حوار المشرق والمغرب: حسن حنفي و محمد عابد الجابري*
حوار المشرق والمغرب: حسن حنفي و محمد عابد الجابري*
سعيد بوخليط
سنة 1989 شهدت الساحة الثقافية العربية، حدثا معرفيا مهمّا، باغت أوساط الأنتلجنسيا، لأنه لم يكن حقيقة متوقَّعا في خضمِّ أدبيات متوارثة ترسَّخت مع مرور الأجيال، قوامها في أغلب الأحيان انتفاء أبسط تجليات الاهتمام، الحوار، الإصغاء، الاكتراث، لما يقال، سواء لدى الأنظمة السياسية وكذا النُّخب الثقافية.
غير أنَّ مجلة اليوم السابع،التي أصدرتها منظمة التحرير الفلسطينية في باريس، منذ سنة 1984، بادرت إلى تدشين خطوة حوارية مميَّزة بين مفكِّرين كبيرين ينتميان بجدارة إلى طليعة النخبة الأولى، اشتغلا حتى آخر لحظات حياتهما على مشروعين علميين؛حسب المفهوم الأصيل للكلمة في أبعاده المتكاملة، ضمن نفس مضمار سؤال الخطاب النهضوي: لماذا تأخَّر المسلمون وتقدَّم الغربيون؟ المتبلوِرة ملامحه الأولى خلال القرن التاسع عشر، جوابا على الإشكال التاريخي زمنيا والمصيري وجوديا،القابع غاية الآن بدون تراكم فعلي وراسخ لأوراش عملية قصد حدوث تبلور ملموس سياسيا واقتصاديا ومجتمعيا،للمسار الحضاري الذي بوسعه إخراج منظومات المنطقة وشعوبها المعزولة تماما وسط بيداء التخلُّف والتحلُّل، والاهتداء بها صوب واحات الحياة قصد الانبعاث ثانية.
جاءت موضوعات السجال وتعليلاته حسب العناوين التالية:في معنى الحوار ومقاصده، الأصولية والعصر، العلمانية والإسلام، الوحدة العربية إقليمية أم اندماجية، الليبرالية، الحداثة والتقليد، الناصرية، العرب والثورة الفرنسية، القضية الفلسطينية.
هيكلت مجلة اليوم السابع الحوار،حسب مرحلتين: انتظمت حلقات المرحلة الأولى، على عروض الأستاذين حسن حنفي وعابد الجابري،بينما جاءت المرحلة الثانية طيلة أربعة عشر أسبوعا، كي تفسح المجلة صفحاتها للتعقيب والتعليق ومناقشة الأفكار التي بادر إلى طرحها رائدي”حوار الثمانينات”،مثلما سمي آنذاك،بمشاركة الأسماء التالية:
ناصيف عواد، صلاح أحمد إبراهيم، جورج طرابيشي، أحمد الدغشي،عبد الله بونفور، علي مبروك، عبد العزيز المقالح، رمضان بسطاويسي محمد،أحمد عبد الحليم عطية، عبد المعطي حجازي.
قيل، بأنَّه حوار تحدَّث بهواجس الأنتلجنسيا ونيابة عنها فيما يخص طبيعة تبلور رؤاها نحو التحوُّلات العالمية الجارية أواخر سنوات الثمانيات،اختزل حسن حنفي أهمّها في اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987،ونهاية عصر الاستقطاب،فقد بدأت ملامح توطُّد نظام القطب الواحد ثم مرحلة العولمة،وبعد فترة الحوار بمدَّة قليلة وقع الغزو العراقي للكويت يوم 2 أغسطس سنة 1990،الذي دشَّن للأسف بداية اشتعال شرارات جحيم من الانهيارات التراجيدية وانحدار هائل، قياسا لنوعية التطلُّعات السائدة قبل ذلك اليوم…
تبادل حسن حنفي ومحمد عابد الجابري،على امتداد عشرة أسابيع متواصلة، وجهات نظرهما بين طيات العناوين الرئيسة المشار إليها سابقا، بخصوص قضايا الحرية والديمقراطية والعلمانية والحداثة والإسلام والشعب والدولة والحاضر والماضي والمشرق والمغرب…،أطروحات لازالت دائما عالقة بحدَّة، وقد مرَّت خمس وثلاثون سنة تقريبا على ذلك اللقاء، بل ازدادت تعقيدا واغترابا تبعا لسياقات انقلابات جذرية مسَّت بنية الزمان، هوية المكان، اهتمامات الجيل،طبيعة الاختيارات، مقتضيات الخطاب، مجالات التداول، سوق البضاعة.
مرَّت مياه كثيرة تحت الجسر،جروح اتسعت واستفحلت،ارتدادات أكبر من الزلازل اكتسحت المنطقة ومنظوماتها منذ 1989 غاية 2024 ،محليا وقوميا وكونيا.آمال عديدة، انقلبت إلى كمية آلام.تطلُّعات بحجم الكون ملؤها البناء والتحرُّر والعدل والانتماء حقا إلى زمن العالم،انكمشت انكماشا،بل تلاشت جراء قسوة ماحدث وعبثية مايحدث إلى مراثي بكائية.
توفي محمد عابد الجابري صبيحة يوم 3مايو 2010، بعد أن خلَّف إرث تراث للتفكير حضاريا دون توقف، في قضايا الإنسان والتحرُّر الشامل وسيادة العدالة، يمثِّل مشروع حياة يعبِّر عن مرحلة بأكملها في تاريخ الفكر العربي المعاصر، مثلما وصفه حسن حنفي،تجاوزت عناوينه ثلاثين مؤلَّفا، من الطِّراز الرفيع، نواته المركزية رباعيته الشهيرة: تكوين العقل العربي (1984)،بنية العقل العربي(1986)،العقل السياسي العربي(1990) العقل الأخلاقي العربي(2001) .
رحل بدوره حسن حنفي عن عالمنا، يوم 21أكتوبر 2021وقد كرَّس حياته باعتباره أحد رموز اليسار الإسلامي،لتدبيج فصول كتب ذات زخم نظري بليغ، لازالت في حاجة للقراءة والتأويل واستثمار زبدة خلاصتها،بلغت عشرين عملا؛أهمها”التراث والتجديد”(1980)، ”من العقيدة إلى الثورة”(1988)،”مقدمة في علم الاستغراب “(1988)،ضمن نفس هموم ورش الجابري وزمرة من نبهاء جيلهما و أكثرهم فطنة وذكاء، قصد البحث عن منافذ يستشرف من خلالها الإنسان والحجر ممكنات فعلية لمعاني وجودهما.
إذن، سأحاول عبر فقرات هذه المقالة، استعادة بعض جوانب أحاديث الرجلين(1).
تحدَّث بداية حسن حنفي، فيما يشبه تقديما ومدخلا و أرضية، لانطلاقة حواره مع عابد الجابري، بتحديده معنى الحوار وطبيعته ومقاصده وأسسه، بعيدا تماما عن منطق الصراع أو الإقصاء المستند ضمنيا على خلفية ”الفرقة الناجية”،المشكوك في صحة مرجعيتها النبوية،من طرف الفقيه الأندلسي ابن حزم.
يتوخى هذا الحوار القطع مع شتى تداعيات اللامبالاة والإقصاء والتكفير والتخوين.بل، يعتبر الحوار مع الجابري سمة حميدة لهذا الجيل،يؤكِّد حسن حنفي،لأنَّه لقاء بين مفكِّر من المشرق والثاني ينتمي إلى المغرب،مما يعكس إشارة إيجابية بخصوص تجاوز التقسيم الاستعماري للعالم العربي،ثم ازدادت حساسية ذلك نتيجة التقسيم ”المعرفي”بين خصوصية مغربية قوامها العقلانية،وأخرى شرقية،إشراقية وتصوفية،بحيث يلمِّح هنا بكيفية غير مباشرة إلى رؤية الجابري التي شكَّلت أساسا إبستمولوجيا لقراءته التراث في كتابه: ”نحن والتراث،قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي”.
هل بوسع حوار بين مثقفيْن رائدين،أن يجسِّد مقدمة وتحفيزا لحوار سياسي بين الزعماء السياسيين،يتساءل حسن حنفي؟وتأسيس لبنات جبهة وطنية،تستلهم تطلُّعات التحرُّر والاستقلال والتحديث والثورة التي حبكت خيوطها مشاريع مفكِّري المشرق والمغرب على السواء:محمد عزيز الحبابي،عبد الله العروي،محمد عابد الجابري،عبد الكبير الخطيبي،علي أومليل،زكي نجيب محمود، عثمان أمين،أنور عبد الملك، حسن حنفي، الطيب تيزيني، حسين مروة،صادق جلال العظم، حسن صعب…
الأسئلة المركزية نفسها والمنطلقات ذاتها،غير أنَّ الأجوبة اختلفت طبعا،حسب مرجعيات كل واحد من هؤلاء:الدولة الوطنية،المجال القومي،الحداثة، الديمقراطية، العدالة الاجتماعية،المؤسَّسات السياسية،التراث،الدين،الطبقات الاجتماعية،المثقفون والسلطة، التاريخ، التوتاليتارية، الإسلام، أوروبا،إلخ.
تكمن دعوة ملحَّة،للحوار بين المكوِّنات الأساسية،المعبِّرَة عن أهمِّ التيارات الثقافية المنخرطة في سبيل نحت مرتكزات المنظومة المفهومية لإثراء تلك النقاشات: الليبرالية، الماركسية، الإسلاميون، القومية العربية أو الناصرية،الاشتراكية العربية. وقد أبرز حسن حنفي بكيفية مقتضبة الخريطة العامة لتشكُّلات تلك التيارات وأعلامها الرئيسيين.
لكي تغدو مضامين هذا الحوار،واقعية وعملية،وتوجيه بوصلة الإطار النظري الخالص،يلزمه الانكباب على التحدِّيات الرئيسة السبعة،التي رتَّبها حسن حنفي كما يلي:
تحرير الأرض ومقاومة الاحتلال،الحريات العامة،العدالة الاجتماعية،الوحدة في مواجهة التجزئة،الهوية مقابل التغريب، التقدم في مواجهة التخلف، تجنيد الجماهير ضد اللامبالاة:”تلك محاور رئيسية للحوار بين المثقفين.وهي تكون برنامج عمل وطني موحد للقادة السياسيين.وعلى هذا النحو يجتمع المثقفون والقادة على موضوعات واحدة.يبدأ المثقفون بالحوار وعيونهم على الوطن،ولقد يبدأ القادة الحوار وآذانهم للثقافة”(ص 14) .
بعد تبيان حسن حنفي لضرورة الحوار،وأدبياته وأطرافه ودواعيه العملية قصد استثمار نتائجه،ومواجهة الإشكاليات التاريخية بوعي تاريخي قادر على صهر النظرية ضمن الممارسة،تناول الكلمة محمد عابد الجابري،مقترحا لعبة إمكانية قلب الأدوار واستبدال المواقع،كي يتعرَّف المشرق على نفسه ثانية،من خلال كونه قد أضحى مغربا، افتراضا،والعكس صحيح بالنسبة للمغرب:”قلت في نفسي:لماذا لانعكس الأمر فنكلف الكاتب المغربي بالكلام عن المشرق وباسمه،ليتولى الكاتب المشرقي بدوره الكلام عن المغرب وبالنيابة عن أهله،لأنه بهذا النوع من ”تبادل المواقع”يتعرف بعضنا على بعض بصورة أعمق:فالمشارقة يتعرفون حينئذ على صورتهم،لاكما تقوم في وعيهم،فهذه يعرفونها، بل يتعرفون عليها كما تقوم،لاأقول في وعي ”الآخر” ”(ص 15).
حتما،قصد إعادة تقويم الذات وتكسير أنانيتها المريضة وتصحيح الصورة،دون أحكام جاهزة وتأويلات ماثلة،ثم انطلاق حوار جديد حقيقي وعميق أساسه وكنهه الاختلاف.
يتَّفق الجابري مبدئيا،مع دعوة حسن حنفي إلى استلهام ثقافة الحوار والقطع مع تأويلات الحديث النبوي عن”الفرقة الناجية”،الذي شكَّل فعلا موضوع ارتياب وتشكيك من طرف الفقه الأندلسي تحديدا ابن حزم،أو على الأقل تجلت حينها دعوة إلى تقييم عقلاني، قصد فهم سياقه واستيعاب حيثياته.
الحديث بخصوص المشرق والمغرب،الذي يجرّ نحو مختلف تداعي الأفكار والاستطراد لايعني الفصل، بل قصده حسب الجابري:”ربط ثمرات الثقافة العربية الإسلامية بعضها ببعض،هو جعل آخرها زمنا،لاذيلا لبدايتها،بل تجاوزا لها وتدشينا لبداية جديدة تمنح للأولى تاريخا بأن تجعلها تدخل التاريخ.هذا من ناحية التاريخ.أما من الناحية الجغرافية فالمشرف والمغرب نسبيان،هناك مشارق وهناك مغارب،في كل مشرق ومغرب.كما أن هناك في الثقافة الواحدة خصوصيات محلية هي التي تعطيها خصوصيتها التي تميزها عن الثقافات الأجنبية”(ص 22) .
استغلَّ الجابري المقام والمناسبة،بغية إعادة توضيح حقيقة تصوره لمفهوم القطيعة الابستمولوجية،الذي أثار انتقادا أساسا من طرف بعض مفكِّري المشرق ضمنهم حسن حنفي:”حسنا فعلتَ عندما أثرت قضية”القسمة”إلى ”مشرق ومغرب”التي قلتَ عنها إن ”البعض منا”غالى فيها وجعل منها ”قطيعة”ودعا إلى”خصوصية مغربية عقلانية علمية طبيعية في مقابل مشرق صوفي إشراقي ديني”.وبما أنني تعلمت من أدب المشرق كثيرا فقد تذكرت المثل القائل: ” إياك أعني واسمعي ياجارة”… على كل حال فأنا لم أسمع بأحد من المغاربة قال ب”القطيعة” بين المشرق والمغرب.أما أنا فقد استعملت هذه الكلمة في معنى إبستمولوجي خاص وفي سياق خاص لا أحتاج إلى شرحه،فقد سبق أن أطنبت في بيان مضمونه والغرض منه في نفس المكان الذي استعملت فيه هذا اللفظ أول مرة.وأنتَ تعلم أن ”القطيعة”بين مفكر وآخر ينتميان إلى نفس الثقافة،كابن رشد وابن سينا أو كإنشتاين ونيوتن أو كماركس وهيجل،لاتعني الانشطار في الثقافة نفسها.وهذا أنت أعلم الناس به،فالأساتذة أساتذة للطلبة وحسب”(ص 20).
بعد إعادة التعريف بالحوار والمعنى الإجرائي للمشرق والمغرب،شرع حسن حنفي في تناول موضوع الأصولية،مستهلا مقاربته بالتحديد اللغوي سواء كما ورد في أصله العربي من خلال لفظ الأصول ودلالاته العلمية،مع علم الأصول سواء أصول الدين وأصول الفقه،أما الترجمة الأجنبية “Fundamentalism ”،فتشير لدى الدارسين الغربيين إلى:”النهضة الإسلامية أو الصحوة الإسلامية كما مثلتها أخيرا الحركات والجماعات الإسلامية المعاصرة”(ص 23).
يرفض حسن حنفي،التصور الغربي،الذي ربط الأصولية بالعصر الحديث مع نظام الخميني وكذا وسمها بأشكال التخلف والرجعية والسعي فقط إلى قلب نظم الحكم.
يعدُّ تطور تلك الحركات،تعبيرا عن مرحلة ثالثة من تاريخ الحضارة الإسلامية. تؤرِّخ المرحلة الأولى،إلى الفترة الممتدَّة من القرن الأول غاية السابع،أو العصر الذهبي،الذي شهد انحدارا بعد هجوم الغزالي على العلوم العقلية.ثم،المرحلة الثانية،بين القرن الثامن والرابع عشر الهجري،اهتمَّت خلاله تلك الحضارة بالسعي إلى شرح وتدوين ما أنجزته خلال العصور السالفة،واستمرَّت المرحلة غاية العصر التركي المملوكي العثماني،وبداية تبلور السؤال الشهير: لماذا تأخر المسلمون وتقدم الأوروبيون؟
أما،المرحلة الثالثة، فقد بدأت من القرن الخامس عشر حتى القرن الواحد والعشرين.
جسَّدت أفكار جمال الدين الأفغاني،بداية حقيقية للإصلاح،بتوظيفه الإسلام لمواجهة الاستعمار والقهر السائد داخليا.لكن نتيجة فشل ثورة أحمد عرابي سنة 1881،غيَّر محمد عبده استراتجية أستاذه الأفغاني،بالتخلِّي عن الثورة والانكباب أولا وأخيرا على إصلاح أخلاقي وتربوي وديني قد يأخذ بالضرورة زمنا طويلا.
جاءت ثورة كمال أتاتورك في تركيا،فأسقط الخلافة وتبنَّى النموذج الأوروبي،حينها وقع تراجع آخر فيما يتعلق بأفق التغيير،لذلك تبلورت الحركة السلفية من خلال دعوة رشيد رضا،إلى الاهتمام أولا وأخيرا،بالأصول وضرورة التمسُّك بها.
ثم ظهرت حركة الإخوان المسلمين،ضمن سياق تبلور الحركات الوطنية، وحركات الاستقلال،والأحزاب الجماهيرية،لمواجهة الاستعمار والفساد،هكذا جسَّدت عمليا حلم جمال الدين الأفغاني بتأسيس حزب ثوري،مستند على الجماهير وتحقيق الإصلاح.
نجحت حركة الضباط الأحرار في مصر سنة1952 .حدث الصدام بين الجناحين نتيجة محاولة اغتيال جمال عبد الناصر يوم 26 أكتوبر 1954،من طرف محمود عبد اللطيف؛عضو جماعة الإخوان المسلمين،فانصبَّت آلة القمع برمتها على المنتمين إلى التنظيم وملئت بهم السجون المصرية،كي يختبروا فعليا تحت قبضة الأجهزة مختلف أنواع التعذيب والتنكيل.لذلك،حينما غادروا دهاليز السجون،تمسَّكوا جملة وتفصيلا برفض شامل لمختلف الإيديولوجيات الأخرى،عبر دعوتهم قصد العمل من أجل تقويض مانعتوه بمجتمع الكفر وتدشين بداية حقيقية للإسلام.
في غضون تلك المطاردة العنيفة،راكمت الحركات الإسلامية رمزية شعبية،لاسيما جراء إخفاق سياسات التحديث من طرف القوى العلمانية،بواسطة تدابير مختلف مكوِّناتها الليبرالية القومية ثم الماركسية.
انقسمت الأصولية الإسلامية إلى تيار محافظ تقليدي،والآخر تحرُّري. يؤيِّد الأول النُّظم المحافظة،متمسِّكا طوباويا بضرورة تطبيق الشريعة وقانون العقوبات،بغير فهم للسياق وكنه الشريعة أو أسباب النزول ومقاصد الشريعة وروح العصر،بالدفاع المطلق عن حقوق الله،لذلك يضيف حسن حنفي:”غلب عليها الاستنباط أكثر من الاستقراء،والأصول أكثر من الفروع،والمبادئ أكثر من الوقائع،والشعارات أكثر من مضامينها،والنظريات أكثر من العمليات،والعقائد أكثر من التشريعات.توحِّد بين الشريعة وقانون العقوبات،وتريد أن يقوم الناس بواجباتهم قبل أن يأخذوا حقوقهم.تريد تطبيق الإسلام بجدل الكلي أو لاشيء،وهدم النظم الجاهلية كلها ليبدأ تأسيس المجتمعات الإسلامية من جديد.فلا رتق ولاإصلاح ولاترميم ولاتعديل ولاتغيير لما هو قائم وكأنَّ الإسلام لم يدع الناس إلى الإصلاح وعدم الإفساد في الأرض،ولم يهذّب مناسك الحج في الجاهلية دون إلغائها.ويتم ذلك عن طريق النخبة،جيل قرآني فريد،طليعة مؤمنة تقود الأغلبية،وتدعو الناس.ولاضير أن يبدأ ذلك بتنظيم سري،وحركة تحت الأرض حتى يظهر الإمام فيتم ملء الأرض عدلا كما ملئت جورا،ولاضير من استعمال العنف،فالعنف في الله واجب”(ص 27).
أما التيار الثاني،فيرفض بدوره وجود الأنظمة القائمة،مثلما يعيش باستمرار في خضمِّ حالة مطاردة من طرف أجهزتها،لكنه بخلاف تصور التيار الأول،قد يتحالف مع التنظيمات التقدمية.تتعدَّد تسمياته بين الإسلام المستنير،الإسلام التقدمي،النهضة الإسلامية،اليسار الإسلامي،الثورة الإسلامية.لذلك،تحكم عليه الأصولية الإسلامية بالكفر،ولايأبه العلمانيون لنهجه،بحيث يروا فيه منافسا خطيرا،نتيجة إدراكه كيفية الجمع بين أهداف الأمة،ثم ثقافتها الوطنية أو الحُسْنين وفق تعبير حسن حنفي،بينما تصنِّفه الأنظمة الحاكمة باعتباره ماركسيا وإسلاميا.تنظيميا،مازال ضعيفا،يفتقر إلى الإطار المطلوب.
عموما،يكمن التحدِّي وينبغي توجيه الجهود نحو تقوية الجناح اليساري داخل الحركة الأصولية،بغية الانتقال من البنية المحافظة مما يعني بكيفية أخرى ضرورة ربط وعينا السياسي بالتاريخي.
قدَّمت التصورات النظرية لمشروع عابد الجابري،مفهوم الكتلة التاريخية،الذي يجسِّد نقط التقاء بين مختلف التيارات المذهبية التي أرست الحمولة النظرية للخطاب العربي المعاصر،يعني السلفية، الليبرالية، القومية، الماركسية.
الكتلة التاريخية،بمثابة الجبهة التقدمية التي تسمو فوق تبايناتها الإيديولوجية وتتغاضى عن اختلافاتها المرجعية،قصد التركيز أولا وأخيرا،على القضايا المصيرية المطروحة وطنيا وقوميا،مثل النهضة، التنمية، العقلانية،الديمقراطية وكذا الأمن الغذائي.يقول الجابري:”وإذن فالقضية المطروحة علينا،نحن العرب والمسلمين وشعوب العالم الثالث،هي البحث عن سبيل إلى المناعة والقوة والمنعة،وليس هناك سوى سبيل واحد هو الاتحاد و”الاتحاد قوة”.وإذن ف”الكتلة التاريخية”مطروحة اليوم كضرورة حياتية على صعيد القطر الواحد وعلى صعيد شعوب العالم الثالث كله.وفيما يخص الصعيد العربي يبدو لي أن دور المثقف اليوم هو البحث عن سبيل لقيام كتلة تاريخية بين القوى الاجتماعية الحية والتيارات الإيديولوجية التي تنشد التقدم والتغيير في اتجاه تعزيز الكيان العربي وتوفير القوة والمناعة له”(ص 31 ).
يظهر على وجه الاحتمال،أنَّ تصور عابد الجابري لحيثيات ”الكتلة التاريخية”،في إطار تعقيبه على وجهة نظر حسن حنفي منظِّر”اليسار الإسلامي”،قد تشكَّلت أولى لبناته وملامحه العامة،خلال ظروف هذا الحوار.أطروحة تنظيمية تمسَّك بها،منذئذ غاية وفاته.أيضا،استغلَّ المقام للإفصاح بوضوح وهو المفكِّر العقلاني المؤمن بقيم الحداثة،عن موقفه من الأصولية الإسلامية:”فقد سمعت غير واحد من الأصدقاء يقول:”إن الناس قد التبس عليهم موقعكَ،فأنت تتكلم في كل اتجاه ومن داخل كل تيار وتظهر عدم التحزب لهذه الجهة أو تلك”.والحقيقة أني أدركُ هذا جيدا وأعتبر أسئلة الناس،الأصدقاء منهم وغيرهم،أسئلة مشروعة،ولكنني مع ذلك أحس في قرارة نفسي أن المسألة هي أكبر كثيرا من مجرد الإعلان عن ”موقف”يساعد الناس على إرضاء رغبتهم في التصنيف،بل أكبر كثيرا حتى من الاختيار الذي يريده المرء لنفسه.ذلك لأن القضية كما أفهمها و كما أقدرها هي قضية حاضر ومستقبل أمة بأكملها وليس قضية فرد أو تيار أو صنف من الناس.أنا أومن بأن التيارات الموجودة اليوم ومنذ قرن أو يزيد في الساحة العربية،والتي تصنف عادة إلى سلفية وليبرالية وقومية وماركسية،هي تيارات تجد مايبررها في الواقع العربي وبالتالي فهي جميعا تمتلك شرعية الوجود بهذا القدر أو ذاك.والقضية الأساسية بالنسبة إلي ليست الدفاع عن هذا التيار أو ذاك ولاإعلان الولاء لهذه الجهة أو تلك…كلا،إن قضيتي الأساسية،وأعتقد أنها قضية كل مثقف عربي في الظرف الراهن،هي البحث عن ”نقط الالتقاء”التي تجعل في الإمكان وقوف الجميع في ”كتلة تاريخية”واحدة لمواجهة المصير المشترك”(ص 30).
تشبه ماهية”الكتلة التاريخية”،يؤكد عابد الجابري ”نزع السلاح”الذي انتهى إليه خطاب القوى الدولية الكبيرة،بغاية ”إنقاذ البشرية”حسب ادعائهم من حرب نووية تأتي على الجميع.نفس الصورة يمكن إسقاطها على الميدان الإيديولوجي،بضرورة تجميد الصراعات الداخلية والانكباب على بناء جبهة يمكنها مواجهة المستقبل حفاظا على البقاء.
من جهة ثانية،يستعيد عابد الجابري التحديد اللغوي لكلمة “أصولية” منطلقا من تصور آخر،يخالف تصور حسن حنفي،فالأصولية ليست بترجمة للكلمة الأجنبية ”Fundamentalisme”،بل على العكس من ذلك،تبلور المفهوم تعبيرا عن سلفية الأفغاني ومحمد عبده،بيد أنه لايترجم كلمة ”السلف”و”السلفية”بل مضمون تلك الحركة.
مفهوم نحته واقترحه أنور عبد المالك سنة 1965،من خلال عمله الصادر باللغة الفرنسية تحت عنوان”مختارات من الأدب العربي المعاصر”،قصد الإشارة إلى مضمون حركة الأفغاني ومحمد عبده،ثم ترجمها المترجمون العرب بالأصولية،وكان بالأحرى توظيفهم تعبير”سلفية”.
بالانتقال إلى محور آخر،مضمونه”الإسلام والعلمانية”،يقرُّ حسن حنفي من خلال عنوان بارز، بأنَّ: ”الإسلام لايحتاج إلى علمانية غربية”،لذلك يحاول الوقوف من جديد على المفهوم وسياق تبلوره التاريخي.
ليست العلمانية لفظا عربيا،وإنما تعريب للفظ الغربي”secularism ”الذي يعود إلى اللفظ اللاتيني”Saeculum ”أي العصر.تعني وفق المنظومة الغربية،الفصل بين الكنيسة والدولة،السلطة الروحية والزمنية:”اشنقوا آخر ملِكٍ،بأمعاء آخر قِسِّيس”(الثورة الفرنسية)،وكذا”أعط مالقيصر لقيصر،وما لله لله”(المسيح).
استندت الدساتير الأوروبية على العلمانية كنظام أوَّلي،بحيث لاتتبنَّى الدولة دينا رسميا،ولاقانونا كَنَسيا ينظِّم قوانين الأحوال الشخصية،كما تستبعد المدارس التعليم الديني،ويُمنع على أجهزة الإعلام الدعاية لدين معين.
نتيجة تقدُّم الغرب وانتشار منظوماته ثم رواج مفاهيمه:”قام العلمانيون في بلادنا منذ شبلي شميل،ويعقوب صروف،وفرح أنطون،ونقولا حداد،وسلامة موسى وولي الدين يكن،ولويس عوض وغيرهم يدعون إلى العلمانية بهذا المعنى الغربي،فصل الدين عن الدولة،والدين لله والوطن للجميع.والملاحظ أنهم كلهم كانوا من النصارى،وغالبيتهم من نصارى الشام،الذين كان ولاؤهم الحضاري للغرب،ولاينتسبون إلى الإسلام دينا أو حضارة،وتربوا في المدارس الأجنبية وفي إرساليات التبشير.فكان الأسهل في دعوتهم الصادقة للتقدم والنهوض بالبلاد أخذ النمط الغربي الذي عرفوه ودعوا إليه ورأوه ماثلا في تقدم الغرب الفعلي”(ص 35- 36).نفس التصوُّر،استند عليه مفكِّرون مسلمون،مثل قاسم أمين،علي عبد الرزاق، خالد محمد خالد، إسماعيل مظهر،زكي نجيب محمود،فؤاد زكريا.
في حين رفضت الحركات الإسلامية العلمانية،وأكَّدت تمسُّكها المطلق بالإسلام الذي يربط بين الدين والدنيا،لكن السؤال الملحّ:”كيف يمكن تحقيق أهداف الفريق العلماني، ماتصبو إليه مجتمعاتنا من حرية وتقدم،وفي الوقت نفسه كيف نستطيع أن نحقق مطالب الفريق الثاني،وهو تطبيق الشريعة الإسلامية،منعا للازدواجية بين الدنيا والدين،بين العمل والإيمان،بين الشريعة والعقيدة؟”(ص 36- 37).
الشريعة الإسلامية وضعية،تسعى مقاصدها كما حدَّدها الأصوليون،وجهة الحفاظ على الدين، الحياة، العقل، العرض، المال.ضرورات خمس،تشكِّل نفس مقوِّمات الحياة البشرية،التي ينشدها العلمانيون لكنهم يسعون إلى استلهامها من مرجعية الحضارة الغربية بدل الشريعة الإسلامية،وهو مايعتبره حسن حنفي تقليدا وليس إبداعا.
أيضا،رحَّب دائما الإسلاميون بمقتضيات الحدود في الشريعة الإسلامية،بينما أثارت باستمرار منظومتها العقابية استنكارا لدى أنصار العلمانية.موقف،اعتبره حسن حنفي مجرد وَهْمٍ نتيجة حرب ترسَّبت وقائعها بين الإخوة الأعداء،ضمن نطاق مرجعيتي التكفير والفرقة الناجية،بينما تقوم الأحكام الشرعية على تأويلين قوامهما أحكام الوضع والتكليف:”أما تضييق الشريعة الخناق على الناس الذي يضيق به العلمانيون ذرعا فإنه أيضا شعور ينشأ لديهم نتيجة لسوء فهم روح الشريعة وكأنها أتت للمنع والزجر والتحريم وليس لإشباع الرغبات وقضاء الحاجات وإطلاق طاقات الإنسان وإحساسه بالطبيعة.فالأحكام الشرعية الخمسة:الواجب،والمندوب،والمحرم،والمكروه،والمباح إنما تعبر عن مستويات الفعل الإنساني الطبيعي” (ص 37- 38 ).
هي مستويات للسلوك الإنساني أو الأحكام الشرعية الخمسة،تصف أفعال الإنسان خارج دائرتي الحلال والحرام التي يرفضها العلمانيون،بينما كنه الشريعة الإسلامية ومقاصدها،يؤكِّد حسن حنفي،يميِّزه المرونة واستحضارها السياق والمعطيات الظرفية للزمان والمكان،بحيث يتغيَّر الفقه حسب المستجدات الزمنية وأسئلة الواقع المستجدة،بالتالي مادامت غاية الشريعة الإسلامية الاستجابة لمصالح الناس وحاجاتهم الحياتية،يخلص حسن حنفي إلى أنَّ:”الإسلام دين علماني في جوهره،ومن ثم لاحاجة له لعلمانية زائدة عليه مستمدة من الحضارة الغربية.إنما تخلفنا عن الآخر هو الذي حول الإسلام إلى كهنوت وسلطة دينية ومراسم وشعائر وطقوس وعقوبات وحدود حتى زهق الناس واتجهوا نحو العلمانية الغربية بما تمثله من عقلانية وليبرالية وحرية وديمقراطية وتقدم.فالعيب فينا وليس في غيرنا،وفي تقليدنا للغير وليس في إبداعنا الذاتي” (ص 38).
أقَرَّ عابد الجابري في مطلع ردِّه بأنَّ العلمانية من المفاهيم التي تبعث كثيرا من الالتباس داخل الفكر العربي المعاصر.لقد تجلَّت الدعوة إلى العلمانية،للمرة الأولى في لبنان،منتصف القرن التاسع عشر قصد الاستقلال عن الخلافة العثمانية،واحترام حقوق الأقليات.
مكمن الالتباس المرتبط بالعلمانية،في العالم العربي،الالتجاء غالبا إلى هذا المفهوم،بغية المطالبة بالديمقراطية وكذا الممارسة العقلانية السياسية.مطالب وحاجات موضوعية، من خلال مفهوم ملتبس،مما يقتضي:”استبعاد شعار العلمانية من قاموس الفكر العربي وتعويضه بشعاري الديمقراطية والعقلانية.فهما اللذان يعبران تعبيرا مطابقا عن حاجات المجتمع العربي:الديمقراطية تعني حفظ الحقوق،حقوق الأفراد وحقوق الجماعات،والعقلانية تعني الصدور في الممارسة السياسية عن العقل ومعاييره المنطقية والأخلاقية،وليس عن الهوى والتعصب وتقلبات المزاج”(ص 39- 40).هكذا،يحدِّد عابد الجابري طبيعة الخطاب الذي يمكن بحسبه محاورة مفكِّرين قوميين،ليبراليين، ماركسيين.
بيد أنه حين توخى الانخراط في سجال مع المناهضين مبدئيا للعلمانية؛أساسا السلفيين،فيقتضي المقام خطابا مغايرا للسابق،يرفض نموذج التراكيب اللغوية التي استعملها حسن حنفي بقوله”الإسلام دين علماني”،على منوال عبارات اختزالية من قبيل ”الإسلام دين اشتراكي”،”الإسلام دين ليبرالي”،”الإسلام دين رأسمالي”،مادامت لاتقدِّم حلولا لأصل المشكلة المرتبط جوهرها بشكل الدولة.
أجمل عابد الجابري،تصوُّره للمسألة حسب المعطيات التالية:
*الإسلام دين ودنيا،وادِّعاء غير ذلك يعتبر تجاهلا لتاريخ الدولة التي أقامها الرسول ووطَّد أركانها أبو يكر الصديق وعمر بن الخطاب.
*الإسلام دين ودولة،لكنه ترك حيثيات الاجتهاد لظروف المسلمين،دون إقرار نصٍّ قرآني أو حديث نبوي،بمعنى اندراج شكل الدولة وطبيعة نظامها ضمن دعوة الرسول: ”أنتم أدرى بشؤون دنياكم”.
*بعد معركة صِفِّين التي خاضها جيش علي بن أبي طالب،ضدَّ جيش معاوية بن أبي سفيان،ظهرت نظريات حول كيفية تدبير الحكم في الإسلام تأرجحت بين تأويلات الشيعة والخوارج ثم معاوية.
*بانقضاء فترة الخلافة النبوية،تحوَّل نظام الحكم إلى ”مُلك عَضُوض” أو ”مُلك سياسي”.يوضِّح عابد الجابري حيثيات هذا الانتقال قائلا:”إن الدولة زمن النبي والخلفاء كانت دولة فتوحات:في قمتها قادة عسكريون هم في الوقت نفسه رجال الدين،رجال الدعوة،أما في قاعدتها فكانت الرعية كلها جندا،لقد جندت القبائل العربية كلها للفتح.لم يكن هناك إذن فصل بين شيء يمكن تسميته ب”المجتمع السياسي”،أعني أجهزة الدولة باختلاف أنواعها،وبين شيء اسمه”المجتمع المدني”العلماء والأحزاب والتنظيمات الاجتماعية وعامة الناس.أما زمن معاوية فقد انقلبت دولة الفتوحات هذه إلى دولة”المُلك السياسي”:دولة انفصل فيها الأمراء عن العلماء والجند عن الرعية،فبرز”مجتمع سياسي”مكون أساسا من الأمراء والجند،و”مجتمع مدني”مكون أساسا من العلماء والرعية”(ص 42) .
هكذا،انتهت الصيرورة التاريخية إلى حتمية بروز تباين بين العلماء والأمراء،وانفصال الجنود عن الرعية،بالتالي فمعاوية الذي غيَّر نظام الحكم،ولم تعد مكوِّناته موحَّدة ومتآلفة،كما الحال فترة العهد النبوي والصحابة بحيث أضحت تتشكَّل من فئات الأمراء والجنود والعلماء وباقي الرعية.من ثمَّة، جاء إقرار معاوية في خطبة ألقاها على أهل المدينة خلال أول زيارة بعد انتصاره على علي بن أبي طالب،بأنَّه سيدبِّر شؤون الدولة على أساس المصلحة والمنفعة،ولايمكن الاستمرار في تطبيق نفس نهج أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب.بالفعل،أجمع المسلمون على استساغة دعوته الجديدة،وبايعوه على هذا الأساس،بما في ذلك الحسن والحسين باستثناء الخوارج.
إذن،تحقَّقت على أرض الواقع تجربة سياسية ثانية،أضيفت إلى سابقتها مع الخلفاء الراشدين،مثلما ستظهر أخرى مع عمر بن عبد العزيز،هارون الرشيد المأمون،لأنَّه لم يعد ممكنا الإبقاء على النموذج الأول باعتباره مثلا أعلى لتدبير شؤون الدولة:”ولاأعتقد أنه بالإمكان إعادة تحقيقه من جديد كما كان،لأن من جملة شروط وجود قيام ”دولة الفتح”،يكون فيها الأمراء والعلماء فريقا واحدا والجند والرعية فريقا واحدا،وهذا شيء مستبعد على الأقل على المدى المنظور،إلا شيء واحد هو إقامة الدولة على أساس المصلحة والمنفعة،ولكن لا على الطريق التي سلكها معاوية الذي اعتمد في حكمه على قبيلته ومن تحالف معها،بل على الطريقة التي يقتضيها عصرنا،الطريقة التي تهدف إلى إشراك الأمة كلها في اختيار الحكام ومراقبتهم وفق قواعد ونظم قانونية ودستورية”(ص 43 -44 ).
عموما،لم يضع الإسلام قانونا لشكل الدولة،بل فوَّضه تفويضا لاجتهادات المسلمين حسب المصلحة العامة وماتستدعيه السياقات الراهنة وكذا ظروف توالي الأحقاب والعصور.
بعد حديث العلمانية ومنظومة الحكم السياسي،انتقل النقاش بين المفكريْن إلى قضية الوحدة العربية،لاسيما وأنَّ مناسبة حوارهما تزامنت مع فترة شهدت ولادة مشروعين وحدويين،شهر فبراير1989،في المغرب والمشرق:”اتحاد المغرب العربي”و”مجلس التعاون العربي”.
إشارة،ابتدأ بها عابد الجابري مداخلته،ليكشف عن مفارقة تاريخية مفادها أنَّ المشاريع الوحدوية أواخر الخمسينات وبداية الستينات،حظيت دائما بحماس داخل الأوطان العربية،مقابل توجُّس من طرف الدول الأجنبية،بينما انقلبت الآية إزاء المبادرتين الأخيرين،بحيث أصبحت الشعوب تضمر أحاسيس الحذر،صوب مايجري،مقابل ترحيب المنظومة الدولية.
بعد ذلك، قدَّم عابد الجابري،سردا تاريخيا مقتضبا ومكثفا قصد المقارنة بين التفكير الوحدوي ابتداء من سنوات الخمسينات غاية الثمانينات،بحيث تبلورت فكرة الوحدة العربية في منطقة الشام،منطوية على وحدة إقليمية لسوريا الكبرى وكذا وحدة”الهلال الخصيب”،دون أن تشمل الخليج واليمن،فقد استندت الوحدة العربية على توجُّه إقليمي يضيف الجابري.
سادت فكرة الوحدة الشام أكثر من مصر التي تعالت داخلها أصوات تدعو إلى الارتباط بالتاريخ الفرعوني،بينما نزع تيار ثان نحو أوروبا والغرب،ثم بقي تيار ثالث عربيا إسلاميا:”ويمكن القول،بصورة إجمالية،أن مصر لم تنخرط في التفكير في”الوحدة العربية”انخراطا عمليا وبقدر حجمها،إلا مع ثورة تموز(يوليو) 1952،وبالخصوص بعد العدوان الثلاثي عليها سنة 1956”(ص 46).
إذا انتقلنا إلى المغرب العربي،نستعيد بروز مفهوم الوحدة منذ العقد الثاني من القرن العشرين،لكن ليس بمعنى”الوحدة العربية”أو إقامة دولة واحدة،بل مجرَّد تنسيق بين الحركات الوطنية لمقاومة الاحتلال الفرنسي ولم يكن هناك تفكير بخصوص تحقيق وحدة اندماجية على مستوى شمال أفريقا أو وحدة عربية شاملة ”وحدة المغرب العربي في أذهان الحركات الوطنية و”الطبقة المسيرة”والمنتظمين في سلك البيروقراطية كانت،وماتزال، تعني في المغرب العربي،التنسيق والتعاون والتكامل وصولا إلى نوع من الاتحاد الفيدرالي كهدف للمستقبل”(ص 47).
أما بخصوص الوحدة المصرية-السورية،في إطار الجمهورية العربية المتحدة سنوات(1958-1961)،فقد عاين محمد عابد الجابري،بكيفية مباشرة،مختلف تفاصيلها اليومية بحكم تواجده في سوريا للدراسة،خلال تلك الحقبة،بالتالي كان مراقبا يوميا لحيثيات مايجري:”لايمكن أن أنسى أن تهديد تركيا لسورية آنذاك كان له دور كبير جدا في دفع هذه إلى طلب الوحدة من مصر،كما لايمكن أن أنسى كيف كنا نفاجأ بالسرعة التي كانت تغير بها الأحزاب السورية مواقفها:حزب يعارض الوحدة اليوم ثم ينقلب في اليوم التالي إلى أشد المتحمسين لها،وهذا حزب يطرح شعار الاتحاد الفيدرالي يتحول بعد يوم أو يومين إلى تبني شعار الوحدة الاندماجية”(ص 48) .
من أراد فهم أدبيات الوحدة في الوطن العربي خلال الفترة المعاصرة،يلزمه حسب عابد الجابري استعادة مضامين إصدارات الصحف السورية وبيانات أحزابها وكذا وسائل الإعلام المصرية إبان الأشهر الخمسة التي سبقت إعلان الجمهورية العربية المتحدة، والوقوف على وازعها الحقيقي،بناء على الإقليم القاعدة أو العوامل الخارجية؟
فشلت تجربة الجمهورية العربية المتحدة،لأنها تحققت بكيفية ارتجالية نتيجة ظروف معينة متقلبة.
تحتاج اليوم فكرة الوحدة إلى إعادة تأسيسها في الوعي العربي،باعتبارها إحدى لبنات الدولة القُطْرية وتوظيفها لصالح بناء الوحدة.هكذا،يتجلى حاليا معناها الوحيد،أما خلال سنوات الخمسينات والستينات،فقد وُظِّف مشروع الوحدة على مستوى الشعارات،بينما كانت يوميات دعاتها مجرد تفكير في كيفية بناء الدولة القُطْرية:”لقد تم بناء الدولة القطرية في العالم العربي، وإذن فعلى كل من يفكر في الوحدة،أن يعي ويفهم أن الوحدة أصبحت تعني شيئا واحدا وهو نزع لبنة أو لبنات من صرح الدولة القطرية وجعلها أساسا لبناء الوحدة.إن عبارة”تحقيق”الوحدة يجب أن تترك مكانها لعبارة ”بناء”الوحدة”(ص 49).
بدأ حسن حنفي،تحديده لمفهوم الوحدة بناء على زخم نظري واضح،انطوى منذ الوهلة الأولى على ثراء مفهومي واستقرائي،متساميا بالوحدة عن التأويلات الإيديولوجية،فهي ليست وسيلة ذرائعية لتحقيق مكاسب دولة الوحدة وتقليص خسائر الدولة القطرية،ولامفهوما إقليميا بغية تحقيق مكاسب صغيرة،ولاسياسيا قصد تجسيد تطلعات التحرُّر الوطني ضد الاستعمار،لكنها:”انعكاس في الواقع لتصور وحدوي للعالم ينشأ من عقيدة التوحيد،توحيد قوى الفرد،وتوحيد طبقات المجتمع،وتاريخيا من خلال وحدة التراث، وتوحيد أجناس البشرية على الأرض”(ص 51).
بناء على تعريفه الأقرب إلى مرجعية لاهوتية،يؤكد حسن حنفي بأنَّ عدم ارتباط الوحدة لدينا بعقيدة التوحيد واستنادها في المقابل على مفاهيم ذرائعية،عملية إقليمية وسياسية أدى إلى إخفاقها.
تبدو عوامل وعناصر الوحدة بين المشرق والمغرب،التي تساعد بكل أريحية على التوجه الوحدوي،متضافرة وقائمة أكثر من الأخرى التي تباعد بين جناحي العالم العربي،المقصود بذلك الإسلام والوطنية.صاغ تماثل وتداخل المفهومين،مشاريع حركات التحرُّر الوطني في المغرب العربي ومصر والسودان مع جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده والثورة العُرَابية والحركة الوطنية المصرية والثورة المهدية في السودان والحركة السنوسية في ليبيا،ثم الدور الذي لعبه علماء الزيتونة في تونس،ورابطة علماء الجزائر والحركة السلفية في المغرب مع علال الفاسي،لأنَّ:”الإسلام هو الوطنية،والوطنية هي الإسلام”(ص 52).
ناهض القوميون العرب في منطقة الشام،التي كانت في مواجهة تركيا،القومية الطورانية وتركيا الفتاة،وحقَّقوا استقلال الشام،ثم تجسَّدت العروبة من خلال الجمهورية العربية المتحدة خلال الحقبة الناصرية،حينما تجلى وقتها شعار”وحدة مصر وسوريا،باب الوحدة العربية”.
يطرح حسن حنفي سؤالان،يتعلقان بما يلزمنا القيام به تاريخيا مع انحسار الفكر القومي عربيا وعالميا لصالح التكتلات الإقليمية؟ثم كذلك حيال جماهير جمال الدين الأفغاني،رشيد رضا،حسن البنا،عبد الحميد بن باديس،البشير الإبراهيمي،الطاهر بن عاشور،علال الفاسي،ومجمل رصيد العالم العربي ضمن امتداداته الإسلامية على مستوى إفريقيا وآسيا،وكل التراث الذي تمثِّله جامعاته الدينية كالأزهر والقرويين والزيتونة ومحمد إقبال وأبو الأعلى المودودي:”إذا كان مفهوم ”الإقليم-القاعدة”قد نجح في رومانسية الوحدة،الوحدة الاندماجية،الذي كان هدفها مقاومة الاستعمار وزعزعة الأنظمة السياسية الرجعية المتحالفة معه فلا تضعفه على الإطلاق أن تبدأ التجمعات الإقليمية في عصر بناء الوحدة ابتداء من إيقاف التشتت والتبعثر والتمسك بالحد الأدني من التنسيق حتى ولو كان على مستوى إيقاف حملات الإعلام والاتهامات المتبادلة،والتخوين العلني للقادة أمام الشعوب.وإنّ تاريخ مصر القديم والحديث ليثبت صحة الإقليم-القاعدة.وحدة مصر والشام أثناء الحروب الصليبية ومحمد علي وعبد الناصر،ووحدة مصر والمغرب العربي أثناء الفاطميين،ووحدة مصر والسودان في التاريخ الحديث،ووحدة مصر وليبيا في زعامة عبد الناصر ووحدة مصر واليمن بالدم والثورة والشهادة. بهذا المفهوم الوحدوي النظري والعلمي”(ص 54 -55) .
بعد موضوعة مفهوم وتاريخ الوحدة العربية،انصب النقاش على مجال آخر لايقل حساسية وإثارة للجدال ضمن أوساط فرقاء الخطاب العربي الحديث والمعاصر،يتعلق الأمر بقضية الليبرالية والمعاني الايجابية التي ينطوي عليها هذا المفهوم بمجرَّد ذكره،أو يعبر عن تطلعاتنا وأشواقنا نحو الحرية والتحرُّر،حتى ولو أدى ذلك إلى النظام الرأسمالي:”فما دامت الحريات العامة مكفولة يمكن بعدها نقد المجتمع الرأسمالي وبيان عيوبه.ودون حريات عامة تتحول النظم الاشتراكية إلى رأسمالية مقنعة وبالتالي نخسر الحسنيين معا الحرية والاشتراكية”(ص 57).
حينما نستحضر فترة استقرار الليبرالية في الفكر الغربي منذ مطلع عصر النهضة، يتبادر إلى الأذهان رفاعة الطهطاوي في مصر،خير الدين في تونس،حيث سعت الليبرالية إلى بناء الدولة وفق النموذج الذي أرست معالمه فلسفة التنوير في الغرب،من خلال المطالبة بالدستور،النظام البرلماني التعدُّدي،حرية الصحافة،منظومة تعليمية حرة، مسؤولية الحكومة أمام البرلمان،حرية الفكر والقول والاعتقاد:”وقادت الليبرالية معارك عدة لبناء الدولة الحديثة،شق الترع والقنوات،وبناء القناطر والسدود،وتشييد المدارس والجامعات، ونشر التعليم لافرق بين بنين وبنات،وتكوين الروح الوطنية المستقلة،وقامت الثورات الوطنية مثل ثورة 1919 في مصر باسم الليبرالية.وقامت معارك الشعر الجاهلي،وقادة الفكر،والتصوير الفني في القرآن والإسلام وأصول الحكم في العصر الليبرالي حتى أن الليبرالية أصبحت هي الطابع العام لفكرنا الحديث كله كما قيل عن تاريخنا الفكري الحديث”الفكر العربي في العصر الليبرالي””(ص 58 ).
غير أنَّ مختلف تلك المنجزات التي راكمها ازدهار الحركة الليبرالية في مصر تحديدا،والتي عرفت أول برلمان في المنطقة عام 1870،انقلبت رأسا على عقب،كي تفرز فيما بعد نقيضها السلبي من خلال القهر،الاغتيال،الفساد الحزبي،التعاون مع القصر،موالاة الغرب،بروز الإقطاع،سيطرة الأقلية على الأغلبية،التهرب من الضرائب،انتشار الأمية،اقتصار التعليم على الأقلية القادرة ماديا،لذلك طرح حسن حنفي تساؤلا حول الانتقال من نجاح الليبرالية إلى إخفاقها:”فما السبب في النجاح النسبي الأول في بداية الليبرالية وماالسبب في فشلها بعد ذلك بالرغم من رصيدها المعنوي لدينا والذي مازال قادرا على جذب المثقفين وتحريك الجماهير بالرغم من إنجازات الثورة العربية الأخيرة في الحرية والاستقلال،والعدالة الاجتماعية، والتنمية القومية؟يبدو أن السبب في ذلك هو نزع الليبرالية من بيئتها في الثقافة الغربية،ومحاولة زرعها في بيئة أخرى غير مواتية وهو واقعنا الحالي الذي تمتد جذوره إلى تراث آخر”(ص 59).إذن،يكمن فحوى جوابه في انتقال فلسفة النظرية من بيئة إلى أخرى،موصولة جذورها بحمولة تراث مغاير.
يشير تاريخ الليبرالية الأوروبية،إلى القرن الخامس عشر مع الإصلاح الديني،ثم عصر النهضة في القرن السادس عشر وعقلانية القرن السابع عشر وكذا عصر الأنوار خلال الثامن عشر،وإعلان حقوق الإنسان وأخيرا ظهور الدولة الوطنية خلال القرن التاسع عشر.
تحقَّقت حرية تفسير النص الديني ضد سلطة الكنيسة،انتصرت حرية الإيمان الباطني للفرد ضد العقائد الرسمية وعلاقته الخاصة مع الله دون وساطة رجال الدين،ثم الإيمان بالعقل والسعي إلى فهم الطبيعة وتأسيس علم جديد،والإيمان بالحاضر والمستقبل والإبداع،حينها أعلن ديكارت بأنَّ العقل هو أعدل قسمة بين الناس،وصار هذا العقل سلطانا:”فإن سبينوزا قد أعلن أن حرية الفكر ليست خطرا على الإيمان ولا على سلامة الدولة بل إن القضاء على حرية الفكر فيه تهديد للإيمان وسلامة الدولة. أصبح العقل سلطانا على كل شيء.وبدأ العصر الليبرالي الأوروبي بالتنوير اليهودي عند اسبينوزا ثم بالتنوير المسيحي عند لسنج و هردر و كانط ثم بالتنوير الفلسفي العام عند فلاسفة دائرة المعارف، فولتير،وروسو،ومونتسكيو،وديدرو ودالامير،إلخ،مما أدى إلى تفجير الثورة الفرنسية. وحاولت ألمانيا اقتفاء الأثر فقامت ثورة 1848 على أيدي الهيجلين الشبان دعاة التنوير الألماني لخلق ثقافة وطنية تقوم على أساسها الوحدة الألمانية ونهضة الشعب الألماني. وأخير أعلن سارتر في نهاية الوعي الأوروبي”أنا حر فأنا موجود”ليؤكد على مكتسب طويل”(ص 59) .
بينما تمثَّل التعبير عن مضمون الليبرالية،عند التحوُّل إلى السياق العربي الإسلامي، يضيف حسن حنفي،في التعدُّدية المذهبية والفقهية منذ القرن الأول غاية الرابع الهجري، تبلور معها نقاش واسع وثقافة جدلية،فنشأ علم الكلام وتعرَّف المسلمون على ديانات اليهود وحكمة فارس،والتراث اليوناني والروماني،ثم تحقَّقت التعدُّدية،وحدث الغزو الصليبي مما جعل الغزالي يدعو إلى التصدي لتلك التعدُّدية والهجوم على العلوم العقلية:”ودعا الأمة إلى طاعة السلطان الواحد حتى لو أخذ الإمامة عن طريق الشوكة والغلبة،واعتناق المذهب الواحد وهي الأشعرية التي تدعم السلطة القائمة بإثبات مطلق الإرادة الإلهية على كل شيء، الإنسان والطبيعة.ثم قدم للناس التصوف،إيديولوجية أخرى تقوم على الزهد والورع والقناعة والتوكل والرضا والصبر،إيديولوجية للاستسلام”(ص 61) .
إذن،الأشعرية باعتبارها عقيدة جبرية تنفي أيّ دور لإرادة الإنسان وعقله في توجيه التاريخ،كما تؤكد على سلطة الحاكم المطلقة،شكَّلت مرحلة كَبَحَتْ روافد الانفتاح وبداية تراكم لبنات أزمة الحرية والديمقراطية،بالتالي فشل إمكانيات ترسيخ الليبرالية الغربية بين طيات منظومة حياتنا المعاصرة.
لا سبيل نحو تفعيل مرتكزات فلسفة من هذا القبيل،سوى بالعمل على:”استئصال جذور تسلط الحكام واستسلام الشعوب،وذلك عن طريق إعادة بناء المخزون الثقافي الذي مازال حيا في ثقافتنا الوطنية على أسس جديدة تجعل للإنسان فاعليته في التاريخ،وللطبيعة قوانينها المستقلة،وتجعل الإمامة عقدا وبيعة واختيارا دون حكر على طائفة”قريش”قديما و”العسكر”حديثا،وإبراز حق الرقابة على السلطان،والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة في الدين،وحق الخروج على الإمام،فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق”(ص 62 – 63 ).
باشر عابد الجابري مداخلته،مؤكِّدا منذ البداية بأنَّ مدى أهمية التطرُّق إلى فشل المشروع الليبرالي داخل الأقطار العربية،يقتضي التحلِّي ب:”الحيطة والحذر والمرونة في الحكم”(ص 64)،ثم يطرح فكرتين أساسيتين،أولا اتفاقه الفعلي مع حسن حنفي،بتحديده جذور الليبرالية الغربية عند القرن السادس عشر،والثانية ضرورة تحديد نطاق الليبرالية هنا،يتعلق الأمر أساسا بالليبرالية الفكرية وليس الاقتصادية.
بعد التوافق على الإشارتين السالفتين،أقرَّ عابد الجابري اعتراضه على التعميم الذي ميَّز تحليل حسن حنفي،بإسقاطه فشل الليبرالية داخل مصر الأشعرية على باقي الأقطار العربية،بينما تباينت واختلفت أسباب النجاح والفشل:”فنحن هنا في المغرب عشنا تجربة تختلف عن تجربة مصر في نقطة أساسية،وهي أن الحداثة المنقولة إلينا من الغرب،أو التي نستوردها نحن،لم تدخل في تناقض حاد مع السلفية كما حدث في مصر.بل إن السلفية عندما كانت هي التي تولت التحديث،وقد تبنت القيم الليبرالية الغربية وصبتها في قوالب وطنية،عربية إسلامية،فكانت”سلفية وطنية”،قادت حركة التحديث ومعركة الاستقلال في آن واحد”(ص 66).
سرد عابد الجابري أمثلة أخرى،بغية التدليل أكثر على أنَّ المذهب الأشعري في المغرب،لم يُجَسِّد إطارا ومصدرا للاستبداد،لذلك يعود بالدرجة الأولى فشل التجربة الليبرالية سواء في مصر أو غيرها إلى عامل التوسع الامبريالي.مقابل هذا المعطى التاريخي،تواصل نجاح الليبرالية داخل أوروبا بجانب استمرار وجود الكنيسة الكاثوليكية،وأيضا في اليابان ارتباطا بتقاليدها المحافظة.
تعتبر الحداثة طريقنا الوحيد إلى العصر،هكذا جاءت صيغة العنوان الذي وضعه عابد الجابري مدخلا لمقاربته،محورا آخر بعد الليبرالية وكذا ثنائية الحداثة والتقليد.
بخصوص شعار تراثنا يكفينا،دونما حاجة إلى آراء المفكرين الغربيين.رصد عابد الجابري نموذجين من الأصوات.يندرج ضمن الصنف الأول من ينعتون بالسلفيين،الذين يعتمدون على المرجعية التراثية.أما الصنف الثاني،فقد أبان أهله عن تصور شاذ وغير طبيعي،بحيث درسوا في الجامعات والمعاهد الأوروبية،ويؤولون من داخل المنظومة الغربية،ومعرفتهم ضعيفة بالثقافة العربية الإسلامية،رغم ذلك يتقاسمون نفس مرجعية السلفيين:”الرجل من هؤلاء غالبا مايفكر تفكيرا”غربيا”حتى وهو يتكلم اللغة العربية،وغالبا مايقضي عطلته في بلد أوروبي،وهو إذا خرج من بلده،أو من البلد العربي الذي يشتغل فيه،شعر وكأنه خرج من السجن.أما عادات الملبس والمسكن والأكل والشراب فهي غربية تماما ومع ذلك فهو لايتردد في القول إن مفاهيم الثقافة الغربية ونظرياتها لاتصلح لنا ولسنا في حاجة إليها لان ماعندنا يكفينا”(ص 72).
مع ذلك،يمكن استساغة شعار”تراثنا يكفينا”،على مستوى التراث الديني ومجال العقيدة بروح نقدية تعكس المقاصد والغايات،بينما يستدعي المنظور تغيير زاوية الرؤية بخصوص العلوم والمعارف والمناهج والصناعات والفلسفة والنظم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية،بحيث يبلور منطق تجاوز القديم أساس مفعول الحداثة:”هي في جوهرها ثورة على التراث القديم،تراث الماضي والحاضر،من أجل خلق تراث جديد.والحداثة اليوم،في العلم كما في الأدب والفلسفة والمناهج والاجتماع والاقتصاد إلخ،لاوطن لها،أو على الأقل لم تعد محصورة ولاقابلة للحصر في رقعة من الأرض دون أخرى”(ص 74) .
حداثة،ننسج من خلالها علاقتنا بالتراث قصد احتوائه وامتلاكه،ثم تحقيق التجاوز وتكريس سلسلة القطائع،ضمن وجهة مستقبل ننتمي إليه،ونمثِّلُ عنصرا فاعلا في توجيهه.
يباشر حسن حنفي ردَّه على عابد الجابري،بإبرازه ضرورة تحديد المصطلحات تفاديا لكل لبس،لذلك لايعني التراث التقليد حتما،بل الانطلاق من الأنا مقابل الآخر،ويرجح أصل هذا اللبس إلى ترجمة المصطلح الغربي”Tradition”بالتراث والتقليد.
أيضا،ليست الحداثة إحالة دائمة على الغرب بل اجتهاد التراث.حداثة، تلامس الشكل والمضمون؛أي اللغة ومعنى الشيء.يتيح هذا التمثُّل من الداخل للأنا،تطوُّرا تاريخيا متواصلا،دون قطيعة بين الماضي والحاضر. أما شعار ”لدينا مايكفينا”،فيعتبره حسن حنفي قابلا للتبرير،قصد التصدي لضياع الأنا خلف هيمنة ثقافة الآخر:”إن رفض الآخر المتمثل في الغرب حاليا شيء طبيعي نظرا لما نحن فيه من ضياع،ضياع الأنا في الآخر،وطغيان الآخر في الأنا.وكلما ازداد التغريب،ازداد الدفاع عن الأصالة والتراث في غياب جدل صحيح بين الأنا والآخر”(ص 77) .
وظَّف حسن حنفي،مفهوم ”التغريب”ارتباطا بسياق حديثه،جراء الوتيرة التي انتشرت بها الثقافة الغربية بواسطة الإعلام ودور النشر،فارتقى بها أنصارها نحو العالمية،بينما الثقافة في نهاية المطاف حصيلة مجموع الثقافات المحلية عبر تواصلها وتفاعلها.
ليس الغرب إطارا مرجعيا وحيدا لكل إبداع،ويلزم الإيمان خلال الآن ذاته بتعدُّد مراكز الإبداع،وتنوع الشعوب والمواقف الحضارية،ويضيف حسن حنفي،بأنَّ القرب الجغرافي للعالم العربي من أوروبا،جعله إبداعيا ضحية المركزية الأوروبية: “العلاقة بين الأنا والآخر ليست علاقة بين الخصوصية والعالمية وإلا أعطينا أنفسنا أقل مما نستحق.فكل حضارة خاصة،ولاتوجد حضارة عامة تمثل الحضارات جميعا.وإن تراكم الإبداعات البشرية في آخر مرحلة من مراحل تطور البشرية في الغرب الحديث لايجعل باقي الحضارات تصاب بالدوار وبفقدان التوازن لأن لها في هذا التراكم دورا سابقا وإسهاما تاريخيا غير منظور.وإن علوم الصين والهند وفارس وحضارات مابين النهرين وكنعان ومصر القديمة والإسلام لهي أحد المكونات التاريخية والروافد العلمية للغرب الحديث”(ص 80- 81).
رحل جمال عبد الناصر عن عالمنا يوم 28سبتمبر 1970،بعد أن أرسى معطيات تجربة سياسية لايمكن قط التغاضي عنها ابتدأت منذ ثورة 23يوليو 1952،وانتهت فعليا جراء هزيمة حرب يونيو 1967،نظرا للانهيار النفسي الكبير والإحباط الذي اختبرته فعليا الجماهير العربية ونخبها التقدمية،بعد الاندحار غير المتوقع أمام الجيش الإسرائيلي.
لحظة نوعية عاشها التاريخ العربي الحديث،خلال حقبة صارت الآن بعيدة،بيد أنَّ تداعياتها على جميع المستويات لازالت محايثة بنيويا لما يجري ظاهريا،عالقة في الذاكرة والوجدان،تتجلى حسب حسن حنفي،عبر هذا التطلًّع الراسخ وجهة ثالوث:الحرية، الاشتراكية، الوحدة.
لم تكن الناصرية بالنظرية السياسية المتبلورة والجاهزة قبليا،لكنها تشكَّلت وتجدَّدت أدبياتها ومناحيها نتيجة تحديات خلقت منعرجاتها الأساسية،وهي:”مقاومة الأحلاف العسكرية مثل حلف بغداد واتفاقية جلاء القوات البريطانية في 1954،وتأميم قناة السويس في 1956 والتمصير في 1957،ووضع نهاية للسيطرة الأجنبية على اقتصاديات البلاد، والوحدة المصرية السورية 1957 – 1961 كأول تجربة وحدوية في تاريخ العرب الحديث وظهور القومية العربية كحركة تحرر وطني ضمن المذاهب السياسية الوطنية على الصعيد العالمي،ثم البناء الاشتراكي 1961-1964،وظهور الاشتراكية العربية كإبداع سياسي في العالم الثالث مثل الاشتراكية الإفريقية ”(ص 82- 83 ).
ارتدادات زلزال هزيمة 1967،أجبرت الناصرية على مراجعة الذات وإعادة تقييم المسار الذي تراكم غاية عشية حرب ستِّ ساعات؛ومجازا ستة أيام. فقد اقتضى الوضع الجديد تأسيس نظرية ثورية وإعادة بناء الجيش وحرب الاستنزاف (1969)،و أوراش اقتصادية ومجتمعية تهمُّ الرأسمالية الوطنية والتأميم،إلخ. لكن الموت،لم يمهل جمال عبد الناصر.
انكشفت فعليا خيوط الثورة المضادة يوم15 مايو1971،قصد الإجهاز على الناصرية، تلتها قوانين الانفتاح سنة 1974،وزيارة السادات إلى القدس انتهاء بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد.
عندما نستحضر تاريخ الناصرية،نستعيد تاريخيا إنجازات كبيرة سواء داخل مصر أو خارجها،مثل:الإصلاح الزراعي،مواجهة الإقطاع،تأسيس القطاع العام،بناء الصناعة الثقيلة،سيطرة الدولة على وسائل الإنتاج،حقوق العمال ومشاركتهم في الإدارة،مجانية التعليم،الاهتمام بالقطاع الصحي،العلاج المجاني،تبلور القومية العربية،دعم حركات التحرر،مقاومة الاستعمار والصهيونية،إنشاء منظمة الوحدة الإفريقية،التضامن الآسيوي الإفريقي،تأسيس حركة عدم الانحياز.مع ذلك،انتهت الناصرية إلى خسارات،أبرز حسن حنفي أسبابها في ثمان معطيات أساسية،هي:
*غياب نظرية مبدئية تشكِّل برنامجا للعمل،بدل الاكتفاء بتجارب الخطأ والصواب.
*ضرورة وجود حزب ثوري طليعي،بوسعه حماية مكتسبات الثورة حين وفاة عبد الناصر.
*شخصنة السلطة،وإهمال البناء المؤسساتي المطلوب.
* الفراغ السياسي الناجم عن الاصطدام مع القوى الوطنية،كالإخوان والشيوعيين والوفد.
*تصفية أجنحة الثورة والإخوان والشيوعيين،فقد هيمن الضباط الأحرار على مختلف آليات الحكم،من ثمة التحول إلى الاستبداد والشمولية.
*غياب الحريات وسيطرة أجهزة الأمن والمخابرات العامة على حياة الشعب.
*انعدام مشروع بناء ثقافة وطنية ثورية، قصد استيعاب الثقافة الوطنية التقليدية.
*نموُّ طبقات متوسطة تتباين مصالحها مع مصالح الأغلبية،جعلت الدولة فضاء لسيطرة الرأسماليين الجدد.
رغم ذلك،هي ليست بإشارات نهائية عن موت الناصرية،بل لازالت الأخيرة تسكن قلوب الجماهير الموصولة دائما تطلعاتها بناصرية شعبية،تصورها حسن حنفي في صيغة تحالف وطني يجمع بين الحركات الإسلامية والشيوعية والليبرالية،تمتلك المستقبل فعلا:”تكون الناصرية فيه بمثابة القلب أي الجماهير العريضة صاحبة المصلحة في انجازات الناصرية،والحركة الإسلامية جناحها الأيمن،والحركة الشيوعية جناحها الأيسر، والليبرالية رأسها المفكر،وبهذه الجبهة العريضة يستطيع الطائر أن يطير فلا طيران إلا بجناحين وإلا ثقل الجسم إلى الأرض”(ص 88) .
قبل تركيز عابد الجابري على تفكيك الإحالات الضمنية الخاطئة التي انطوى عليها التشبيه المجازي الذي أنهى به حسن حنفي مداخلته عن الناصرية،أقَرَّ بكونها تجربة سياسية مثَّلت قضية وشأنا لكل العرب،كما أبرزت خلالها الناصرية هذا الكيان العربي الواحد نظريا وعمليا بكيفية غير مسبوقة.
يعتبر عابد الجابري الناصرية مرحلة تاريخية،ولايمكن اعتبارها مذهبا في التفكير أو نظرية سياسية أو ثورية،بحيث جسَّدَت ممارسة تحرُّرية خلال فترة المدِّ التقدمي داخل بلدان العالم الثالث سنوات الخمسينات والستينات،حينها مَثَّل جمال عبد الناصر بالنسبة للشعوب العربية، نفس نموذج الشخصيات القيادية في مناطق من العالم الثالث كجواهر لال نهرو (الهند)،أحمد سوكارنو (اندونيسيا)،الماريشال تيتو(يوغوسلافيا).
يجدر استحضار هذا السياق التاريخي،بغية تحقيق تأويل موضوعي،يتيح لنا إمكانية استخلاص دروس الماضي من أجل المستقبل،هكذا اتفق عابد الجابري مع التقييم الذي وضعه حسن حنفي لمسارات الناصرية،لكنه اختلف معه بخصوص الصورة المجازية التي أنهى بها مداخلته للتعبير عن رؤيته للمستقبل،وتصوره لكيفية تحقُّق الناصرية الشعبية:”لقد اخترتَ الطير،أو الطائرة،مثلا،أي نموذجا بنيت على صورته وشاكلته البديل المستقبلي الذي تقترحه:جعلت الناصرية هي الصدر والحركة الإسلامية والحركة الشيوعية هما الجناحان،والليبرالية هي الرأس.والهدف معروفا هو: ”أن نطير”.صورة جميلة تخاطب الخيال، تجنده وتعبؤه.وهل هناك ماهو أكثر تجنيدا للخيال من أن يرى الإنسان نفسه ”على أهبة أن يطير” !” (ص 90- 91).
بدل صورة الطائرة وماتحيل عليه من علاقة عمودية بين قائد الطائرة والركاب وحيثيات مايجري داخل الطائرة ثم إمكانية سقوطها نتيجة أبسط خلل طارئ،يفضِّل عابد الجابري استثمار إحالات صورة القطار:”من شروط وجود القطار وجود”سكة”:طريق مرسومة لايملك السائق أن يحيد عنها،هو يسير فيها،يراقب العلامات الضوئية ويمتثل لدلالاتها يخفف السرعة أو يزيد فيها.وفي القطار عربات،والناس فيها غير مقيدين، لايحتاجون إلى أحزمة،ولايمنع عليهم الانتقال من عربة إلى أخرى،فالأبواب مفتوحة…والقطار لايتوقف على السائق توقف الطائرة على ”القائد””(ص 92) .
أيضا،يرفض عابد الجابري احتضان فكرة زعيم/بطل،ربما يجود به الزمان أو ليس كذلك،والأهم الرهان بالمطلق على إقامة الديمقراطية وبناء دولة المؤسسات وتهتدي بها دولة”القطار/السِكَّة”.
قبل الانتقال إلى آخر محور،انصبَّ على مستجدات القضية الفلسطينية،تبادل المفكِّران وجهات نظرهما حول تراث ذاكرة الثورة الفرنسية وأصلها فكر الأنوار،مناسبة هذا الحديث انعقاد ندوة دولية في القاهرة موضوعها”الثورة الفرنسية والعالم العربي”،بينما يحيل الداعي الثاني على زيارة ياسر عرفات إلى فرنسا،باعتباره رئيس دولة فلسطين التي أعلن عنها رسميا في الجزائر يوم 15نوفمبر سنة 1988 .
منذ اطلاع رواد النهضة الأوائل،على فلاسفة التنوير،من خلال البعثات العلمية التي أرسلها محمد علي إلى فرنسا،فقد رأوا في صور العقل الحرية،العدالة الاجتماعية،العلم، الديمقراطية،الدستور البرلمان،أسس الدولة الحديثة التي اختبرتها مصر قبل ثورة 1952 .
أفرزت المرحلة التاريخية متنا نظريا،لازالت عناوينه قابلة للتداول غاية الآن:”في مصر كتب الطهطاوي”تخليص الإبريز في إخبار باريز أو الديوان النفيس في إيوان باريس”،وعبد الله فكري”إرشاد الألبا إلى محاسن أوروبا”والمويلحي”حديث عيسى بن هشام”.وفي تونس كتب خير الدين”أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك”وابن أبي ضياف”إتحاف أهل الزمان”. وفي الشام كتب أحمد فارس الشدياق ”كشف المخبأ في أحوال أوروبا”وغيرهم الكثير”(ص 107).
لكن تبعا لمرجعية الانحياز إلى الاختيار التراثي القديم،كتب جمال الدين الأفغاني عمله”الردّ على الدهريين”،مجابها فولتير،مونتسكيو،روسو.أما أحمد فارس الشدياق،فقد تناول بين طيات عمله”الساق على الساق”،المنظومة الكهنوتية بتحرير العقل،وكتب محمد فريد وجدي”دائرة المعارف في القرن الثامن عشر”.كذلك،استعاد رفاعة الطهطاوي نصوص بور رويال، راسين، كاندياك، فولتير، مونتسكيو، روسو،وترجم رسائل فارسية لمونتسكيو وكتابه الآخر”روح التشريع”.
أما طه حسين،فاستندت رؤيته التاريخية على المنهج الديكارتي،والثقافة باعتبارها ثقافة البحر الأبيض المتوسط،بالتالي الصلة القائمة بين الشمال الأوروبي و جنوبه العربي.
يجزم حسن حنفي،اندراج دافع استلهام تراث الأنوار من طرف رواد النهضة، ضمن رؤى خاصة لإعادة بناء التراث الإسلامي والموروث القديم:”القرآن،والسنة والأقوال المأثورة،وتاريخ الصحابة والشعر العربي،لافرق في ذلك بين الأفغاني وأديب اسحق،بين محمد عبده وفرح أنطون،بين الطهطاوي وشبلي شميل،بين اسماعيل مظهر وسلامة موسى”(ص 109).
انعدمت هذه الروح التأصيلية مع نخب الجيل الخامس،أي جيل حسن حنفي نفسه،بحيث ترجم نصوص الأنوار لمجرد الترجمة،دون مشروع إعادة بناء التراث القديم:”وكأن جذور نهضتنا الحالية يمكن أن تمتد إلى اليونان كما فعل أحمد لطفي السيد عندما ترجم ”كتاب السياسة لأرسطو”أو طه حسين عندما ترجم “دستور الأثينيين”أو عادل زعيتر عندما ترجم “روح الشرائع” أو”العقد الاجتماعي””(ص 109).
أما سلامة موسى،فقد استلهم فولتير من تراث الأنوار،قصد الاستشهاد به فيما يتعلق بأهمية العلم:”فولتير هو محطم الخرافات،والداعية إلى التسامح ضد التعصب والى التحرر من القيد ضد الاستعباد،استبداد الكهنة والشرطة دفاعا عن الحق الطبيعي والدين الطبيعي”(ص 110) .
قدمت أدبيات الثورة الفرنسية سواء لدى الإصلاحي أو الليبرالي،مرجعية صميمة للتحديث،من خلال مرتكزات العقل والعلم الحديث والصناعات العسكرية وحرية الأفراد والاعتقاد والديمقراطيات وتقييد الملكية بالدستور وتأسيس الدولة الحديثة وتأسيس فهم آخر للتاريخ.
تلك المتون الملهمة نهضويا،التي حاول الرواد الأوائل غرسها في الجغرافية العربية؛أي لبنات التجربة الليبرالية،انتهت فيما بعد إلى نقائضها من خلال هيمنة الإقطاع، التعاون مع البلاط،الولاء للأجنبي،سيطرة الأقلية على الأغلبية،الفساد الحزبي،وانقلبت الثورات العربية إلى ثورة مضادة ثم انبعاث النظم القديمة:”ويعود جيلنا للسؤال من جديد هل يمكن التثوير قبل التنوير؟بأيهما نبدأ:الضباط الأحرار أم المفكرون الأحرار؟ونحن إلى بداياتنا القديمة لدى رواد عصر النهضة الذين كانوا على صلة بفلاسفة التنوير وتعود الثورة الفرنسية إلينا في ذكراها المائوية الثانية لتعاود فينا هذا الحنين”(ص 111) .
سؤال التداخل البنيوي بين التثوير والتنوير،الذي اختتم به حسن حنفي مداخلته بخصوص موضوع التنوير والليبرالية في العالم العربي،بمناسبة مرور قرنين من الزمان على الثورة الفرنسية،حاول عابد الجابري اختزاله إلى معادلة دلالية بسيطة مفادها،بأنَ التنوير يعكس تثويرا:”فلا داعي للانشغال بسؤال:”هل يمكن التثوير قبل التنوير؟”،لأنه سؤال يطرح اختيارا لامبرر له ولامعنى.إنه يفرض علينا الفصل بين ”التثوير”و”التنوير”والأخذ بأحدهما قبل الآخر،وهذا موقف ينطوي على خطأ جسيم. والصواب:هو الجمع بينهما فهما لا يتناقضان ولا يتصادمان بل يتكاملان،كل منهما يشكل حقيقة الآخر وجوهره”(ص 112- 113) .
أما،عن سؤال البداية والمنطلق والأرضية،التي ينبغي استعادتها ثانية بمناسبة هذا الاحتفال بذكرى الثورة الفرنسية ومن ثمة حيثيات الليبرالية والتنوير،فالمنطلق والمنتهى بهذا الخصوص تكمن أساسا في مشاريع بناء”المواطن الحر”.
فيما يتعلق بجوهر الإشكال الذي أبرزه حسن حنفي،تحديدا إخفاق حركة التنوير عربيا،توخى عابد الجابري تدقيق بعض المعطيات الملتبسة التي انطوى عليها الطرح وفق تلك الصيغة.أولا،لم يشمل التنوير كل الأقطار العربية،وساد بالدرجة الأولى الشام ومصر.ثانيا،تبرز الحقيقة التاريخية بأنَّ الحركة الوهابية:”التي قامت قبل الثورة الفرنسية باثنتين وأربعين سنة،حينما تحالف محمد بن عبد الوهاب مع أمراء آل سعود عام 1747 “(ص 114)،شمل صداها كل الجغرافية العربية قياسا مع موجة التنوير.ولأنَّ تأثير الوهابية،يماثل حسب عابد الجابري ماحققته الثورة الفرنسية داخل أوروبا،فقد تبلورت حركات أخرى على منوال الوهابية مثلما الشأن مع صنيع الإمام الشوكاني في اليمن(1758- 1843) والسنوسية في ليبيا،ثم المهدية الصوفية في السودان.
إذن،إبَّان سياق الثورة الفرنسية،كان العالم العربي متأثرا أساسا بحركات دينية قوامها الوهابية،السنوسية،المهدية،السلفية،بينما انحصرت حركة التنوير ضمن منطقة الشام ومصر،وحتى بالنسبة للأخيرة،فقد ارتبط الأمر أساسا ب”النخبة العصرية”دون”النخبة التقليدية”.
عموما،خلص عابد الجابري إلى مسألتين:”الأولى هي أنه عندما نتحدث عن الثورة الفرنسية وامتداداتها إلى العالم العربي يجب أن نتذكر أن هذا ”العالم العربي”لم يكن”بدون أهل”،وأن العقل فيه لم يكن ذلك العقل الذي تصوره فلاسفة التنوير في أوروبا على أنه”صفحة بيضاء”…أما المسألة الثانية فهي متفرعة عن الأول وهي أن لغة الثورة الفرنسية،لغة عصر الأنوار في أوروبا،لم يحدث بعد أن تمت تبيئتها في حقلنا الثقافي.إنه لايكفي أن نترجم ألفاظا بألفاظ … إن التنوير والتثوير يجب أن يتم من”الداخل”.أما ما يأتي من ”الخارج”فلا معنى له إلا بالنسبة لمن يستطيع أن ينقل نفسه إلى ”داخل”ذلك ”الخارج” ”(ص 116).
يستعيد حسن حنفي المعطيات التاريخية التي توضِّح بأنَّ اليهود عاشوا،أكثر فتراتهم ازدهارا وطمأنينة وحيوية،خلال حقبتين:
الأولى،بجانب المسلمين في الأندلس داخل قرطبة،غرناطة،طليطلة،وعرفت الفلسفة اليهودية أوج عطائها مع موسى بن ميمون،سعيد بن يوسف الفيومي،إسحاق الإسرائيلي، القس داود بن مروان،باهيا بن يوسف بن باقودة،ابن صادق القرطبي،يهودا هاليفي،إبراهيم بن داود هاليفي،إبراهيم بن عزرا.تميزت الحقبة بتقارب كبير بين الثقافة اليهودية والإسلامية على مستوى مجالات الشعر، اللغة، العقيدة، الفلسفة، الطب، التفسير، التصوف،الفلك.استمر هذا الوضع،غاية سقوط الحكم الإسلامي،الذي كانت من تداعياته الأساسية مكابدة اليهود والمسلمين للاضطهاد تحت سلطة محاكم التفتيش.
الثانية،تحيل على عصر التنوير في فرنسا،وقد تعايش اليهود و الأوروبين معا دون حساسية عنصرية أو تقوقع هوياتي،وحظي التراث اليهودي برمزيته الروحية يحمي كيانهم الثقافي والفكري من دواعي الإقصاء والانعزال. يقول حسن حنفي:”اليهود ثقافة عقلانية أخلاقية شاملة لافرق بينها وبين أي دين أو ثقافة أخرى تشارك في مبادئ التنوير العامة. واليهود مواطنون مثل غيرهم،متساوون في الحقيقة والواجبات.اليهودية إيمان بالله،وبالعناية الإلهية،وبخلود الروح.وهي بذلك تشارك الديانات الأخرى في العقائد دون تخصيص أو تمييز اجتماعي لطائفة على غيرها”(ص 119).
عندما نجحت الثورة الفرنسية،أعلنت سنة 1789 مبادئ وحقوق الإنسان في فرنسا من خلال شعار:”يولد الناس ويظلون أحرارا متساوين في الحقوق”.نتيجة ذلك،تمتَّع اليهود بالجنسية الفرنسية وكذا مختلف الحقوق المدنية،بعد قرار اتخذه المجلس الوطني الفرنسي، امتد تأثيره صوب بلدان أوروبية أخرى كألمانيا،هولندا،إيطاليا،سويسرا، النمسا، المجر، روسيا، الولايات المتحدة الأمريكية.أيضا،بادر نابليون سنة 1806،إلى إلغاء مختلف الأحكام الخاصة بالطائفة اليهودية وتنظيم حياتهم الاقتصادية والنظر إليهم باعتبارهم مواطنين فرنسيين يملكون نفس الحقوق.لكن بعد تراجع المدِّ التنويري،وظهور القوميات خلال القرن التاسع عشر،رفض اليهود الانتماء إلى أيِّ قومية أخرى غير قوميتهم الخاصة وبالتالي الانعزال بعيدا داخل الغيتو،فبدأت تتشكَّل أولى ملامح الصهيونية:”بعد مآسي النازية ووقوع الأخوة اليهود تحت أبشع اضطهاد عرفه التاريخ،وكرد فعل على حياة الجيتو وانعزال الطوائف اليهودية عن الأوطان التي يعيشون بها،هل تحقق قومية يهودية في دولة يهودية يحل المأساة؟وهل يمكن حل مأساة الشعب اليهودي بخلق مأساة أخرى،مأساة الشعب الفلسطيني؟إن السؤال مطروح الآن،كما كان مطروحا دائما.ولكن الإجابة أيضا موجودة في التاريخ ليس كحلم طوباوي يستحيل التحقيق بل كنظم سياسية واجتماعية عاشها اليهود مرتين، في إسبانيا مع المسلمين وفي الثورة الفرنسية مع قوانين نابليون”(ص 121).
صارت الروح القومية التي سكنت وجدان اليهود منذ القرن الماضي،المترسِّخة بكيفية شمولية،تناوئ مبدئيا تطلُّع الميثاق الوطني الفلسطيني،الذي تصوَّر أرضا فلسطينية حرَّة وديمقراطية يتعايش داخلها الجميع دون استحضار قط للهوية الدينية أو العِرقية ومختلف النزعات التي تدخل في هذا النطاق،مثلما تحقَّق الوضع مع النموذج الأندلسي وكذا خلال سياق مكاسب الثورة الفرنسية:”هل يمكن للدولتين أن يتجاورا وبينهما كل هذا التاريخ المشترك؟إن اتحادا كونفدراليا عاما للعالم العربي كله مشرقا ومغربا يحقق لكل الدول في المنطقة أكبر قدر ممكن من التنسيق وتبادل المصالح… لنبدأ بدولتين،ثم باتحاد كونفدرالي عام تعيش فيه شعوب المنطقة ودولها متساوية في الحقوق والواجبات،ثم بخلق أمة واحدة تتكون من عدة أمم متساوية فيما بينها كما كان”ميثاق المدينة”من قبل،هويتها في مبادئها،وقوانينها في مساواتها”(ص 121 -122 ).
مدخل هذا السبيل،ضرورة تخلُّص سواء اليهودي والعربي من سطوة كل تحديد مكاني للجغرافية،أو قومي للهوية موروث عن عصر القوميات.
طيلة فقرات وصفحات هذا الحوار، بين حسن حنفي ومحمد عابد الجابري،الذي تطرَّق كما تقاسمت مع القارئ أبرز مضامينه على امتداد الحلقات السالفة،وقد استعادت عناوين نقاش قارب من باب التذكير الأطروحات التالية:
معاني الحوار بين المشرق والمغرب،الأصولية، العلمانية، الوحدة العربية، الليبرالية، الحداثة والتقليد، الناصرية، العرب والثورة الفرنسية.
أقول ظلَّ الرجلان متفقان بشكل عام حول تضمينات تأويل موقفهما،ولم يتجل أيّ تباين واضح بينهما سوى شكليا بخصوص جزئيات معينة،إلى درجة أنَّ حسن حنفي نفسه إبان وقفة تأملية تقييمية لمسار حواره مع عابد الجابري،استعمل وصف ”الحوار البارد”، يقول:”وأسأل نفسي لماذا كان حوارنا باردا كما لاحظ عديد من القراء؟لماذا اتفقنا أكثر مما اختلفنا ونحن في العالم العربي تعودنا أن يكون الخلاف أكثر من الاتفاق إن كان هناك اتفاق على الإطلاق؟ لماذا تجاورنا أكثر مما تصادمنا،لماذا أعطى كل منا ظهره للآخر،أحيانا بدلا من أن يواجه كل منا الآخر،ونحن لاتعوزنا المواجهة؟هل لأننا كنا في غاية التحضر،نعطي جيلنا نموذجا فريدا لأدبيات الحوار؟هل لأن كلا منا يقدر الآخر حق قدره مما جعلنا أشبه بنجمين ساطعين يهديان الناس في ظلمة الليل؟ أنا أعلم أنك لاتحب ضرب الأمثال.ولكن أرجو أن يعذر المغربي العقلاني أخاه المشرقي الصوفي الذي مازال يرى في الصورة الفنية قدرة على التعبير والإيصال خاصة في حديث عام للناس”(ص 94 ).
لكن حين بلوغ هذه الحلقة الأخيرة،المخصَّصة للقضية الفلسطينية،وتعقيبا على مداخلة حسن حنفي التي استعرضت وجهة نظره حول هذه الإشكالية التاريخية المعقدة،ستتغير لهجة عابد الجابري نتيجة طبيعة تأويل موقف حسن حنفي،فاتخذت نبرة حادَّة تعكس هيجانا وجدانيا واستفزازا عقليا:”أما بخصوص هذه الحلقة فإني،لاأقول أجدني مضطرا للاختلاف معك وحسب،بل أقول أيضا أرى من واجبي أن أخالفك”على طول”.لقد أثار وجداني شكل رسالتك،واستفز عقلي مضمونها،وأبادر فأسألك مخلصا لمن تكتب هذا الكلام الذي كتبت عن ”الحرية”التي نعم بها اليهود في الأندلس زمن ابن ميمون وفي فرنسا على عهد فلاسفة ”التنوير” “(ص 124 ).
تتابعت تساؤلات عابد الجابري وفق حِسٍّ استنكاري،نظرا لمكامن الالتباس التاريخية على اعتبار التاريخ ”حمَّال أوجه”بخصوص حيثيات العبارات التي تضمَّنها خطاب حسن حنفي،مثل ”اليهود إخواننا في الدين”،”اليهودية ثقافة عقلانية أخلاقية شاملة… ”،”الأخوة اليهود”،بحيث ابتغى عابد الجابري إثارة الانتباه بأنَّ الوقائع التي بنى عليها حسن حنفي منطق استدلالاته، ليست يقينية وغير قابلة للتعميم،ويمكن الإتيان بشواهد أخرى تدحضها،بل اليهود أنفسهم يعلمون جيدا كيف اتسمت وضعيتهم سواء داخل فرنسا أو الأندلس:”ولاأعتقد أن أحدا منهم يأخذ بجد مثل هذا الكلام الذي سطره قلمك بحسن نية،بل أخشى أن يكون من بينهم كثيرون يبتسمون عندما يقرأون هذا النوع من الكلام،ابتسامة لاأريد أن أنعتها بنعت”(ص 125) .
رفض عابد الجابري تماما منطق القياس اللا-تاريخي الذي استند عليه تحليل حسن حنفي،عندما قاس الحاضر والمستقبل على الماضي،معتقدا بإمكانية تحقُّق خلال الزمن الحالي تلك الوضعية التي تقاسمها المسلمون واليهود سواء في الأندلس وكذا زمن الثورة الفرنسية.مبرِّرات هذا الرفض،أنَّ التاريخ لايعيد نفسه،ومقدِّمات الاستدلال غير مسلَّم بها:”ومن يتفق معك على أن حال اليهود كانت”نعيما”في أندلس الإسلام وفرنسا الثورة.النعيم مكانه داخل النفس و”دخائلها”.وأنت تعرف شأن ”الداخل”و”الدخائل””(ص 125) .
بالعودة إلى سياق زمن الحاضر،يبدو إطار القضية واضحا،أطرافها الشعب الفلسطيني ودولة إسرائيل ثم الدول العربية،من ثمَّة ليس هناك من داع يضيف عابد الجابري،لبعث متاهات التاريخ وحكايات الأجناس والأعراق:”أقول هذا لأنه من سوء حظي مع رسالتك أنني بينما كنت أتصفحها،عندما وصلتني،كنت فاتحا جهاز الراديو،وإذا بي أسمع تصريحا لوزير خارجية إسرائيل يتحدث فيه عن الصراع العربي الإسرائيلي،وكان مما قاله:إن العنصر الجديد من هذا الصراع هو امتلاك بعض الدول العربية لصواريخ أرض أرض تحمل رؤوسا من القنابل الكيماوية وقد لجأ العرب إلى هذا السلاح عندما تأكدوا بالتجربة من استحالة اختراق مجالنا الجوي،ذلك لأننا نبني استراتجيتنا على جعل قوتنا الجوية قوة ضاربة لايصدها شيء،وبها نكسر شوكة العرب،ونحن سائرون في هذا الاتجاه معتمدين على طائرات ف 15 و ف 16،كما أننا نعمل على تطوير سلاح مضاد للصواريخ العربية. ويضيف وزير خارجية إسرائيل:إننا نفضل الحرب الخاطفة والنصر والسريع ونستعمل الحرب الوقائية وهي حرب صارت مقبولة لأنها وسيلتنا للدفاع عن النفس. ذلك ما التقطته أذناي وأنا أقرأ بعيني رسالتك،فمن منها أصدق؟أنا لاأكتمك أنني أخذت عبارات وزير خارجية إسرائيل مأخذ الجد.هو شخص مسؤول يقدر مسؤولية الكلمة،ربما أكثر مني ومنك،ربما أكثر ممن هم ”فوق”في بلداننا”(ص 126 ).
تلتجئ إسرائيل إلى ممارسة السياسة بوسائل أخرى عبر شنِّ الحرب،على سوريا أو الأردن أو مصر أو اكتساح الأراضي اللبنانية واحتلالها،وذلك للتمويه عن واقع حصارها من طرف الانتفاضة الفلسطينية (تزامن حديث عابد الجابري مع سياق الانتفاضة الفلسطينية الأولى سنة 1987) وإحراج وحيرة الحكومة الإسرائيلية حيال تداعيات الوضع الجديد،وكذا رفض الرأي العام الداخلي التنازل عن الضفة والقطاع ثم قيام الدولة الفلسطينية،ذلك أنَّ اختلاق الحروب كواجهة لتفعيل السياسة بكيفية أخرى،يشكِّل ملاذا آمنا لقمع الانتفاضة بالسلاح والقتل والنفي وتدمير كل شيء،فقد أشغلت الحكومة الإسرائيلية الرأي العام بجبهات أخرى،كي تستفرد بالفلسطينيين وتصنع بهم ماتريد.إنها،آليات استراتجية السياسة الإسرائيلية.
ما الحل حسب تصور عابد الجابري؟الأقرب إلى منطق السياسة لدى إسرائيل والبعيدة تماما عن:”أحلامنا نحن العرب،نحن ”المفكرين الأحرار”…فالتاريخ، أخي حسن،لاتغيره ذكريات الماضي ولاذاكرته،بل إنما تغيره،حسابات الحاضر وميزان القوى فيه” (ص-127 128).لقد أجاب عن ذلك،منذ البداية بنوعية العبارة التي وضعها لمقاربته:”لاحلَّ إلاَّ بمزيد من المقاومة”،حتى يبرهن الفلسطينيون لمن يعتبرهم إرهابيين،بأنهم شعب مقاوم يسعى أولا وأخيرا إلى نيل حقوقه.في هذا الإطار،يسرد عابد الجابري الحكاية التالية:
”أنقل هنا فقرات من مقالة كنت كتبتها في ركن”آفاق”من هذه المجلة بتاريخ17/8 /1987، أي قبل اندلاع الانتفاضة المباركة بثلاثة أشهر ونصف.لقد كان التعليق يدور حول حوار سمعته في إذاعة فرنسا الدولية بين صحفي عربي ووزير خارجية الحكومة الفرنسية.لقد حاول الصحفي العربي،بكل ذكاء الصحفيين،أن يحمل الوزير الفرنسي على وصف المقاومة الفلسطينية في الأراضي المحتلة بأنها مقاومة وليس ”إرهابا”غير أن الوزير الفرنسي امتنع،وتهرب،وتمسك بقوله”إننا ضد الإرهاب”،وعندما ضيق الصحفي العربي الخناق عليه أجابه”لاتحاول أن تغير إجابتي،لقد قلت لك إننا ضد أشكال الإرهاب”، كان ذلك قبل الانتفاضة،وعلقت أنا على كلام الوزير الفرنسي قائلا:”لا أكتم القارئ أنني شعرت ساعة استماعي لتصريح الوزير الفرنسي بنوع من المرارة لا أستطيع التعبير عن كنهه وحقيقته، ولكنني أتذكر أنني تمنيت لو كنت مقاوما فلسطينيا في الأراضي المحتلة،إذن لمضيت للقيام بالمزيد من أعمال المقاومة للاحتلال.لقد تراءى لي بكل وضوح- لست أدري كيف- أن المزيد من المقاومة للاحتلال هو الذي يجعل الناس،أقارب وأباعد،خصوما وأعداء،على الارتفاع،في وعيهم بما يسمونه ”الإرهاب”إلى مانسميه نحن المقاومة”(ص 127).
_______
*هامش
(1)حسن حنفي/محمد عابد الجابري: حوار المشرق والمغرب،نحو إعادة بناء الفكر القومي العربي.المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1990 .
_______________
*نقلًا عن موقع ” التنويري”.