فلسفة وميتافيزيقا

ما الفلسفة ؟

– ليس هناك اتفاق على ماهية الفلسفة، ولا على قيمتها. فإمّا أن يتوقع المرء منها كشوفاً غير عادية، وإمّا أن يعدّها تفكيراً غير ذي موضوع ويطرحها جانباً دون اهتمام. إمّا أن يُجلُّ فيها الجهد المُثقَل بالدلالة بذله أناس متفرقون، وإمّا أن يزدريها فلا يرى فيها سوى التأمّل الباطني العنيد النافل يجريه بعض الحالمين، إمّا أن يرى أن لها علاقة بكل إنسان وينبغي أن تكون بسيطة وسهلة المتناول، وإمّا أن يعتقد أنها بالغة الصعوبة، حتى أن دراستها تبدو مجازفة ميؤوساً منها. والواقع أن المجال الذي يشمله اسم الفلسفة من الاتساع بحيث يُفسِّر آراء متضاربة إلى هذا الحد كله.
– وأسوأ مافي الأمر بالنسبة لإنسان يؤمن بالعلم، أن الفلسفة لا تُقدِّم نتائج قاطعة، أو معرفة يمكن ملكها. لقد حصلت العلوم على معارف يقينية تفرض نفسها على الناس جميعاً، أما الفلسفة فلم تنجح في ذلك رغم جهد آلاف السنين. لا أحد يستطيع أن ينكِر أن لا إجماع في الفلسفة على معرفة حاسمة. فما أن تفرض معرفة نفسها على كل إنسان لأسباب قاطعة حتى تغدو لتوِّها معرفة علمية، فتخرج عن نطاق الفلسفة وتدخل في مجال خاص من المجالات التي يمكن أن تحيط بها المعرفة.
– وعلى النقيض من العلوم، لا يبدو أن التفكير الفلسفي يتقدّم. إننا نعرف حقاً أكثر من أبقراط، ولكن ليس بوسعنا أن نزعم أننا تجاوزنا أفلاطون. بضاعته العلمية هي وحدها أقل من بضاعتنا. أما ما لديه من بحث فلسفي بكل مافي الكلمة من معنى، فلعلنا كدنا نلحق به.
– أما أن الفلسفة بأشكالها المختلفة، ينبغي بعكس العلوم ألا تحفل بالاتفاق الجماعي، فهذا أمر لابد أنه قائم في طبيعتها. إن ما يجدُّ المفكرون لاقتناصه منها ليس يقيناً علمياً لا يتغير من فهم إلى آخر، بل الأمر يتعلق بفحص نقدي يشارك في إنجاحه الإنسان بكل كيانه. إن المعارف العلمية تتعلق بموضوعات خاصة ليست ضرورية أبداً بالنسبة لكل إنسان. أما في الفلسفة فالأمر يتعلق بمجموع الوجود الذي يهم الإنسان كإنسان، وهو يتعلق بحقيقة ما إن تسطع حتى تنفذ إلى صميم الإنسان أكثر من أية معرفة علمية.
– ومع ذلك فإن إعداد فلسفة يبقى مرتبطاً بالعلوم، إنه يفترض كل التقدم العلمي المعاصر. ولكن معنى الفلسفة ينبع من مصدر آخر : إنه ينبثق قبل أي علم، حيثما نجد أناساً يستيقظون.
__________________
مدخل إلى الفلسفة، كارل ياسبرز، ترجمة جورج صدقني، منشورات مكتبة أطلس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى