامتكافيء بين الإسلام والغرب. وسيتبيَّن لنا على سبيل المثال أن أطروحة التأخر العربي والإسلامي ما كان لها أن تصوغ اسئلتها بمنأى من الإجراءات المحمومة لثقافة الغلبة والإكراه والتفوّق. ولذلك غالباً ما جرت صياغاتها على نحو لافت من الاضطراب المنهجي والانفعال الايديولوجي. فمن النخب العربية والاسلامية من أخذته الدهشة بتطورات الحداثة الغربية فانصاع لمنطقها. ومنها من تعامل معها كمعطى لثقافة امبريالية فناصبها العداء المطلق. وفي أكثر الأحوال لم يتسن للتفكير العربي ان يعثر على منفسح يكتشف فيه الأسئلة الصائبة بغية إنتاج الأجوبة الراجحة. فالأثر العميق لثقافة الانصياع والاستتباع سيظهر في تهافت سؤال الإحياء الحضاري الذي سبق واشتغل عليه المفكرون العرب والمسلمون قبل قرن مضى وهم في غمرة البحث عن علّة التأخر التاريخي لمجتمعاتهم.
ولكي نتوصّل الى استهداف اولي للدخول في مختبر التساؤل حول مستقبل الحضارات المعاصرة تقتضي الإشارة الى ثلاثة سبل تؤلف مجتمعة منهج النظر والعمل في التعامل مع الاسئلة التأسيسية للإشكال الحضاري:
الاول: سبيل التوصيف والاستقراء، ومؤداه السعي الى الاعتناء بفهم الأسباب التاريخية التي أوجبت الخلل الحضاري، وأسست لجدليات التقدّم والتأخّر، ربما ترتب عليها من أطروحات فكرية وثقافية وإيديولوجية أدت في بعض الأحيان الى انتاج متجدد للاختلال الحضاري بين المشرق العربي.
الثاني: سبيل السؤال المؤسس، ومقتضاه متّصل بما سبق، فلئن استوى النظر الى الواقع كما هو، تيسّرت عملية توليد الاسئلة المطابقة له.
الثالث: سبيل النقد، ومقتضاه حكمة النظر وتحكيم التسديد. وهو سبيل عقلي أخلاقي يضع الأمور في مواضعها ويحسن المعاملة مع الذات الناقدة ومع الغير المنقود سواء بسواء.
الرابع: سبيل الإجابة. ومقتضاه معاينة الفكر والحدث بصبر وتدبّر، بما يتيح انجاز مقترحات هادية إلى الإجابات المفترضة.
- التنظير في أفقه العربي والإسلامي
آلت حركة التفكير في العالم، والعالم العربي والإسلامي بصفة خاصة، الى المنطقة الأكثر تعقيداً وغموضاً مع بدايات القرن الحادي والعشرين. المقترحات الفكريّة التي عامت فوق سطح التحولات في العالَمين معاً كانت أدنى الى استعادات لميراث فكري لا يُرى إليه في الغالب إلا كمقدس عصيِّ على الانتقاد والمراجعة. ولئن كان ثمة من مساعٍ قصدت تجاوز الحكاية التقليدية للميراث المشار اليه، فهي لم تتعد أطراف الحديث حول واجبية انشاء قول مرجعي جديد في فضاء التفكير المعاصر. لقد قُيَّض لما يجوز تسميته بـ “فتنة النهايات” أن تجتاح مفاهيم ومسلمات ومناهج انحكم الفكر الى منطقها سحابة قرنين كاملين. سوى أن هذه الفتنة لم تفلح في وضع الأختام على سؤال “ماذا بعد.. وما الذي يمكن عمله”؟.. ذلك بأن ختام فكرة ما بعد أن أدّت وظيفتها، لا يعني موتها المطلق أو دخولها كهف النسيان، فإنها وأن كفت عن الأخذ بناصية الزمن واستيلاد الحقائق الواقعية وانتاج الظواهر تبقى ماثلة في مرآة الفكر لملء ما تركته من فراغ. ومع أن ما حدث في نهاية القرن العشرين من تحولات في أنظمة القيم شكل حافزاً على تمامية التجربة في مسار التفكير الأيديولوجي، فقد جاء التنظير لشائعة النهايات أدنى الى “مانيفستو ايديولوجي” أطلقته طلائع الليبرالية الجديدة لتبرر استواءها على عرش العالم. وقتذاك، لم تكن الأطروحة النيوليبرالية تدرك انها تختم على نفسها وهي تعلن ختام تاريخ ظنَّت انه بات طي أذرعها. وما كان ذاك ليكون، إلا لأن منطق التاريخ، لا يقبل الفراغ، ولو أشكل على الفاعلين فيه في لحظة ما، إدراك الخطط الهادية لملئه من جديد.
وسط الجدل المفتوح على النهايات والبدايات، سنرى كيف تولَّد سجالٌ انبرى كثيرون فيه الى التساؤل عما إذا كان الفكر – والفكر العربي على وجه الخصوص – قد استراح من مشقة الحفر في أرض المفاهيم، أو أنه اعرض عن مهمته المفترضة لإنجاز فتوحات معرفية تؤسس لسؤال “المابعد”. سنرى أيضاً كيف دارت حركة الفكر مدار اسئلة لا إجابات ناجزة عليها، بينما ظهر من جانب آخر وكأن هذه الأسئلة تعبر نفقاً لا مستقر له ولا مستودع. ثمة من رأى ان الانتقال من زمن الى آخر يولِّد فسحة خاوية من اليقين. وغالباً ما تكتظ فسحة انتقالية كهذه بفتنة النظر والعمل. ومثل هذا التوصيف لا يجانب الصواب ما دمنا أسرى زمن عارض لا يلبث ان ينصرم ولو بعد حين.
مع الدخول في هذه المرحلة ستشهد الجغرافيا الحضارية الأوسطية مساءلات قلقة حول هموم كانت ألفتها لأجيال خلت. نذكر منها على الأخص، القضايا التي امتلأ بها ميراثها الفكري حول سجالية التقدم والتأخر. وعلى نصاب التمثيل، سنلاحظ أن حركة التفكير اتخذت لنفسها خطوطاً ومسالك تجاوزت معها المفاهيم الصارمة لإيديولوجيات الحداثة، ولا سيما الماركسية والقومية والليبرالية. سنلاحظ أيضاً، أن المزاج العام لبيئات التفكير بات يفصح عن مراجعات تمس الكثير من التأسيسات النظرية التي قامت عليها مناهج الحداثة الغربية أيام اختصامها مع اللاهوت الديني. كذلك لم يعد التصنيف التاريخي لليسار واليمين على أحواله المألوفة، حتى بدا وكأنه ينقلب على عقبيه. ففي الحقلين الفكري والسياسي نشأت حيال هذين المفهومين الكلاسيكيين، معايير مستحدثة غلب فيها حكم المصلحة على حكم القيم. فما عاد اليسار يساراً كما عهدناه بصورته الرومانسية. ولا اليمين يميناً مثلما كان وهو يعتلي صهوة المدافعة عن الأوليغارشيات الغاشمة في العصر الكلاسيكي للرأسماليّة. والنظام التصنيفي الذي أنشأته حداثة الغرب على نصاب الاختصام المؤبد بين ثنائيات القيم الإنسانية لم يعد كما هو في سيرته الأولى. لقد حصل مع الطفرة الكبرى للنيوليبراليّة تحوّل عميق بدا وكأنّه يلغي الحدود الصارمة بين المتناقضات. عند بعض المفكّرين في الغرب صار المقدس على سبيل المثال هو أفضل طريق لفهم الدنيوي، وأن الشأن الديني لم يعد يهم المؤمنين وحدهم، بل قد يكون أهل الإيمان هم أقل الناس استفادة منه لأنهم أخذوا منه بالفعل ما يحتاجونه. ماركس مثلاً لم يستفد من الشأن الديني ولم يتأمل بما يكفي بظاهرة الإيمان بالمسيح، أي من الطاقة الثورية الحقيقية لأنه لم يطرح مسألة الممارسة (البراكسيس) طرحاً صحيحاً، وخصوصاً حيال ما يجعل الفكرة الإيمانية تتحول الى قوة مادية.[4] صار الكلام في الاجتماع السياسي والوقائع اليومية موصولاً بالغيب واللاّشعور. وما ذاك إلا لافتقاد الانساق المعرفية السائدة جاذبيتها، بعد كل ما توفرت عليه من ضوابط ومناهج وقواعد فهم. وأما الذي حصل ليندفع مسار التفكير في مثل هذا المنحى المفارق فهو الاضطراب الشديد في فهم التحولات والفراغ المعرفي الناجم عنها. قد يكون هذا هو السبب الذي يجعل العوامل الحافزة لتوليد فكر حضاري مستحدث، كامناً في تلك المنطقة بالذات. والمفكر الذي كتب على نفسه ملء ما استطاع من مساحات الفراغ، هو نفسه الذي يستطيع التعامل مع موجباتها وشرائطها. وليس من الإفراط، القول إن مثل هذه المهمة توجب نشاطاً تنظيرياً مفارقاً للذي عهدناه في خلال الطفرة الأمبريالية مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. آنذاك سيطر التنظير الانفعالي على ديناميات التفكير. ثم آلت هذه الديناميات الى ظهور رومانسيات ثورية انتهت – على الرغم من روحانيتها وتضحياتها – الى الخيبة. مثل هذه المهمة أيضاً، لا توجب في المقابل مفكراً لا منتمياً كذاك الذي مسه طائف الحبوط واللاَّيقين، ثم استغرق في التطيُّر والعدمية. المفكر الذي تحتاجه منطقة الفراغ، هو ذاك الذي يرى الى كل لحظة بعين كونها حقيقة واقعية. وهو الذي يستشعر مسؤولية التفكير بنوع السؤال من قبل يستظهره ليلقيه على الملأ قصد انتزاع الأجوبة. السؤال الذي يُستدرجُ برفقٍ ويُنحت بدراية واعتناء، ثم ليُحمل على محمل الجد، ثم ليمضي السائل بواسطته الى اختبار ذاته واختبار الغير في آن.
6- واجبية التنظير
لمَّا وقف عددٌ من نقاد الحداثة في الغرب أمام ظاهرة الكسل الفكري نبّهوا الى التعامل مع التنظير كواجب فلسفي وأخلاقي في الآن عينه. كان هوسرل يقول في هذا الصدد: ان من واجب أي شخص لو أراد أن يصير فيلسوفاً أو مفكراً أن ينعطف ولو مرة واحدة في حياته على ذاته. وفي داخل ذاته عليه ان يحاول قلب كل المعارف المقبولة، ويسعى الى معاودة بنائها، بحث تغدو الفلسفة – عنده – مسألة شخصيّة تسير به نحو ما هو كوني[5].
وحده من أخذته الغفلة يرفض الإنصات لمساءلة نفسه، ويُعرض عن الإصغاء لكلام الغير. فالمساءلة إجراء إبداعي، وهي أيضاً وأساساً مكوِّن جوهري لبنية الفكر. ما يعني ان مهمة المنظِّر لا تنجز شروطها من دون الاستقواء على ما صنعته يداه ولو كان عملاً جليلاً. أما حين تتوقف مهمة التفكير عند حدود المعاينة والتحرِّي والوصف بذريعة ترفَّع المفكر عن التحيُّز مخافة التورط في “الأدلجة”، فمن المحتمل ينزاح الفكر عن صراطه، وينأى المفكر عن البلاغ المبين. فلا يعود للتنظير حالئذٍ من قيمته الأصلية إلا الغلاف الخارجي لمبادرته ومسعاه. فإذا كان التفكّر مخاطرة لا تتوقف عن الخوض في لجة “الخلق المتجدد” للأفكار، فإن مهمة المنظِّر وسط الفراغ الحاصل تلزمه مشقة البذل لكي يصل الى النقطة التي ينتزع فيها الفهم من مختبر التجربة التي هو فيها. ذلك بأن التنظير لا يرقى الى الفعلية ما لم يتحيَّز المنظِّر في مكان ما من الاحتدام، حيث تولد الفكرة كحاصل طبيعي للمساجلة والاختبار. فالتفكر لا ينمو إلا بضدّه، لتكون الحصيلة تزويد صاحبه بمعرفة لا قبل له بها، وبما لا علم له به من قبل.
رجعٌ على بدء.. كيف لنا ان نقارب مسألة كهذه وسواها من المسائل الموازية في ضوء المهمة التنظيرية المقترحة؟
لا لمناص لمجتمع التفكير في بلادنا العربية والاسلامية إلا أن يتحرَّر من غواية مفاهيم استورثها في غفلة من زمن، ثم استيقنها ليبتني نظامه المعرفي. كانت ثنائيات كمثل العقل والوحي، والإيمان والإلحاد، والغيب والواقع، والدين الدنيا، والحادث والفكرة أشبه بحُجُب شيَّأت العقل وأوْهَنَت الفكر، ثم حالت بين المثقف واستقلاله الفكري حتى أسكنته كهف الغربة.
احتلت أفهام الحداثة المساحة العظمى من تمرينات التنظير في مجتمعاتنا سحابة الاحتدام غير المتكافئ مع الخطبة الفلسفية الغربية. لقد تحولت تلك الخطبة مع الوقت الى مركز جاذبية ثم الى مرجعية تثير الأرض ولا تسقى الحرث لتظهر بعدئذٍ على هيئة نظام معرفي يلقي بظلِّه الثقيل على جغرافيات الشرق منذ حملة بونابرت والى يومنا هذا. غفل التنظير العربي والإسلامي عن حقيقة ان للمفاهيم تراب خاص تولد منه وتضمحل فيه. شأنها في هذا شأن الموجودات كلها. والمفاهيم ليست إلا حاصل تنظيري لحدثٍ ما. هي وليدة الحدث ومؤسِّسة لولاداته المتجددة في آن. وعليه فالحادث التاريخي أمر متغيّر وعارض ومتهافت مهما ترسخت جذوره في الواقع. فالمفاهيم والتعريفات، لا تتخذ مسارها – كما يُظن- على خط مستقيم، وإنما تشكل دائرة رؤية وعبرة. فليس المهم مجرد نحت المفاهيم وإنشاء الأفكار، وإنما في الكيفية التي توصلنا تلك المفاهيم والأفكار، إلى الغاية الأساس. أي الى النقطة التي نستطيع ان نغادر فيها كهف الفكرة الصمَّاء.
البيِّنٌ في الصورة الراهنة ان التفكير العربي – الإسلامي لم يفارق الانفتاح على التفكُّر الخلاَّق، بل هو في كثير من أحواله أشد تكيفاً مع إيقاعاتها، ولو نحن قرأناه من ثلاثة أوجه:
ـ الأول: يتماهى مع الحداثة ومنجزاتها تماهياً ختاميًاً لا محل فيه لمساءلة أو رجعة.
ـ والثاني: يتبدَّى على صورة إعراضات غالباً ما تعود الى دواع افترضتها الامتداد الاستعماري بأحقابه المختلفة. وبحكم كون هذه الإعراضات ذات منشأ انفعالي فإنها لم تكد تؤتي أُكْلَها حتى تروح تذوي الى محابسها الايديولوجية.
ـ الثالث: هو ما يجيئنا على هيئة محاولات ووعود، ثم لا يلبث بعد هنيهة حتى يظهر لنا فقْرَه وقصورَه عن مجاوزة مشكلات الانسداد الحضاري.
في زحمة الحداثة الفائضة التي تستغرق عالمنا اليوم يجد التنظير حجته في أربع ضرورات:
الأولى: تاريخية، أوجبتها التحولات الختامية للقرن الماضي، مثلما توجبها اليوم وقائع العقد الأول من القرن الجاري.
الثانية: توحيدية، ويفترضها التشظِّي الذي يعصف بالبلاد العربية والاسلامية. وَتَبَعاً لهذا التشظّي وكحاصل له، ينحدر كل ما هو سامٍ ومتعالٍ إلى ما هو أدنى.
الثالثة: معرفية، وتتأتى من الحاجة الى استيلاد معارف مستحدثة من شأنها تحفيز الحفر الابداعي في عالم الأفكار، والعمل على انشاء المفاهيم انطلاقاً من فلسفة عملية ترى أن كل مسألة لا يُبنى عليها عمل فالخوض فيها غير مستحسن ولا يعوَّل عليه. ذلك بأن العلم المعتبر – كما في المأثور – هو العلم الباعث على العمل.
الرابعة: عملانية، وتقوم على تخصيب بيئات التفكير في المنتديات الفكرية والجامعات والمعاهد ومؤسسات البحث العلمي. وهو ما يمكن أن يترجم عبر تنظيم حلقات تفكير تستحث على تنشيط الجهود التنظيرية، وغايتها تفكيك اللَّبس المتراكم في الوعي العربي الإسلامي خلال أزمنة الاحتدام مع مركزية الغرب بصيغتها الكولونيالية والاستشراقية. مثلما يفتح باب الإجابة على تساؤل مؤسِّس عما لو تيسَّر لنا تكوين فهم صائب عن غربٍ انتج من العلوم والمعارف ما يثير الاندهاش من الفنون والقيم وتقنيات العيش، وجاءنا في الوقت عينه بما لا حصر له من صنوف الهيمنة الاستعمارية العنف والغزو والحروب المستدامة.
من أخص العناصر الدافعة الى العمل التنظيري جلاء حقيقة ان لمعارف الغرب حواضن في المجتمعات العربية والإسلامية تتلقى تلك المعارف وترعاها، ثم لتعيد إنتاجها على النحو الذي تريده لها مرجعية التفكير الغربي نفسه. بيان ذلك، أن عقل الغرب المكتفي بذاته يجد لدى نخب تاريخية واسعة في مجتمعاتنا من يتماهى معه في خطبته ومنطقه، من يمتثل إلى معارفه المستحدثة. هذا حال من جاز أن يُنظر إليهم وهم على نصاب «الاستغراب السلبي». وتلك ظاهرة عميقة في تاريخنا الحديث نجمت من تفاعل مركّب بين دهشة العربي بحداثة الغرب، وطريقة تعامله معها. فبنتيجة هذا التركيب على الإجمال، بدا «المستغرِب والمسلم كما لو كان مستدرجاً للقبول بمنظومة الغرب وخصوصياتها، وتالياً كامتداد محلي لها. اما حاصل الأمر، فكان أدنى الى استيطان معرفي لا يفتأ أن يستعيد أسئلة الغرب وأجوبته على نحو التسليم المسبق بصوابيتها. ولسنا نغالي لو قلنا أن “الاستغراب السلبي” الذي نقصده لوصف احوال شطر وازن من مثقفي العالم الاسلامي، هو فكر انتجته الدهشة، ووسَّعته الترجمة، ورسَّخته الهيمنة، ثم لترتضيه نخب وازنة من مجتمعاتنا فتتخذه سبيلاً لفهم ذاتها وفهم غيرها، فضلاً عن فهم العالم من حولها في الآن عينه.
مقتضى التعامل مع مثل هذا السياق كتحدٍ معرفي، إجراء تحويل جوهري في بنية التفكير. اما مصداق هذا التحويل فمن خلال تسييل المبادرة التنظيرية عبر استقراء متبصِّر لأحوال الغرب مقروناً بإرادة نقدية تتغيّأ تبديد القناعات التي تزامنت مع تدفقات الحداثة؛ خصوصاً لمَّا انشأت هذه الأخيرة القابل العربي الإسلامي على هَدْي كلماتها ورؤاها من دون ان تُحِلَّ فيه ما هو بنَّاء من أنوارها الاولى.
يفضي الكلام على واجبية التنظير، لدى تناهيه الى الاسماع اليوم، إلى الاستغراب من غير وجه:
اولاً: لأنه ينطوي على استدارج الى مطرحٍ معرفي لا يُفهم منه للوهلة الاولى، إلا أنه دعوة الى انشاءات لا تتجاوز ما دأب أهل التقليد لأطوار متعاقبة. وعليه قد لا يتوفر لهذه الانشاءات حظ إحداث انعطاف جوهري في سكونية الفكر. الباعث على مثل هذا الفهم السلبي للتنظير يرجع – على غالب الظن- الى واحدة من أشقّ الإبتلاءات التي سكنت تفكير النخب في مجتمعاتنا وتجذَّرت فيه. عنينا بها القطيعة بين الفكر والحدث سحابة تاريخ كامل. حتى بدا كما لو أن الحدث يسير من تلقائه على غير اهتداء، وان الفكر ليس إلا سلوى لفظية لا يعوَّل عليها. لكأن شيطان الوهم استحكم بالمستغرِب فدعاه الى الاشتغال عن ظهر قلب بالمنقول من وافد المفاهيم، والإعراض عن معاينة ذاته والمخصوص من أحواله.
ثانياً: لأن سؤال التنظير، وان كان يحظى بحقَّانية الاعتناء يعنيهم أمره وشأنه فقدا بدا وكأنه خارج السياق. ربما التَبَسَ الأمر على البعض فأرجأ ما كان ينبغي ان يدلي به الى وقت لاحق. . فيما شريحة واسعة من هؤلاء اخذتهم الحوادث اليومية بغتة فاستغرقوا بدنياها وغفلوا عن أسئلة المابعد.
ثالثاً: لأن التنظير ينتمي الى مقام خاص له من مراتب المسؤولية ما لا ينالُها الجميع. اولئك الذين ألزموا انفسهم متاخمة الحدث ومعاينته وتأويله ليتبيَّنوا ضميره المستتر، ثم ليدركوا منتهاه، فيبنون على ذلك المنتهى مقتضاه.
رابعاً: من المفارقات الغريبة ان يُطرح سؤال التنظير وسط وهنٍ فكري يلقي بأظلّته على أوسع البيئات المشتغلة بعالم الأفكار. ولو دلَّ هذا على شيء، فعلى حالين:
أ- انخفاض سحر الحكاية الأيديولوجية بمدارسها وتياراتها الكلاسيكيّة (القوميّة والليبراليّة والماركسيّة). حتى إذا استحلت النيوليبرالية عرش العالم هبط التنظير لقول جديد الى القاع ولم يعد لسؤاله أمام سطوتها من إعراب.
ب- الإسلام السياسي الذي قدّم نفسه كحامل مفترض لمهمة النهوض لم ينجُ من التموضع في القلاع الأيديولوجية الصماء. ففي الخطبة الايديولوجية للإسلام السياسي المستحدث لم يرقَ همٌ الاحياء الحضاري الى المقام الذي يصبح فيه همّاً تنظيرياً في إطار التجديد المفترض للعقل الديني.
خامساً: حداثة الغرب في العقل النخبوي العربي، لا تزال تستعاد على النشأة التي قرأها اصحابها الأصليون قبل اكثر من أربعة قرون. العقل المشار إليه، وعلى الرغم من الميراث النقدي الهائل الذي زخر به تاريخ الحداثة، بقي حريصاً على متاخمة سيرة الحداثة الاولى ومقالتها البكر بوصفها اطروحة لمدينة فاضلة تستنقذ العالم من فوضاه وجاهليته. ما يعني ان عقلاً كهذا لا يملك ان يرى الى حداثات الغرب المتعاقبة الا بوصفها عالماً متخيلاً لا حظَّ له من الحقيقة الواقعية في شيء.
أكثر هؤلاء حملوا سؤال التقدم التاريخي على حسن الظن وسلامة النية. الا انهم لم يفارقوا دهشة الحداثة وفتنتها. جلُّهم لم يدرك أن أنوار الغرب مكثت في الغرب، ولم يأتِنا من حصادها سوى شراهة السيطرة والانهمام بالجاهليات المستحدثة. المشهد الراهن لا ينفك يظهر على النشأة نفسها، ولكن مع فارق جوهري، هو أن السواد الاعظم من النخب يغيِّبون سؤال التنظير، بل ويستغربونه كما لو كان سؤال فائضاً عن الحاجة.
II
تنظير الآخر الغربي
معاثر التفكير من اليونان الى ما بعد الحداثة
من أظهر السمات التي يمكن استخلاصها من اختبارات العقل الغربي، أنه صنع مدائن الحداثة ثم ما لبث حتى وقع في أسرها. كما لو أنه آنَسَ الى صنعته حتى صارت له أدنى الى كهوف ميتافيزيقية مغلقة. ومع ان مساءلة الذات في التجربة التاريخية للحداثة انتجت تقليداً نقدياً طاول مجمل مواريثها الفكرية وأنماط حياتها، إلا أن هذه المساءلة- على وزنها في تنشيط الفكر وبث الحيوية في أوصاله- لم تتعدَ الخطوط الكبرى التي رسمتها المنظومة الصارمة للعلمنة.
بسبب من ذلك، سنلاحظ ان جلَّ المنعطفات التي حدثت في حقل المفاهيم والنظريات والأفكار جاءت مطابقة لمعايير الفلسفة السياسية للدولة الأمة، ولمقتضيات الثورة العلمية. غير ان المعاثر التي عصفت بالعقل الغربي في طوره المعاصر، ليست حديثة العهد. فهي موصولة بأصلها اليوناني ولم تفارقه قط.
لقد بذلت الميتافيزيقا مذ ولدت في أرض الأغريق والى يومنا الحاضر ما لا حصر له من المكابدات. اختبرت النومين (الشيء في ذاته) والفينومين (الشيء كما يظهر في الواقع العيني) لكنها ستنتهي الى معضلة استحالة الوصل بينهما. ذريعتها ان العقل قاصرٌ عن مجاوزة دنيا المقولات ولا علم له بما وراء عالم الحس. على هذا النحو ستفارق الميتافيزيقا سؤال الوجود الأصلي كسؤال مؤسِّس، ثم لتستغرق في البحر الخضم الممتلئ بأسئلة الممكنات الفانية واعراضها.
لم تتخلص الفلسفة من تاريخها الإشكالي هذا منذ اليونان الى أزمنة الحداثة الفائضة. ذلك ما جعل كل مسألة ذات طبيعة ميتافيزيقية تستعصي في رحابها على الحل. المعثرة الكبرى في مكابدات الميتافيزيقا كامنة في مهمتها الأصلية، وهي فهم العالم كوجود متصل، والنظر إليه كامتداد أصيل بين مراتبه المرئية واللامرئية. الطبيعية وفوق الطبيعية. أو بتعبير أخص، بين الموجود وواجد هذا الموجود. ولئن كانت مهمة الفلسفة هي هذه، فذلك تذكير بما هو بديهي حتى لا تحجبه غوايات التأويل. فيقال مثلاً ان الفلسفة هي علم ما يظهر وحسب. والتذكير بمهمة الميتافيزيقا بما هي استكشاف ما يحتجب عن حاسة النظر إجراءات العقل العملي، هو إقرار للفلسفة بوصفها علماً حياً يحيي نفسه ويحيي سواه من العلوم في الآن عينه. هو أيضاً عرفان لها بالجميل وهو تقيم علاقة شديدة الخصوصية بالوجود خلافاً لسائر المعارف والعلوم. وما ذاك إلا لأنها لا تكف عن إعلان رسالتها الاصلية. حيث تهتم بسؤال الوجود الأصيل من دون أن تنفك عن الاعتناء بأسئلة الممكنات وعوارضها.
فيلسوف الحداثة الذي أخذ دربته عن الإغريق هذا حاله. معه سيغدو كل سؤال تعلنه الفلسفة الحديثة على الملأ مثقلاً بحوامل الموجودات وعروضها. وسنجد كيف اكتظَّت بياناته بألوان الظنون، وهي يُسلم أمره لسلطان العقل الصارم.
غالباً ما دارت اختبارات الفيلسوف المستحدث مدار الفراغ العجيب. فإنه حائر بين الموجود وواجب الوجود. تتخطًّفه جواذب السؤال فلا ينتهي الى قرار. ثم لا تلبث حتى تميل به الى عالم المكنات كلما بَسَطَ يَدَه على شيء من أجل أن يتعرَّف إليه، انزلق ذلك الشيء من بين أصابعه ككائنٍ زئبقيٍ، فلا يجيئه من بعد ذلك نفعٌ ولا ضرٌ.. الفيلسوف المأخوذ في حَيْرته، سؤالُه حائرٌ وجوابُه حائرٌ. لهذا وجدناه كيف ينأى من جنّة اليقين ويستطيب الإقامة في دنيا الأسئلة الفانية. كتب على نفسه ان يتعرَّف الى الأشياء كما هي في ذاتها. وان يقتفي أثر الأحداث والظواهر قصد تحرِّي عِللِهَا وأسبابها والنتائج المترتبة عليها. وما ذاك إلا لأنه مفتون بما هو فيه، ومأخوذ بالظن ان الاهتداء الى الحقيقي والعقلاني انما يمر عبر الحواس واستدلالات الذهن وخداعه.
ولدت الفلسفة الأولى من رحم التحيُّر. كذلك قال الأوائل من أئمة الإغريق لمَّا حملتهم أسئلتهم على النظر الحَيْرَة كمقولة -زمانية – نفس بشرية – تستحثُ على فهم وجودٍ تعذَّر فهمه. في كتابه “ما بعد الطبيعة” سيظهر أرسطو كمن يكشف عن الميقات الذي نضج فيه العقل البشري ليسأل عما يتعدى فيزياء العالم ومظاهره. لكأننا به يقول إن السؤال عن الموجود، ولماذا صار موجوداً بدلاً من العدم، هو سؤالٌ جاء في أوانه. ولنا أن نعترف لأرسطو ومن جاء من بعده أن سؤال “ما بعد الطبيعة” جاء مناسباً للميقات. ربما لهذا السبب صحَّ أمرُه وسرى بيانُه إلى يومنا هذا. لكن السؤال الأرسطي -على سمو شأنه في ترتيب بيت العقل- سيتحول بعد برهة من زمن، الى علّةٍ سالبة لفعاليات العقل وقابليته للامتداد. وما هذا، إلا لحَيْرة حلّت على أرسطو ثم صارت قلقاً مريباً. ولفرط ذكائه أمسك عن مواصلة السؤال، ليعرَضَ عن مصادقة الأصل الذي أطل منه الموجود على ساحة الوجود. الحاصل ان فيلسوف “ما بعد الطبيعة” مكث في الطبيعة وآَنَسَ لها فكانت له سلواه العظمى. رضي أرسطو بما تحت مرمى النظر ليؤدي وظيفته كمعلم أول لحركة العقل. ومع أنه اقرَّ بالمحرك الأول، إلا أن انسحاره بعالم الإمكان أبقاه سجين المقولات العشر. ثم لما تأمُّل مقولة الجوهر وسأل عمَّن أصدرها عاد الى حَيْرته الأولى. لكن استيطانه في عالم الممكنات سيفضي به الى الجحود بما لم يستطع نَيْلًه بركوب دابةَّ العقل. حيرته الزائدة عن حدّها فلم يجد معها مخرجاً. ثم سيكون عليه ان يسترجع ما اقترفه من ظنون، من أجل أن يكتشف مصدر حيرته. حتى لتبدو أحواله وقتئذٍ كذاك الذي دخل المتاهة ولن يبرحها أبداً.
- الميتافيزيقا الحديثة ابنة ماضيها: ديكارت وكانط وارثان
في مفتتح كتابه الذي صدر عام 1763 بعنوان “بحث في وضوح مبادئ اللاَّهوت الطبيعي والأخلاق” ذكر ايمانويل كانط يومها أن الميتافيزيقا ـ هي بلا أدنى شك ـ تمثل أكثر الحدوس الإنسانية قوة لكنها لم تُكتب بعد.. وفي كتابه المؤسِّس “نقد العقل الخالص” أراد كانط أن يدون الميتافيزيقا على هيئة لا قِبَلَ لها بها في سيرتها الممتدة من اليونان الى مبتدأ الحداثة. شعر وهو يمضي في المخاطرة كأنما امتلك عقلاً حراً، بعدما ظن انه تحرَّر تماماً من رياضيات ديكارت. راح يرنو الى الإمساك بناصيتها ليدفعها نحو منقلب آخر. لكن حين انصرف الى مبتغاه لم يكن يتخيل ان “الكوجيتو الديكارتي” رَكَزَ في قرارة نفسه ولن يفارقها قط. ربما غاب عنه يومئذٍ ان تخلِّيه عن منهج ديكارت الرياضي لن ينجيه من سطوة “الأنا أفكر” ولو اصطنع لنفسه منهجاً آخر. كانت قاعدته الاولى عدم البدء بالتعريفات كما يفعل علماء المنطق الرياضي، بل عليه البحث عما يمكن إدراكه في كل موضوع عن طريق البرهان المباشر. كأن يقومُ المبرهَنْ عليه من تلك الإدراكات بالتعبير مباشرة عن نفسه بحكمٍ ما. أما قاعدته الثانية فقد نهضت على إحصاء كل الأحكام بشكل منفصل، والتيقُّن من أن لا يكون أيّ منها متضمَّناً في الآخر. وأخيراً وضع الأحكام الباقية كأوليات أساسية ينبغي بناء كل المعرفة اللاحقة عليها.
سَيبينُ لنا جرَّاء ما سَلَفَ أن النقد الكانطي للميتافيزيقا، لم يكن سوى إنشاء متجدِّد للشك الديكارتي بوسائل وتقنيات أخرى. فالمشروع النقدي الذي افتتحه كانط هو في مسراه الفعلي امتدادٌ جوهريٌّ لمبدأ الـ “أنا أفكر” المؤكِّدة لوجودها بالشك. وهو المشروع الذي أسس لسيادة العقل، وَحَصَر الهم المعرفي الإنساني كله بما لا يجاوز عالم الحس. لكن انهمام كانط بالعقلانية الصارمة سيقوده راضياً شطرَ الكوجيتو الديكارتي حتى ليكاد يذوي فيه. الأمر الذي سيجرُّ منظومته الفلسفية نحو أظِلَّة قاتمة لم تنجُ الحضارة الحديثة من آثارها وتداعياتها حتى يومنا هذا.
من معاثر “مبدأ الأنا أفكر” انه أفضى إلى انبعاث الإلحاد في فضاء الفلسفة الحديثة. فقد جرت الألوهية مع “الكوجيتو” وفق معادلة مختلة الأركان قوامها: الله الموجود هو مجرد نتيجة لـ «الأنا موجود». ومن معاثره أيضاً أن الإنسان ـ بوصفه مخلوقاً ـ يكوّن معرفته الخاصة ويجعلها تؤسّس ذاتها من دون مسبقات. الـ “أنا موجود” (ergosum) التي تلي «الأنا أفكّر» (cogito) هي تعبير عن كيان يريد إظهار نفسه بالتفكير والكينونة بمعزل عن الله، وبسبب من كونه عاجزاً عن فعل هذا، فإنه يمنع تجلّي نفسه وتجلّي الله في اللحظة عينها. زد على هذا أن الكوجيتو الديكارتي، بالأساس، يشكل انعطافة معرفية نحو الأنا، في حين يفضي إلى أنانية سياسية ليبرالية ذات نظام سياسي واقتصادي شديدة الأنانية.
منظومة كانط المسكونة بسلطان الكوجيتو ومعاثره، سوف تستدرج الى تناقض بيِّن في أركانها. وللبيان نتساءل: كيف يمكن أن يستخدم كانط العقل كوسيلة ليبرهن أن هذا العقل لا يستطيع أن يصل إلى المعرفة الفعلية بالأشياء كما هي واقعاً؟ وكيف يمكن أن يعلن أن المرء لا يستطيع تحصيل معرفة الشيء في ذاته، وفي الوقت نفسه يستمر في وصف العقل كشيء في ذاته. واضح أن كل حجج كانط ـ كما يبين الفيلسوف الألماني فرانز فون بادر Franz Von Baader (1756 ـ 1841) ـ لا أساس لها ما لم تكن قادرة على وصف العقل كما هو في حقيقته. وهذا لا ينطبق على كانط فحسب، بل على جميع الحالات الشبيهة. فإذا كنا لا نعرف إلا ظواهر الأمور، فكيف يمكننا أن نعرف العقل بذاته؟ وإذا كنا لا نعرف إلا الظاهر فقط، فهل ثمة معنى، في التحليل النهائي، لقولنا إننا نعرف شيئا ما؟ واما سبب هذه التناقضات ـ وفقاً لبادر ـ فتكمن في أن الفلسفة النقدية استثنت معرفة اللَّه والدين النظري من حقل المعرفة التي يمكن الحصول عليها عن طريق العقل.
اضطر كانط لمواجهة اليأس من التعرّف على “سرّ الشيء في ذاته”، إلى ان يبتني أسس المعرفة الميتافيزيقية بوساطة العلم. استبدل التعريفات المجردة بالملاحظة التجريبية، حتى لقد خُيِّل للذين تابعوه وكأنه يغادر الفلسفة الأولى ومقولاتها ليستقر في محراب الفيزياء. وليس كلامه عن أن “المنهج الصحيح للميتافيزيقا هو المنهج نفسه الذي قدمه نيوتن في العلوم الطبيعية”، سوى شهادة بيِّنة على نزعته الفيزيائية.
توسل كانط مرجعيتي هيوم ونيوتن لتسويغ “رغبته” في تحويل الميتافيزيقا الى علم يقدر على متاخمة المشكلات الحقيقية للعالم الحديث. ولقد أدرك منذ اللحظة التي سيتحول فيها مشروعه الى عمل رسالي، أن للميتافيزيقا مقاماً غريباً بين العلوم، وأنها علم لا ينتهي رواجه ابداً بوصف كونها حاجة طبيعية للبشر. مثل هذه الفهم جاء ليدحض ما قرره الفلاسفة الوضعيون لجهة إقصاء الفلسفة من مهمة تدبير العالم. لقد رأى ان إلغاء الميتافيزيقا تماماً سيكون مستحيلاً، وان أكثر ما يمكن فعله هو إزالة بعض الأنواع غير الصالحة منها، وفتح الباب أمام ما يسميه بالعقيدة العلمية الجديدة. وهي العقيدة التي سيضعها كانط تحت عنوان “الإمكان الميتافيزيقي” في العالم الطبيعي، وتقوم على التمييز المنهجي بين عالمين غير متكافئين: عالم الألوهية وعالم الطبيعة.
لكن التمييز الكانطي بين هذين العالمين وإن جاء خلاّقاً على المستوى الأبستمولوجي، إلا أن أثره التأويلي سيجاوز الحدود والمقاصد المرسومة. فالتمييز الأبستمولوجي سيغدو في ما بعد تفريقاً بين الكائن المتعالي فوق الزمان والمكان، وبين الدين بما هو كائن تاريخي ثاوٍ في الزمان والمكان. مع هذا التفريق سينفجر التأويل وتتعدد القراءات ليُرى إلى كانط تارة كفيلسوفٍ تَقَويٍّ توارى إيمانه بين السطور والألفاظ، أو كملحدٍ لا يرى إلى الله إلا كمتخيَّل بشري…
لقد قيل بصدد هذا المُشكل أن هدف كانط من نقده لأدلة وجود الله لم يكن من أجل ترسيخ الإنكار النظري التام لوجود الله، بل لتمهيد الطريق لإثباتٍ أكثر أصالة لوجود الله. ومن خلال قصر كانط لمعنى “المعرفة” على الفهم العلمي للأشياء الظاهرية وقوانينها، وبإنكاره لإمكانية امتلاكنا المعرفة النظرية بوجود الله، كان يُنكر إمكانية معرفة الله بالطريقة نفسها التي نُدرك من خلالها أي شيءٍ مادي. وبما أن الله ليس جزءاً من العالم المادي بأي شكل من الأشكال، فلا يُمكن على نحوٍ أدق إثبات كونه موضوعاً للمعرفة النظرية. وإذا أردنا إثباته، فلن يكون ذلك من خلال بيئة المعرفة العلمية بل عبر نوع من الإثبات الذي يتجاوز المعرفة العلمية ويمكن إطلاق صفة الإيمان المنطقي عليه بسبب الافتقار لمصطلح أفضل.
بالتأكيد لن يُحمل على كانط أنه كان عدوّاً للإيمان، لكن عَيْبَه الموصوف أنه أسس لـ “مانيفستو فلسفي” يقطع صلات الوصل المعرفية بين الله والعالم وبالتالي بين الدين والعقل. هذا هو الإجراء “الكوبرنيكي” الذي شقّ الميتافيزيقا إلى نصفين متنافرين (ديني ـ دنيوي) وما سينتهي إليه من غلبة الدنيوي على أزمنة مديدة من أنوار الحداثة.
مع هذا، فقد بدا كانط كما لو أنه فتح الكوة التي ستتدفق منها موجات هائلة تعادي التنظير الميتافيزيقي ولا تقيم له وزناً في عالم الإمكان الفيزيائي. أهل الميتافيزيقا المثلومة من مثل هؤلاء استطابوا الدرس الكانطي ولا يزالون عاكفين عليه كأمر قدسي. لقد أعادوا إنتاج القطيعة بين الكائن الذي لا يُدرك والموجود الواقع تحت راحة اليد. لذا حرصوا على وقف مهمة الميتافيزيقا حيناً عند حدود الحاجة الابستمولوجية، وحيناً آخر من أجل استخدامه في عملية التوظيف الإيديولوجي. وعليه فقط دأبوا على إحاطتها بسوار لا ينبغي فكّه إلا عند الاقتضاء. فلا تصبح الميتافيزيقا ممكنة إلا متى كان هناك مجال شرعي للمبحث الميتافيزيقي. في حين تكون العلوم التجريبية هي الحاكم. بل هي وحدها القادرة، على إنبائنا ببنية الواقع الأساسية.
لم يكن الحاصل من تصيير الميتافيزيقا علماً متاخماً للعلوم الإنسانية وسيَّالاً في ثناياها، سوى طغيان النزوع العقلاني على الثقافة الغربية منذ أفلاطون إلى يومنا هذا. ولقد أكمل كانط رحلة الإغريق من خلال سعيه الى انشائها على نصاب جديد عبر تحويلها الى موقف ينزلها من علياء التجريد الى الانهمام بالعالم. لكن بدل الاكتفاء بالتمييز والإبقاء على خيط تتكامل فيه العملية الإدراكية للموجود بذاته والموجود بغيره، راح يفصل بين العالمين ليبتدئ زمناً مستحدثاً تحولت معه الميتافيزيقا الى فيزياء أرضية محضة.
2- هيغل ذروة اضطراب الميتافيزيقا المعاصرة
أخذ هيغل عن الأسلاف معثرته الكبرى. فكان بذلك أرسطياً بقدر ما كان ديكارتياً وكانطياً في تمارينه الفلسفية. من بعدِ ما أضناه مبحثُ الوجود بذاته سيعرض هيغل عن ورطته اللاهوتية ليحكم على الوجود بالخلاء المشوب بالعدم. فلا وجود عنده إلا ما هو ظاهرٌ وواقعٌ تحت مرمى الأعين. وفي هذا لم يأتِ بجديد يَفْرُق بينه وبين السلف. ليس ثمة على ما يبدو من مائز جوهري بينه وبينهم. أخذ عنهم دربتهم ثم عكف على مجاوزتهم حتّى اختلط الأمر عليه حدّ الشبهة. آمن هيغل بالوجود ثم اخضعه للديالكتيك وذلك على خلاف ما استلهمه من جوهر الايمان المسيحي. لم يفعل ذلك من أجل توكيد كفاية الوجود لذاته بذاته، بل للتقرير أنه متناقض في ذاته. ومعنى هذا –كما يبيِّن في مدّعاه- أن وجود المجرّد – قبل وجود الطبيعة – يحتمل ألا يكون موجوداً وموجوداً في الآن عينه. أي أنّه ينطوي هو نفسه على الوجود واللاوجود في الآن عينه. والحال فقد اصطدم كل من هذين النقيضين في نظامه الفلسفي لينجم من ذلك أن تحوَّلَ فكرُه بكامله الى ظواهر الموجودات، ثم ليسري مذهبه التناقضي إلى كل موجود، سواء كان طبيعة أم إنساناً أم مجتمعاً.
من المفيد للذكر.. أن إحدى أبرز النظريّات التي طرحها هيغل هي نفي (الوجود المحض) جملةً وتفصيلاً. ذلك لاعتقاده ان كلّ وجودٍ إنّما ينشأ إثر تركيبه مع العدم. بمعنى أنّ الوجود والعدم يجتمعان مع بعضهما ليتمخّض عنهما الوجود الطبيعي. ولقد سعى الرجل الى توليفٍ ملتبسٍ يجتمع فيه الضدان والنقيضان، ثم ليكون هذا التوليف مؤسَّساً على فرضيتين أساسيتين:
الأولى: أن كل شيء يكون موجوداً ومعدوماً في آن واحد.
والثانية: أن التناقض في الموجودات هو أساس حركتها وتكاملها.
المعترضون على هذا التنظير يقولون: ليس من شأن العدم أن يتّصف بالوجود على أرض الواقع باعتباره نقيضاً له، لذا لا يمكن تصوّر حدوث انسجامٍ واتّحادٍ بينهما. بناءً على ذلك، سيخطئ هيغل ومن تَبِعُه لمَّا قالوا إنّ اتّحاد الوجود والعدم في (الصيرورة) يدخل في أصل اجتماع النقيضين واتّحادهما مع بعضهما. فهذه الصيرورة تنقض مبدأ امتناع اجتماعهما.
3- هايدغر كمنعطف ميتافيزيقي
بدت مساعي هايدغر على خلاف ما اقترفه السابقون عليه. قد يكون سؤاله الأثير عن السبب الذي أفضى الى وجود الوجودات بدلاً من العدم؟ دليلاً على ذهابه الى السؤال المؤسِّس. الإجابة كانت بديهية من طرف هايدغر: إن الشيء الذي يناقض نفسه لا يمكن أن يكون أو يوجد. لكأنما يرد على هيغل من دون أن يسمّيه؛ ثم يضيف متعجِّباً: كيف يكون هناك وجود محدّد وغير محدّد في آن واحد. ومن جهتنا نضيف: كيف لهيغل أن يرتضي لنفسه السؤال عن شيء ليس موجوداً؟.
استعاد هايدغر ما سبق وما لَحِق من أسئلة الميتافيزيقا، ثم استودعها «حاضرته» الفائضة بالإبهام. فليس من غرابةٍ إذاً، أن نرى إلى مختبر أفكاره كمستودع يحوي العناوين الكبرى التي أنجزتها الفلسفة، على تعاقب أطوارها، وتنوع مدارسها وتياراتها.
شُغلُه باستعادة الأسئلة الماضية الحاضرة، لم يكن لأجل تفكيكها او انتقادها تمهيداً للتبرُّؤ منها، وإنما لتكون له ممراً إجبارياً لمجاوزتها، وإعادة تظهيرها وفقَ ما يختزنه مشروعه من إنشاء فلسفي متجدد. أفصح هايدغر عن ذلك لمَّا أشار إلى صعوبة الكتابة من خارج أفق الميتافيزيقا. وحجَّتُه أن الاعتناء بالسؤال المؤسس – أي ذاك الذي يستفهم حقيقة الوجود – يستحيل ان يُنجز بمعزلٍ عن عالم الواقع، الذي يشكل برأيه أفق الدلالة الشاملة للذّات الحيّة، والذي في مجاله تتحقَّق الخبرة الإنسانية.
لم يقطع هايدغر مع الميتافيزيقا الكلاسيكية التي اكتفت بالاعتناء بالموجود، بل دعا إلى اجتيازها من خلال العودة إلى السؤال الأصيل عن وجودٍ لفَّهُ النسيانُ. لأجل ذلك راحت منظومته تنمو وتتكامل على امتداد انعطافات أربعة:
الأول: حين توقف مليّاً عند معنى واجب الوجود.
الثاني: لمَّا سعى إلى تجاوز وهن الميتافيزيقا وفقرها الوجودي. كانت دعوته حالذاك متّجهةٌ إلى نقل الهمّ الميتافيزيقي من حيِّز الاعتناء بالماهيّات نحو فضاءِ العنايةِ بالوجودِ وأصالتهِ.
الثالث: لمَّا استدرجه السؤال عن حقيقة الوجود إلى قلق طاول قاع النفس والفكر، وبسببه طفق يبحث عن مَلَكَاتٍ أخرى غير مرئية في الروح الإنسانية لتكون البديل من العقلانية المتشيّئة لميتافيزيقا الحداثة.
الرابع: حَيْرتُه في الإشراقات التي وجد أن الكينونة تَهَبُها للإنسان لكي يهتدي بها إلى صواب الضمير.
إذا كانت مهمة هايدغر الأولى مجاوزة الميتافيزيقا بداعي انئخاذها بالموجود، وغفلتها عن الحقيقة الأصلية للوجود، فمثل هذه المهمة لا تلبث حتى تتضاعف تحيُّراً حين تعلم أن تلك “الغافلة عن أصلها” لمَّا تزل تحتل مساحة العالم وتقرر مصائر أهله. ذاك أن عصر الانتقال من الميتافيزيقا المكتفية بعالم الحواس إلى ما فوقها، يتم بصوت خفيض أمام ضوضاء التقنية وسيطرتها المطلقة. في هذه الحقبة من تطوّر الميتافيزيقا يصبح الكائن الإنساني في وضعيّة حدِّية وحرجة: من ناحية تجعله يستسلم لجنون الهيمنة، ومن ناحية أخرى يتنبَّه إلى وجوب أن يأخذ قسطه من مسؤولية كشف الواقع الذي هو فيه. والكشف هنا هو إزاحة السِّتر عما يمارسه العقل التقني، إلى الحد الذي يجعل انتماء الإنسان للوجود يعلن عن نفسه عبر استشعاره للخطر. وهذا الإنسان هو نفسه الذي سيطلق عليه هايدغر اسم “الدازاين” أو”الكائن الإنساني الباحث عن سر حضوره في العالم”. وهو ما حاول هايدغر التفكير فيه تفكيراً خاصاً عبر ما سمَّاه (الإيرأيغنيس Ereignis). أو “الانبثاق الكبير”…
لم يفارق هايدغر أسئلة الميتافيزيقا الصمّاء. لكنه لم يسكن إليها، وإنما ساكَنَهَا على سبيل المجاراة والوفاء لقربى قديمة. أما ما ستؤول إليه رغائبه فذلك ما ستفي به إلقاءات السنين الأخيرة من عمره. لقد أوشك وهو يجوب ساحل الحضرة الحائرة، أن يتعرض إلى الحادث العرفاني، بعدما أرهقته مشقة السؤال حول حقيقة الكينونة. بدا كما لو أنه يستعد لسفر تعرُّفي لم يألفه من قبل. سفر هو أقرب إلى هجرة لا تقبل العودة إلى الوراء، وغايتها الوصول إلى فكر يتعدى الفقر الموصول بالماهيات الفانية. هو ـ على الأصح ـ فكر الفكر الذي جعله أرسطو فكراً خاصاً بالله. فكر يقود إلى الأصل.. إلى الشيء الذي هو محطُّ السؤال. ربما هذا الذي حدا به أن يعلن عام 1973 أنه مستمر في تعريف فكره بأنه “فينومينولوجيا ما لا يظهر بعد”. أي الفكر الذي يحيل دائماً إلى عملية الظهور، وإلى الإنوِهاب التي يتلقاها الإنسان في الحضرة الإلهية.
لن نقول إن هايدغر بلغ المكان الآمن في الحضرة. لقد مضى بالبذل طلباً لهذا المبتغى. لكنه اتجه شطر الألوهي بشقّ النفس.. الى ان وجدناه بعد طوافه الأخير في صحراء الميتافيزيقا الظمأى يعلن ان بإمكان: “الله وحده أن يمنحنا النجاة”… وما كنا لنستحضر التنظير الهايدغري هذا، إلا باعتبار ما “اقترفه من شَغَبٍ فريد” في تاريخ الميتافيزيقا الغربية. فالمحصول الذي زوَّدنا به كان أدنى إلى «جيولوجيا فلسفية» لم تُخرج كل نباتها بعد..
كل ما جاء به العقل الغربي من محاجَّات، فإنما من تضخم الذات التي أسلمت نفسها لمسلمتين سحابة أربعة قرون خلت:
1 – مسلَّمة العلم التي تقرر أن العلم والتفكير العلمي قادران لوحدهما أن يحدِّدا كل ما علينا أن نتقبله على أنه حقيقي. وأن كل شيء يجب أن يخضع لقوانين الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا، او أي فرع آخر من فروع العلم، أما الروحانيات وحتى الشعور بالجمال والحدس والعاطفة والأخلاقيات، فقد اختزلتها النظرة العقلانية إلى مجرد متغيرات في كيمياء الدماغ تتفاعل مع مجموعة من القوانين الميكرو ـ بيولوجية المرتبطة بتطوّر الإنسان.
2 – مسلَّمة الهيمنة والاستحواذ، لمَّا رأت ان الهدف من العلم – كما يقول فرانسيس بيكون – هو التحكم بالعالم الخارجي واستغلال الطبيعة، والسعي الحثيث إلى جلب المنافع أنَّى وُجِدَت…
من أجل ذلك سيكشف مسار الحداثة الفائضة عن خراب مبين في اليقين الجمعي سيُعرِّفُهُ عالم الاجتماع الألماني دوركهايم بـ “هيكل الشرك الحديث”. وهذا هو في الواقع، ما تستجليه عقيدة الفرد وشخصانيته المطلقة. فالشكل العبادي للشرك الحديث ـ كما ألمحَ دوركهايم ـ ليس الوثنية بل النرجسية البشرية، حيث بلغ تضخم الذات لديها منزلة الذروة في زمن الليبرالية المطلقة..
لقد ظهر في اختبارات الحداثة وامتداداتها المعاصرة أن ليس للمقدس لدى “العِلْموية” بصيغتها الإلحادية من محل. وهنا على وجه الضبط تكمن إحدى أهم خاصِّيات التهافت في الفكرة الإلحادية. نعني بذلك نظرها إلى الانسان كشيء زائل ككل الموجودات الزائلة، حيث لا يعود المتعالي الإلهي بالنسبة إليها غير وهم محض.
*شارك الدكتور محمود حيدر، بمداخلة عنوانها (في وجوب التنظير من أجل هندسة معرفيَّة لتفكير عربي إسلامي مفارق) ضمن فقرة الندوات الفكرية خلال الاجتماع السنوي الرابع للرابطة العربية للتربويين التنويريين الذي عقد في عمّان الأردن، بتاريخ 23 نوفمبر 2019.
[1] – Franz von Baader، Schelling، Paderborn 7115; Emmanuel Tourpe, L’Audace théosophique de Baader: premiers pas dans la philosophie religieuse de Franz von Baader (5671- 5485), Paris 7115.
[2] – IPID,
[3] – IPID, P. 179.
[4] – ريجيس دوبريه – فهم الدين (penser le Religieux) في حوار مع “ماغازين ليتيريز – العدد 124 – حزيران(يونيو) 2003. راجع أيضاً مجلة “مدارات غربية” العدد الثالث – خريف 2004.
[5] – (هوسرل – تأملات ديكارتيه – مدخل الى الظاهراتية – تعريب إسماعيل حسن – دار المعارف – القاهرة – مصر 1970 – ص 28).