مدوّنات د. محمود حيدر
وثن التقنية وعبادة الشيء
وثن التقنية وعبادة الشيء
مبتدأ الاستغراب العدد الخامس عشر السنة الرابعةــ 1440هـ ربيع 2019م
د. محمود حيدر
ليس ثمة ما يدعو الى الاستغراب، حين يُرى الى حداثة الغرب وهي تنتقل بلا رويَّة من تقديس العقل الى تقديس الشيء الذي صنعه العقل. هذه الفَرَضية موصولة بالتساؤل عن حضارة استهلت رحلتها بعبادة العقل المحض، ثم هوت الى عبادة الفرد، وفي هذه الحال، كيف لهذه الحضارة ألا تنتهي الى عبادة الآلة؟..
الجواب سيكون مركَّباً بالضرورة. فالمسألة هنا لا تعود وحسب، الى السببية التاريخية واستقراءاتها المنطقية، وإنما أساساً الى البَدْءِ الميتافيزيقي الذي قام عليه عقل الغرب وروحه.
مفكرو الغرب من الذين آلَمَهُم المآل وشرعوا بنقد الذات، راحوا يكشفون عن رابط وطيد بين ثلاث صُوَر للإنسان الحديث: صورة الانسان المفكر، وصورة الإنسان الصانع، وصورة الإنسان الاقتصادي.
الإنسان المفكر ذو الذهن العقلاني يمكن أن يكون في الوقت نفسه قادراً على الهذيان والحُمق. والانسان الصانع، الذي يتقن صنع واستعمال الأدوات التقنية، كان قادراً منذ بدايات الإنسانية على انتاج أساطير لا تحصى. أما الانسان الاقتصادي الذي يُعرف انطلاقاً من مصلحته الخاصة، فهو انسان الاستهلاك، أو إنسان اللعب والإنفاق والتبذير. هذه الخصائص المتناقضة تبدو متداخلة بين بعضها البعض. في سياق مطالعاته النقدية لما سمَّاه “البربرية الأوروبية” رأى المفكر الفرنسي إدغار موران أن ترياق “الهذيان” و”الحمق” يمكث في أعماق العقل الحديث. يضيف: نظن في غالب الأحيان أننا داخل العقلانية بينما لا نكون في واقع الأمر إلا داخل العقلنة. أي عقلنة ما هو غير منطقي وغير أخلاقي وغير معقول. إذ بإمكان العقلنة أن تخدم الهوى، وتقود الى الهذيان. فالانسان الصانع ينتج أساطير هاذية، ويمنح الحياة لأوثان متوحشة قاسية ترتكب أفعالاً بربرية وحروب إبادة لا تبقي ولا تذر. ومع أن هذه الأوثان هي من انتاج الذهن البشري، كما يلاحظ موران، إلا أنها تتمتع بحياة خاصة، وبسلطة تمكِّنها من السيطرة على الأذهان. وبهذه الكيفية تنجب البربرية الإنسانية معبودات تكنولوجية قاسية تدفع البشر نحو البربرية. ثم ينتهي الى القول: إننا نحن الأوروبيين نشكل آلهة تشكِّلُنا بدورها. ذلك بأن التقنيات التي أنتجها الانسان، مثلها في ذلك مثل الأفكار، ترتد ضده، وتنفلت من عقالها لتلتهم الإنسانية المنتجة لها”…
* * *
بدأت الحداثة الغربية كتحولٍ إنعطافي انطلق مع هيمنة العقل. فقد طمحت من خلال هذا التحول الى استيعاب شامل لما يُزعم بأنه “اللاَّمعنى”. أي، لكل ما يختزنه وعاء الغرب من قيم واعتقادات لا تقع تحت عينه الاستدلالي واختباراته التكنولوجية. حتى إذا جاءت التحولات بدت صورة الحداثة شديدة التداخل والمفارقة: من الناحية النظرية كانت الغاية من مشاريع التحرر أن يكون الإنسان هو غاية تاريخه لا مجرد وسيلة له، أما من الناحية الإجرائية فقد حصل ما يخالف هذا المدَّعى. لقد انعطفت حركة التحديث بلا هوادة نحو زمن مشحون بعنف الهويات الايديولوجية. الشاهد أن القرن التاسع عشر الذي افتتحته الثورة الفرنسية عام(1789م-1799م) وانختم بمأساة الحرب العالمية الأولى، شكّل تأسيساً لزمن العنف المشار اليه. ولمَّا انفسح التاريخ أمام القرن العشرين، بلغت قيم التنوير نهايتها المحتومة. لقد تميز هذا القرن باستشراء الشموليات الأيديولوجية التي ستبدِّد جل ما أتى به فلاسفة التنوير، ثم توغلت في أرض الغرب لتحيلها الى مسرح يشهد على فجائعيتها المرعبة. فالعقل الذي افتتح مساره بإعلان تسيُّده على الكون، ما لبث ان وقع فريسة العنف القهري لكي يسيطر على كل شيء. كان العقل الأوروبي الصناعي في تلك الحقبة مهووساً بمصنوعه حدَّ التطيُّر. الأمر الذي حدا باللاَّهوتي الإنجيلي ديتريش بونهوفر الذي قضى ضحية النازية عام 1945، الى القول: لقد صار سيد الآلة عبداً لها، وأمست الآلة عدواً للإنسان، وحرية الجماهير انتهت الى رعب المفصلة، والتحرير المطلق للإنسان سيختم مساره بالدمار الذاتي”…
لا تبدو مآلات الحداثة التقنية في هذا السياق إلا كمحصول لعقلٍ استبد به الغلو، فانزاح عن غايته وانحدر صوب التشييئ المرِّوع للإنسانية المعاصرة. هذا هو بالضبط ما أوْقَدَ حماسة هايدغر الى نقد ما جَنَتْهُ التقنية على الإنسان الحديث. لكن القضية عنده تتعدى السخط على مظاهر التقنية وأعراضها لتطاول طبقاتها الخفية والعميقة.
اتخذت التقنية في تفكير هايدغر أفقاً يجاوز ما دَرَجَت عليه التيارات النقدية، ولا سيما مدرسة فرانكفورت باعتبارها ظاهرة من ظواهر الاستلاب الرأسمالي. طفق هايدغر يقيمُها على أرض التأويل من أجل أن يكشف أبعادها القصِيَّة في ميتافيزيقا الحداثة. ولمّا وصفها بـ “الاصطناع المفروض” أراد أن يبيِّن كيف ان الانسان يفقد بسببها كل طابع ميتافيزيقي. ولأنه “فيلسوف الحنين إلى الكائن” كما يصفه عدد من قرائه، فقد عكف على كشف ما ينحجُب فيها من آثار مفجعة. جوهر التقنية بالنسبة إليه ليس بشيء تقني، وانما هو عامل مكوِّن للتفكير الميتافيزيقي في الغرب. من أجل ذلك راح يدعو إلى الاحتراس من هذا “الجوهر” الذي تأسست ملحمته الأولى مع بارمنيدس وافلاطون وأرسطو وجرى تكميله مع فلاسفة ومفكري عصر التنوير. وعلى هذا التأسيس الغائر في التاريخ، تظهر التقنية كطغيان لا رادُّ له على الحضارة الانسانية الحديثة. لذلك سعى هايدغر إلى متاخمتها بوصفها تعبيراً عن مأزق النزعة الأنسية التي تطلعت إلى تتويج الانسان كسيِّد للكون. ومعها بلغت الميتافيزيقا أوجها ونهايتها.
* * *
من أظهر السمات التي يمكن استخلاصها من اختبارات العقل الغربي، أنه صنع مدائن الحداثة، وما لبث إلا قليلاً حتى وقع في أسرها. كما لو أنه آنَسَ الى صنعته لتصير له أدنى الى كهوف ميتافيزيقية مغلقة. ومع ان مساءلة الذات في التجربة التاريخية للحداثة انتجت تقليداً نقدياً طاول مجمل مواريثها الفكرية وأنماط حياتها، إلا أن هذه المساءلة- على وزنها في تنشيط الفكر وبث الحيوية في أوصاله- لم تتعدَ الخطوط الكبرى التي وضعها لها نظامها الصارم.
بسبب من هيمنة العقل التقني، سنلاحظ ان جلَّ المنعطفات التي حدثت في حقل المفاهيم والنظريات والأفكار جاءت مطابقة لمعايير ومقتضيات الثورة العلمية. والذي حصل ما كان ليأتي على سبيل المصادفة. فالمعاثر التي عصفت بالعقل الغربي في طوره المعاصر لم تكن حديثة العهد، بل كانت موصولة بأصلها اليوناني ولم تفارقه قط.
لقد بذلت الميتافيزيقا مذ ولدت في أرض الأغريق والى يومنا الحاضر ما لا حصر له من المكابدات. اختبرت النومين (الشيء في ذاته) والفينومين (الشيء كما يظهر في الواقع العيني) لكنها ستنتهي الى معضلة استحالة الوصل بينهما. كانت ذريعتها ان العقل قاصرٌ عن مجاوزة دنيا المقولات ولا ينبغي له العلم بما وراء عالم الحس. على هذا النحو انعطفت الميتافيزيقا الأولى نحو مفارقة سؤال الوجود كسؤال مؤسِّس، لتستغرق في بحر خضم يمتلئ بأسئلة الممكنات الفانية وأعراضها الزائلة.
* * *
ظهرت التقنية كفجوة تتوسع يوماً إثر يوم في بنية العقل الغربي الحديث. لعل أشدها وقعاً توضيع العقل في مواجهة الإيمان، والتقنية في مواجهة البعد الروحي للإنسان. والنتيجة أن وقع العقل الحديث في أحادية جائرة ستجرِّده من إمكانات هائلة هي ضروريّة لتجدّده الحضاري. أمّا السبب فيعود إلى شغف العقل الحداثي غير العقلاني بعقلانية العلم ومنجزاته. فالغلو بالعقلاني حين يصل إلى حدّه الأقصى يحدثُ مساراً ارتدادياً على العقل نفسه، بحيث تظهر علاماته باضطراب السلوك وعدم القدرة على ضبط حركة التقدّم في الميادين الحضارية كافة. من المنطقي القول بإزاء فجوة التناقض بين التقدّم العلمي والإيمان، أن الأشياء والظواهر لا تتضاد أو تتصارع إلّا بين أجناسها. ولكن لم يدرك العقل التقني – وبسبب من استغراقه في دنيا الرقمية الصمَّاء – ان العلم لا يمكن ان يحتدم إلّا مع العلم، والإيمان لا يحتدم إلّا مع الإيمان. والصراع الشهير بين نظريّة التطوّر ولاهوت بعض الطوائف المسيحيّة لم يكن صراعاً بين العلم والإيمان، كما يبين الفيلسوف واللاهوتي الألماني بول تيليتش، بل بين علم يجرّد إيمان الإنسان من إنسانيّته، وإيمان شوَّه التأويل الحرفي للكتاب المقدّس تعبيراته. [تيليتش – 46]. تأسيساً على هذه الفرضية لن يكون ثمة من صراع بين الإيمان في طبيعته الحقيقية والعقل في طبيعته الحقيقية. هذا التأكيد يشمل حقيقة تالية، هي أنه لا يوجد صراع جوهري بين الإيمان والوظيفة الإدراكية للعقل.
في الحداثة التقنية حصل الانشطار المزعوم بين الحقيقتين المتلازمتين. ما أفضى الى “جاهلية جديدة” انبرى العقل يتوكَّأ فيها على المشاهدة والاختبار والتجريب. جاهليةٌ لا تعير أهمية إلا للعقل الأداتي الجزئي الاستدلالي، الذي لا شأن له سوى الاستدلال طبق قواعد المنطق الصوري. أما الأهلية الوحيدة لهذا العقل فهي أن يصبّ القضايا المتأتية عن المشاهدة والاختبار والتجربة الحسية الظاهرية في قوالب الاستدلالات المنطقية المنتجة، ويقدم نتائج جديدة.
في ما يتصل بوجود الله سلكت الحداثة منحى إنكارياً حيناً، ولا أدرياً حيناً آخر. فالإنسان الحديث صنع لنفسه عالمًا خاصًا بيده، هو عالم نسيان الله، وتفريغ المعرفة من مضمونها المقدس، والتضحية بمسؤولية الإنسان حيال الله لصالح الإنسان، وتدمير الطبيعة. والذين قالوا بهذا القول ينتهون الى الحكم التالي: “إن خير العالم الجديد الحداثي عَرَضي، وشرّه ذاتي؛ أمّا خير عالم الماضي ما قبل الحداثي فهو ذاتي، وشرّه عرضي. وهو يقصد هنا الماضي الذي كان فيه الوحي المسيحي حاضراً ومؤثراً في الوجدان الغربي.
* * *
لكي يستقيم النقاش في شأن الاستعمال الحداثي للعقل سيكون علينا ان نتساءل عن المقصود من كلمة “عقل” حين تُواجَه بالإيمان. هل المقصود بها، كما هي الحالة في الغالب اليوم، أن تُطلَق بمعنى المنهج العلمي والصرامة المنطقية والحساب التقني؟ أم انها تُستعمَل، كما كان الحال في كثير من حقب الثقافة الغربية، بمعنى منبع المعنى والبنية والمعايير والمبادئ؟
في الجواب نلحظ حالتين:
– في الحالة الأولى، أو حالة العقل الأدنى فإن هذا العقل يوفر الأدوات اللازمة لمعرفة الواقع والسيطرة عليه، ليهتم بتدبير الحياة اليومية لكل إنسان، وبالتالي فهو القوة التي تحدد الحضارة التقنية لعصرنا.
– في الحالة الثانية، أو حالة العقل الممتد، وهي التي يتماهى فيها العقل بإنسانية الإنسان في مقابل جميع الكائنات الأخرى. فهو عقل يشكل أساس اللغة، والحرية، والإبداع وحافظ القيم الإيمانية والأخلاقية.
العقل هو الشرط القبلي للإيمان -كما يبين تيليتش – لأن الإيمان هو الفعل الذي يصل به العقل في نشوته الانجذابية إلى ما وراء ذاته. صحيح ان عقل الإنسان متناهٍ ويتحرك داخل علاقات متناهية حين يهتم بالعالم وبالإنسان نفسه. لكن هذا العقل ليس مقيداً بتناهيه، بل هو يعيه، وهو بهذا الوعي، يرتفع فوقه. ولا يتحقق العقل إلا إذا سيق إلى ما وراء حدود تناهيه، أي إلى الحضور في المقدس. ومن دون هذه التجربة، يستهلك العقل نفسه ومحتوياته المتناهية، ويصبح مليئاً بالمحتويات اللاعقلية أو الشيطانية، فتدمره هذه المحتويات. وبهذا يصير العقل مسلّمة الإيمان، والإيمان هو تحقق العقل ولا يعود هنالك من تناقض بين طبيعة الإيمان وطبيعة العقل، بل يقع كل منهما في داخل الآخر.
* * *
كانت التقنية حاضرة بقوة لمَّا نشر أوسويلد شبنغلر Oswald Spengler الطبعة الأولى من كتاب تدهور الحضارة الغربية The Decline of the West، في ستينيات القرن المنصرم. يومها عبّر بعض القرّاء عن اعتراضهم على بعض نتائجه، مشكّكين باقتراب انهيار الحضارة الغربية، إلا أن غالبيّتهم كانت تتوقّع الانهيار منذ زمن طويل. لم يكن هذا بسبب الحرب العالمية الثانية. على العكس، كانت الحرب وقت حماس وتكريس تامّ للنفس من أجل هدف مقدّس، وغدت المخاوف والشكوك المقلقة بالنسبة لمستقبل الثقافة الغربية طيّ النسيان. مع ذلك كله كان واضحاً وقتذاك أن الحضارة الغربية تسير بثبات نحو الانحلال. أما كيف ستبدو صورة الانحلال في خواتيمها الأخيرة، فهذا ما أخذت تنبئ عنه الميديا منذ عقدين من سيرتها المدوية؛ إذ حوَّلت المعرفة البشرية الى مجرد رموز وأرقام وعالم بلا يقين…