مدوّنات د. محمود حيدر

الجائحة تسترجع الميتافيزيقا

 

الجائحة تسترجع الميتافيزيقا

محمود حيدر

مبتدأ الاستغراب العدد العشرون السنة الخامسة ــ 1441هـ صيف 2020م

ماذا لو انقلب سؤال الفلسفة، من مساءلة الإنسان لنفسه والوجود من حوله، إلى سؤالٍ توجِّهُه الطبيعة للإنسان ولا يملك أن يأتيها بإجابة ناجزة؟
لا يتداعى هذا التّساؤل على سبيل الاستئناس في زمن الرّخاء، بل هو ينطرح تلقاء جائحةٍ اختزلت سيلًا هائلًا من أسئلة الفلسفة، ثم لتستظهرها بسؤال يقضُّ مضاجع البشريّة وهي ترتع في محاجرها الموصدة: هل كان لأحد أن يتخيَّل كيف أنّ كائنًا ينسربُ إلينا من مكان لم يدركه سلطان العلم بعد، ثم يروح يستحثّ الآدميّة المعاصرة من أجل أن تستمطر النّجاة من سماء الغيب؟..
ربّما لم يعد من مانع يحول دون الجهر بمثل هذا السّؤال. الذي يحيل القضية إلى فضاء الميتافيزيقا. فتحصيل الإجابة عليه يتّخذ مسارًا متعاظمًا متى عرفنا أنّ علم الكونيات/ على عظيم ما قدّمه للبشريّة/ يقف اليوم مرعوبًا من كائنٍ لا مرئيٍّ يجتاحه بلا هوادة… كلّ الصورة تبدّلت وأمست على نشأةٍ جديدةٍ. والعالم الذي كان قبل الجائحة صار غير العالم الذي هو فيه الآن، وإنسان القارات الخمس دخل في انذهال لا قِبَل له به. ثم انبرى إلى التّساؤل عمّا لو كانت يدًا خفيّة حطّت بغتةً على وجه الأرض، وأخفت عن ساكنيها سرّ غزوتها المدِّمرة…
غالب الظّنّ، أن يفضي مثل هذا الانطباع إلى التفكّر بأمر هذا الكائن على النّحو الذي لم تألفه أروقة التفكير الفلسفي من قبل. مردُّ الأمر أنّ القضيّة لا تنحصر بالاستفهام في ما إذا كان منشأ الجائحة من نَفَسِ الطبيعة المكتظِّ بالفساد، أو هو من فعل صانعٍ بشريّ. والبيِّن أنّ النتيجة المستفادة واحدة أنّى كانت الإجابة المفترضة. الشيء الأهم في استشراء الجائحة يتعدّى نطاقها البيولوجي والإيكولوجي، ليتاخم مجمل ما أنجزه الإنسان من معارف وعلوم وأنظمة قيم. ومما يستثير استفهامات غير مسبوقة أنّ دولًا ومجتمعاتٍ رغم حداثتها الفائضة وجدت نفسها تلقاء “فايروس” بات أشبه بكائن ميتافيزيقي لا يملك معه البيولوجيون سوى بيانات الترشيد للإفلات من شباكه القاتلة. ولأنّ أثر الكورونا يأخذ سعة كونيّة لم تشهد البشريّة مثيلًا له، لم يعد النّقاش يقتصر على استقراء وتحليل ما ينطوي عليه نظام الطبيعة من حوادث لا تزال عصيّة على فهم مواقيتها كالزلازل والأعاصير والأوبئة، بل نقاش يتمدَّد نحو السّؤال الأشدّ هولًا، وهو بقاء النّوع الآدمي أو فنائه.
صحيح أنّ سؤال البقاء كانت سألته الحضارات البشريّة لمَّا كانت تخوض حروبها العظمى، مثلما سألته الفلسفة على امتداد أحقابها من قدماء اليونان إلى أزمنة الحداثة الفائضة. غير أنّ مثل هذا السّؤال على أهمّيته ظلّ ساكنًا في عالم الذّهن، ولم يخرج عن كونه سؤالًا افتراضيًّا. حتى غدا في قلب الواقع الحي. فالحادث الجلل لا يزال يكمل غزوته ليلقي بظلِّه الثّقيل على الفكر والجسد والنّفس وسائر المشاعر. ولقد بات المواطن العالمي وهو يلتجئ إلى كهفه البيولوجي لا يفارقه الإحساس بأنّه صار قاب قوسين أو أدنى من حافّة القبر.
* * *
ما ينبغي الإلفات إليه، أنّ اللّحظة التي يجب أن يختلي فيها العقل الحديث بنفسه، من أجل أن يواجه هذا الامتحان الكبير هي لحظة لم تَحِنْ بعد على ما يبدو. كما لو أنّ الحضارة المعاصرة قد غشيتها الغفلة المديدة، ولم تعد بقادرة على الاستيقاظ. أمّا الحداثة الفائضة التي أطلقتها المركزيّة الغربيّة فهي لمّا تزل على سيرتها الأولى من الشّعور بتفرّدها واستعلائها الحضاري، وربّما ستبقى كذلك حتى بعد اضمحلال الجائحة ثم من منَّا كان يتصوَّر اللّحظة التي يجدُ فيها العقل الحديث نفسَه أمام محاسبة نفسه كمثل اللّحظة التي يعبرها اليوم؟.. ربّما للمرّة الأولى مذ تسيّد هذا العقل عرش التنوير في أوروبا سيباغته خوفٌ لا قِبَل له به على المصير. لكأنّ خطبًا جللًا يدعوه إلى الوقوف على خللٍ جوهريّ في تكوينه. وفي غالب الظّنّ أنّ جائحة كورونا ستنبِّه كثيرين ممن سوَّقوا ونظَّروا للعقل المحض إلى هذا الخلل الكامن في أصل تكوينه. ربّما علينا في هذه الحال، أن نرى إلى المسألة بتبصُّر ميتافيزيقيّ؛ لكي ندرك السبيل إلى فهمها. الفَرَضيّة التي نأخذ بها في هذا المقام، هو أنّ المعضلة الأصليّة في بنية العقل الحديث، بدأت حين أشاحت الفلسفة الأولى عن الأصل الذي جاءت منه الموجودات، ثم انبرت إلى مدَّعاها المعروف أنّ العلم قادرٌ على الإحاطة بكلّ شيء. ربّما لم يدرك أهل هذا العقل لمّا أنسوا إلى دنيا الممكنات، أنهم يدفعون حضارة “اللوغوس” دفعًا إلى كهف القطيعة مع الأصل المتعالي الذي منه جاء. لقد حَسِبوا أنهم أفلحوا بالميثاق الأعظم الذي سيتيح له فك لغز الوجود. وظنوا أن العلم الفائق الذكاء، لا يدع صغيرة ولا كبيرة إلا وقف على سرّها.. أو أن العقل الذي أنتجه، هو الكائن الفريد المكتفي بذاته، وأن ليس له بعدئذٍ من حاجة إلى من يسدّ نقصه متى استشعر النّقص، ولا إلى من يمدّه بالاغتناء متى استشعر الفقر…
ومن البيّن أنّه منذ جناية أرسطو الأولى إلى غفلة الوَرَثة المحدثين، من الذين استطابوا الاستراحة الأبديّة في دنيا المحسوسات، اتّخذت هجرة العقل دربة الغلوّ في تمجيد الذات، إلى حدّ “نسيان الكينونة” كما يعبِّر الفيلسوف الألماني المعاصر مارتن هايدغر.
وحتى لا يُفهم من كلامنا أنَّا نرمي إلى ذمِّ العقل على الإطلاق، نوضّح في ما يلي ما قصدناه لجهة اعتباره جائحة مساوقة لجوائح الطبيعة. ففي واقع الأمر، إنّ نقدنا لسيرورة العقل في التاريخ الحديث لا يعني مسًّا بأصل تكوينه، أو إنقاصًا من جلال قدره وما يختزنه من الحكمة ومحاسن التدبير.. وللمزيد من البيان نقول: إنّ العقل في أصل نشأته وعلَّة وجوده، هو أوّل الموجودات وأشرفها. بل هو الموجود المفارق الذي اختُصّ به الكائن الآدمي. لكن محلّ الإشكال هنا، على وجه التعيين، ما رسمه العقل اليوناني من تأسيسات دنيويّة للميتافيزيقا، ثم جاءت الفلسفة الحديثة لتشكِّل تتويجًا صارخًا لها. ومع استحواذ المنعطف الأرسطي على نظام التفكير في الحضارة المعاصرة بلغ العقل خاتمته الانفصاليّة بوصف كونه عقلًا محضًا غايته الكبرى الاعتناء بالمقولات العشر. لقد بذلت الفلسفة مذ ولدت، وإلى يومنا الحاضر ما لا حصر له من المكابدات. اختبرت النومين (الشيء في ذاته)، والفينومين (الشيء كما يظهر في الواقع).. لكنّها ستنتهي إلى معضلة العجز عن الوصل بينهما. كانت الذريعة، إنّ العقل لكي يحصِّل العلم لا ينبغي له مجاوزة دنيا المحسوسات في الاختبار والتجربة. على هذا النحو كان لأهل الفلسفة الأولى وورثتها من الحداثيين، أن يختاروا راحة العقل ليُعرِضوا عن سؤال الوجود بما هو استفهام عن المبدأ المؤسِّس، ثم ليستغرقوا في لجّة لا قاع لها من الانهمام والعناية بالموجودات الفانية… ذاك ما ستفصح عنه معاثر الحضارة الحديثة، لمّا غزاها الكورونا وهي في ذروة استعلائها واعتزازها بذاتها.
* * *
عند هذه اللّحظة بالذّات بدت الحداثة التي فاضت عن حدِّها، كما لو أنّها تترجم المشهد الأخير لحضارة «العقل الحسير». الذي أشعرته الجائحة بقصوره الشّديد عن درء وباء قد ينتزع الحضارة البشريّة من جذورها. وليس من ريب أنّ ذلك كان بالنسبة لأهله مدعاة لحسرة حيال حادث كوني لم يدخل في حساباتهم، ولم يقدروا على احتواء تداعياته على صُعُد الحياة المعاصرة كلّها. لكنّ التمظهر الأشدّ قسوة لهذا المسار الذي سكنت إليه الحداثة قرونًا طويلة أنّ «دابَّة الأرض» التي ظهرت على حين بغتة، توشك أن تغلب «دابّة العقل» المكتفي بذكائه… وعلى ما يذكر الحكماء، إنّ العقل الذي يستغرق في دنياه هو نفسه العقل الذي يتحسَّر على ما كان أعرض عنه وكان دليلًا على جوهر معناه، وعلّة كماله كخليفة لله أو سيّدًا على الكون.
قصارى ما نقول، إنّ جائحة كورونا في الوقت الذي أقامت الحدّ على العولمة الليبراليّة وزلزلت أركانها، أطلقت عولمة من نوع جديد. هي عولمة التّباعد بعد تواصل، والتشظِّي بعد وحدة، والخوف من الفقر والرّفاه الموهوم. تلك هي الهواجس التي أخذت تعصف بدوائر الفكر والتخطيط على نطاق العالم كلّه. لقد انتهت العولمة بصيغتها النيوليبراليّة من قبل أن تحكم عليها جائحة كورونا بالسقوط المبرم. لكن اليوم تبدو البشريّة أمام أفق مفتوح على تغيّر هائل تجد نفسها مجبورة عليه. وهذا أمرٌ عاديّ في قوانين فلسفة التاريخ. حيث نجد أنّ الطبيعة الصامتة تتدخّل أحيانًا وعلى حين بغتة في المصير البشري، وتفرض على أهل الأرض نمط حياة ما كان ليخطر على بال إنسان.
* * *
ليس جديدًا على الجوائح أن تستدعي سؤال الميتافيزيقا في ذروة تداعيها. وها هي اليوم تضعنا في قلب هذا الاستدعاء. حيث يستشعر الإنسان فردًا وجماعة وكتلًا حضاريّة لحظة الخطر الأعظم. أي اللّحظة الفاصلة بين الفناء والبقاء. ذلك ما كان استشرفه الفيلسوف الفرنسي جان غيتون بعد الحرب العالمية الثانية، حيث رأى أنّ الإنسانيّة عندما تقف أمام خطر التهديد اللّا متناهي لوجودها، تندفع نحو ما يسمّيه بالتفكير الميتاستراتيجي. وإفراغ أسئلتها في فضاء الميتافيزيقا، حيث يدخل الإيمان بالغيب كعاملٍ جوهريٍّ يدفع عنها الهلع من فنائها المحتوم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى