مدوّنات د. محمود حيدر

اللَّاهوت الإسرائيلي بما هو جوهر الأطروحة الأميركية

اللَّاهوت الإسرائيلي بما هو جوهر الأطروحة الأميركية

النشأة والغاية هي نفسها

د. محمود حيدر

    مفكر وباحث في الفلسفة- لبنان

مدخل

لا يكاد ينصرم الجدل حول منطقة الجاذبية الحاكمة على العلاقة الأميركية الإسرائيلية، حتى يعود إلى سيرته الأصلية. وسنرى في ما يظهره منعطف المواجهة الكبرى بين دولة الاحتلال الإسرائيلي والشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية، ما يضفي على هذا الجدل المتمادي أسئلة غير مسبوقة. ولتأصيل هذه العلاقة لا بد من تعميق النقاش حول تلك الدائرة الغامضة التي تنتظم الصلة التكوينية بين التلمود المؤسِّس لدولة إسرائيل واللَّاهوت الإنجيلي المؤسِّس للأطروحة الأميركية. وفي هذا البحث سوف نمضي إلى بيان المشترك اللاّهوتي بين الأطروحتين، وذلك قصد جلاء الكثير مما تراكم من غموض والتباس حيال ما يربط بينهما. وفي هذا المورد نشير بدايةً إلى أن المشترك التأسيسي بين أميركا وإسرائيل يقوم على معنيين مركزيين يُظهران وحدة النشأة والسلوك والممارسة:

المعنى الأول: السمة الاستيطانية لكل من الولادتين الأميركية والإسرائيلية. وذلك على القاعدة التي تقول بوجوب إحلال شعب لا أرض له، في أرض لا ينبغي لمن عليها أن يكون له أرض.

والمعنى الثاني: السمة اللاّهوتية التوراتية، التي تُبرز على الدوام البعد الميتافيزيقي للظاهرتين الأميركية والإسرائيلية، بهدف إضفاء طابع استثنائي ورسالي على كل منهما. وبالتالي جعل كل سلوك وممارسة، ينطلقان من “حقّانية” مزعومة للشعب المختار. وبأن ما يفعله هذا “الشعب” هو حق يستمد مصادره المتسامية من الحق الإلهي .

ولسوف يظهر لنا من المعاينة الإجمالية لسَيْرِيّة النشأتين، كيف ستنحكم كلا منهما إلى حضورية الاعتقاد الديني التوراتي، وإلى أن تستأثر الايديولوجيا السياسية واللاّهوت بنظام الدولة، والمؤسسات، والمجتمع، والسلطة. في التجربة التاريخية الإسرائيلية المعاصرة كما في التجربة التاريخية الأميركية المتمادية في الزمن، ثمة حشد هائل من المفردات، والسِّير، والروايات الدينية، والأسطورية، ما يرسِّخ السمة اللاّهوتية العميقة بين التجربتين.

 

ماهية المشترك اللَّاهوتي

ليست النزعة المركبة من الفرادة ، و الاستعلاء ، والاصطفاء التي تُبنى الثقافة السياسية الإسرائيلية عليها، إلا الوجه الحقيقي للتريُّب من الآخر. إذ كل “غير” أو “آخر” في اللاّهوت الإسرائيلي يعود إلى عالم ” الأغيار “. إلى أولئك الذين سخّرهم إله التلمود لخدمة ” شعب الله المختار “. وليس من باب المصادفة أن ينبري بنيامين نتنياهو ليختم كتابه المعروف “مكان تحت الشمس” بقصة ذات دلالة صارخة على البارانويا اليهودية المعاصرة: تقول القصة أنه عندما طلب فريدريك الأكبر من طبيبه أن يأتيه ببرهان على وجود الله، اكتفى هذا بالقول: إن وجود اليهود هو الدليل على وجود الله”.[1]

لم تنأَ حضورية الدين في الأطروحة الثقافية الأميركية عما نجده في المثال المعاصر للدولة اليهودية في فلسطين. بل يجوز القول إنهما جاءتا من نفس واحدة. لا سيما إن نحن رأينا إلى الهندسة الاعتقادية والمعرفية على النحو الذي يظهر في الفلسفة العملية للاّهوت السياسي الأميركي.

ثمة حادثة يستعيدها بعض الباحثين ويتعاملون معها كوثيقة تاريخية للدلالة على توظيف الكتاب المقدس في الاستراتيجيات العليا لأميركا.

صباح الثلاثاء، 4/1/2005، نقلت المحطة التلفزيونية العامة C-SPAN صلاة مجلس النواب التاسع بعد المئة مباشرة من كنيسة في مقر الكونغرس؛ حيث ذكَّر بعض الأعضاء “بالأسس المسيحية لحكومتنا”، وتحدَّث آخرون عن المأساة الآسيوية الرهيبة جراء كارثة تسونامي الأندونيسية. وفيما كان نوّاب يعربون عن تعاطفهم مع أُسَرِ ما يزيد على 150 ألف ضحية، توجَّه الزعيم التكساسي للأغلبية الجمهورية في المجلس، توم دولاي Delay، إلى منبر الوعظ وقرأ من الإنجيل “؛ ثم تلا – قبل أن يعود إلى مكانه من دون أيّ تعليق – آيات تنتهي بقول يسوع:

… “وكل من يصغي إلى أقوالي هذه ولا يعمل بها، سيكون أشبه بمغفّل بنى بيته على الرَّمل. ثم هطلت الأمطار وجاءت الفيضانات وهبَّت الرياح، وضربت البيت؛ فانهار، ودُمِّر كلِّياً.

ثمة من المتخصصين من ذهب إلى تبيين المساحة التي تحتلها الاعتقادات الغيبية في دائرة القرار السياسي، فرأى استناداً إلى استقراء الخطبة المشار إليها، إن هذا الموقف المستهجن من ذلك المشرِّع البالغ النُّفوذ يُعبِّر عن سبعة أمور:

أولاً: العنصرية: لأن الأغلبية العظمى من ضحايا الكارثة هم ممن يسميِّهم أمثال دولاي “السُّمْر الصِّغار”.

ثانياً: التديُّن المتعصِّب : لأن معظم الضحايا ليسوا مسيحيين؛ وحتى إن كان بينهم مسيحيون، فهؤلاء ليسوا ” مولودين من جديد ” born again .

ثالثاً: الاستعلاء والتجبُّر: لأن البلدان المتأذِّية ليست، مثل الولايات المتحدة، “مدينة مضيئة على جبل… باركها الله… وكانت منيعة فخورة”.

رابعاً: الاطمئنان إلى المساندة: لأن هناك أعداداً كبيرة ونافذة تُشاركه هذه الآراء والمشاعر، وتدعمه في مثل هذه المواقف.

خامساً: جهل الآخرين أو تجاهلهم: لأن التيار الرئيس متواطئ، أو لا يعلم، أو يكترث؛ أو، ربما، لأن لا حول له ولا قوة.

سادساً: السعادة لحدوث الكوارث: لأن عشرات الملايين من الأميركيين يؤمنون بكونها أدلة توراتية على قرب انتهاء العالم وعودة المخلِّص.

سابعاً: التزاوج بين الايديولوجيا و اللاّهوت : لأن هذا التزاوج الحاصل للمرة الأولى في تاريخ الولايات المتحدة، يستأثر بالحكم ويحتكر السيطرة على البلاد.

وفي نقطة هامشية ربما يراها البعض قريبة من ” نظرية المؤامرة “، وقد تكون مجرَّد مصادفة؛ هي أن النص الذي اختاره دولاي يتألف من… سبع آيات، موجودة في الإصحاح السابع[2].

 

اليهودية السارية في الزمن

لو رأينا إلى القواعد السبع المذكورة من باب المقاربة، لوجدناها تكمن كجوهر يبث الروح في مجمل التأسيسات التلمودية للظاهرة الإسرائيلية. إذ مع صعود هذه الظاهرة، وتجسُّدِها ككيان جيو- سياسي ديني في فلسطين في نهاية النصف الأول من القرن العشرين، لم تعد اليهودية مجرد دين خارج الزمان العالمي. فلقد أُخِذَت في الزمن الدنيوي حتى يكاد لا يُرى إليها كديانة. فالذي بدا في الواقع هو أن “حكماء” الحركة الصهيونية أفلحوا في تحويل الإيمان إلى إيديولوجية سياسية. لكن فرادة وخصوصية مثل هذا التحويل أنه ينطوي على مفارقة لم ينفصل فيها الديني عن الأرضي، ولا المتعالي عن الوضعاني. إلى أن بات الأمران أمراً واحداً لا يقبل الفصل والتمايز. ربما كانت اليهودية في ذلك أكثر الديانات استعداداً إلى التشيّوء. فقد حُمِّل الديني وزر الدنيوي. حتى لقد بدا سَبْيُ بابل، ورحلات التِّيه واضطهادات الحداثة ، كما لو كانت حاصل ذاك الوصال الذي لا ينفكُّ أبداً.

هل يعني هذا أن التراجيديا اليهودية كانت حتمية، بسبب من الزمن الذي أخذها، او الذي أُخِذت فيه؟

بالطبع، ليست الصورة على هذا النحو. ثمة في المشهد الإجمالي ما هو مركّب، ومعقّد، وضبابي. تماماً مثلما جرى في صورة الولادة الأميركية. لكن ينبغي هنا أن نعثر على الفاصل الطفيف بين الحقيقة والتوظيف. وهو الشيء الذي استغرقت الحداثة الغربية في ظلماته، بدل أن تكتشفه وتؤسس عليه رؤاها لمقاصد الحركة الصهيونية. فلو رأينا إلى ما تقصد، لعثرنا عليه في الكيفيات التي سُيِّلت فيها اليهودية في الزمن السياسي الحديث. ثم لنجد كيف تحولت المنافع إلى عقائد، والسياسة إلى دين، والمال إلى وثن للعبادة. لكأن الأمر بالنسبة إلى “حكماء” اليهودية الجارية في الزمن جاء مقلوباً. حيث رُفِع الدنيوي إلى مقام الديني، وتسامى الوضعي على الغيبي، حتى صار كل ما في “اللوح المحفوظ” عرضة للاستباحة.

غير أن من نقّاد الحداثة من ذهب إلى إجراء مقاربات أضاءت على منطقة الغموض المعرفي في جدلية الحضور اليهودي في التاريخ الحديث. لقد كان لكارل ماركس مطالعات جادة في هذا الحقل. فحين رأى إلى إله اليهودية بوصفه إلهاً علمانياً، وإلى حضارتها حضارة سوق، فإنما كان يرمي إلى أماطة اللثام عن التزييف الذي أجراه التلمود السياسي في الإيمان اليهودي الأول. كذلك كان الأمر قبلئذٍ عند إيمانويل كانط ، الذي أنكر على اليهودي روحانيته، وخلع عليه مادية تاريخية صافية، ونظر إلى ديانته كعقيدة سياسية قومية، ووصف المسيحانية الممزوجة فيها، بأنها طموح إلى حياة أفضل لشعب يعيش الشتات والنفي[3].

ربما كانت هذه التوصيفات نفسها هي التي ستحمل مفكراً يهودياً كإسحق دويتشر إلى البحث عن توصيف أكثر التصاقاً بواقع الكيان السياسي اليهودي في فلسطين؛ عندما اعتبر أنه في إسرائيل قام أقدم شعب في العالم بتشكيل أحدث دولة قومية . وإلى ذلك، يضيف، فإن هذا الشعب مندفع نحو التعويض على ما فاته من وقت. لا سيما وأن المثل الأعلى لجميع اليهود هنا، إنما يتجلّى في إنماء هيكل قومي وقائي ومتين، مما يقتضي ضمناً التخلص من حياة المنفى. إن إسرائيل هي دولة الشخص المشرَّد، ولهذا يكثر الحديث عندهم حول “الجذور الضاربة”[4].

وإذا كان للنص التوراتي قابلية لتسويغ ما يسمونه “الجذور الضاربة”، فإن اليهودية السياسية التي أنشأها الغرب على صورته ستطيح مصدرها الالهي، لتوِّظِفُه في حروب الزمان والمكان. لقد بدأت عمليات التوظيف في الأزمنة المتأخرة للحداثة، عندما ارتكبت فظائعها بحق اليهود. الأمر الذي منح الحركة الصهيوينة التقاط الفرصة العظمى لتحويل تلك الفظاعات إلى طقس ديني عالي الوتيرة. إذ مع انبساط جغرافية الاستيطان على أرض فلسطين، صار بالإمكان أكثر من أي يوم مضى أن تصبح ” الهولوكوست ” ديناً يُدان به، و عقيدة تدين العالم بأسره، ثم لتُشعِره بذنب لا شأن له به.

لكن ماذا عن وجه الاشتراك بين القيامتين الإسرائيلية والأميركية؟

على ما يفضي إليه لاهوت التأسيس ، لا شيء يشير إلى تناقض أو مباينة جوهرية في واحدية نشوء كل من إسرائيل وأميركا. وتبيّن الدراسات التاريخية ان الثوار الإنكليز من البيوريتان (Puritans) الطهرانيين الذين استوطنوا أميركا الشمالية، وأورثوها ابرز خصائصها وملامحها لم يستوطنوا لأسباب تجارية خالصة، ولم يهاجروا إليها طلباً لحرية العبادة وحسب، وإنما كانت تجسد لهم أيضا فكرة مستمدة من أدبياتهم العبرية ونظرياتهم عن ” نهاية الزمان “. ففي أقل من خمسين سنة مضت على تأسيس جو سميث (John Smith) للمستعمرة الانكليزية الدائمة الأولى في جيمستاون (Jamestown) عام 1907 وصل إلى العالم الجديد 80 ألف مستوطن انكليزي أسسوا فيه 18 جماعة مستقلة مختلفة. وتمتعت كل واحدة منها باستقلالها وسيادتها الكاملة، ومُنِحَت وسام العبرية ولقب ” الشعب المختار “؛ ثم أنها قدّست اللغة العبرية، وطالبت بتطبيق شريعة موسى، وسمَّت مجالها الحيوي (Lebenstaum) من الأراضي المغتصبة باسم ” أرض كنعان “، أو ” إسرائيل الجديدة “، أو ” صهيون “، أو ” أرض الميعاد “، أو غير ذلك من التسميات التي أطلقها العبرانيون على فلسطين. كذلك كانت كلها تلتذُّ بإبادة شعوب أميركا بسادية واحدة، ومبررات أخلاقية وأسطورية واحدة أسقطت على نفسها، وعلى ضحاياها معظم الروايات العبرانية عن ارض كنعان وأهلها[5].

كذلك سنجد ما يوطِّد صلة المعنى بين أميركا وإسرائيل لدى الشطر الأعظم من مؤرخّي وكتّاب الأطروحة الأميركية. وفي هذا المجال يبيِّن الباحث الأميركي لي فريدمان في كتابه “حجاج في العالم الجديد” أنَّه من اليوم الأول لوصول المستعمرين الإنكليز إلى العالم الجديد، وهم “يريدون أن ينشئوا في أميركا دولة ثيوقراطية تعيد سيرة اليهود التاريخيين. فالخطباء والوعّاظ استمدّوا نصوص خطبهم من العهد القديم، أما الآباء فقد استعاروا منه أسماء أولادهم. لم تكن العبرية لغة ثانوية بل كانت عمود ثقافة المثقفين والمتعلِّمين المتدينين وغير المتدينين. وكان تاريخ اليهود في العهد القديم قراءتهم اليومية، بل لربَّما كانوا يعرفونه أكثر ممّا يعرفون تاريخ أي شعب”[6].

ليس من شك في أنَّ بعض هذه المحاولات آل إلى الإضاءة على ما يمكن وصفه بالبعد الميتافيزيقي للثقافة المؤسِّسة لأميركا. وضمن هذا السياق تُلقي دراسة الباحث في الشؤون الأميركية د.منير العكش الضوء على المعنى الإسرائيلي للنشوء الأميركي. في هذه الدراسة جلاء لقضية منهجية قوامها، أنَّ أميركا ليست إلاَّ الفهم البريطاني التطبيقي لفكرة إسرائيل التاريخية. وأنَّ كل تفصيل من تفاصيل تاريخ الاستعمار البريطاني لشمال أميركا، حاول أن يجد جذوره في أدبيات تلك “الإسرائيل”، وسعى بالتالي إلى تمثّل وقائعها،وأبطالها، وأبعادها الدينية، والاجتماعية والسياسية، وتبني عقائدها في “الاختيار الإلهي”، وعبادة الذات،و تملُّك أرض الآخرين وحياتهم. لقد ظنوا أنفسهم، بل سمّوا أنفسهم “إسرائيليين” و”عبرانيين” و”يهودا”، وأطلقوا على العالم الجديد اسم “أرض كنعان”، أو “إسرائيل الجديدة”، واستعاروا كل المبرِّرات الأخلاقية لإبادة الهنود الكنعانيين، واجتياح بلادهم من مخيّلات العبرانيين التاريخية. ليست “العلاقة بالمعنى” بين إسرائيل وأميركا مجرَّد تركيب ذهني أخذ المشتغلون بظواهره وألوانه، وبأعراض التشابه في النشأتين. وإنَّما هي علاقة تأسَّست على اعتقادات المهاجرين بأنَّهم بلغوا أرض الميعاد والخلاص. تماماً كالإعتقاد اليهودي بفلسطين. تذهب الدراسة، إلى أنَّ فكرة أميركا هي “استبدال شعب بشعب وثقافة بثقافة” عبر الاجتياح المسلَّح وبمبررات “غير طبيعية” وهذه محور فكرة إسرائيل التاريخية. ذلك أنَّ عملية الإبادة التي تقتضيها مثل هذه الفكرة مقتبسة بالضرورة بشخصيات (أبطالها ( الإسرائيليون، الشعب المختار، العرق المتفوِّق) وضحاياها (الكنعانيون، الملعونون، المتوحشون، البرابرة) ومسرحها (أرض كنعان، إسرائيل) ومبرراتها (الحق السماوي أو الحضاري) وأهدافها (الإستيلاء على أرض الآخرين واقتلاعهم جسدياً وثقافياً) ـ من فكرة إسرائيل التاريخية[7].

لعل الاعتقاد بأنَّ هناك قَدَرَاً خاصاً بأميركا، وأنَّ الأميركيين هم الإسرائيليون الجدد و”الشعب المختار” الجديد يضرب جذوراً عميقة في الذاكرة الأميركية، وما يزال صداه يتردَّد في اللغة العلمانية الحديثة، أو ما صار يعرف بالدين المدني، إنَّه اعتقاد يتجلَّى في معظمم المناسبات الوطنية والدينية، وفي كلِّ خطابات التدشين التي يلقيها الرؤساء الأميركيون، ومفاده أنَّ ” إرادة الله ، والقدر، وحتمية التاريخ…الخ” اختارت الأمَّة الأميركية ( الأنكلوسكسونية المتفوِّقة ) وأعطتها دور المخلِّص (الذي يعني حق تقرير الحياة والموت والسعادة والشقاء لسكان المجاهل[8].

عقيدة “الاختيـار”!

الأمر الأشد إثارة للمفارقة هي أنَّ فكرة “الاختيار الإلهي” طالما كانت محرِّكاً لولبياً في التاريخ الأميركي. بل هي الأساس الميتافيزيقي لمعظم الممارسات العنصرية في التاريخ القديم والحديث. ولشد ما أشعلت النيران في الحماسات والمشاعر والبواريد، وفي القرى والمدن، ونشرت ركام الموتى في أكثر من أربعين دولة اجتاحتها أو قصفتها الولايات المتحدة، وعزَّزت القناعة بأنَّ لأميركا قدراً أعلى من كل أمم الأرض، وأنَّه مهما حلَّ بإسرائيل فوق أرض فلسطين، فإنَّ إسرائيل الأميركية تبقى القلعة المحصَّنة لإعادة بناء قيمها ومبادئها وأخلاقها. إنَّ يهود الروح الذين يمثلهم الأنكلوسكسون هم الذين يحملون رسالة “إسرائيل” التي تخلَّى عنها اليوم يهود اللحم والدم، وهم الذين أعطاهم الله العهد والوعد، وهم الذين ورثوا كل ما أعطاه الله تاريخياً ليهود اللحم والدم ومعظمهم من ألدّ أعداء السامية. لقد اختار الله يهود اللحم والدم مؤقَّتاً، وبشروط أخلفوها، ولكنَّه اختار الأمة الأميركية (الأنكلوسكسون) مؤبَّداً، لأنَّها تستأهل الاختيار، ولأنَّه وهبها كل ما يلزمها من قوة وثروة لأن تكون “شعب الله” و”فوق كل الشعوب”، إلى الأبد.

وتلاحظ القراءات المعاصرة أنَّه منذ الفترة الإستعمارية الأولى كان أطفال القديسين يتعلمون أنَّ مسيرة التاريخ التي ترعاها يد الله البريطاني ونعمته أعطتهم دوراً خلاصياً. وكانت هذه الافتراضات تقترن بإيمان قيامي مزدوج الهدف: تجميع يهود العالم في فلسطين للتعجيل بمجيء المسيح ، وتدمير قوى الشيطان التي كانت تتمثَّل يومئذٍ بالعثمانيين ، و الكاثوليك ، و الهنود الكنعانيين . وبالطبع فقد وجد بعض السياسيين الإنكليز في استعمار العالم الجديد فرصة لتحقيق ما عجزوا عن تحقيقه في وطنهم. وبذلك تأكَّد لهم أنَّ خروجهم من جزيرتهم يضاهي الخروج الأسطوري للعبرانيين من أرض مصر، ولم يساورهم الشك في أخلاقية استعمارهم وحقهم في إبادة الهنود ومقارنة ذلك كلّه باجتياح العبرانيين لأرض كنعان وتأييد السماء لإبادة أهلها . بالإضافة إلى ذلك فإنَّ أدب المستعمرين الأوائل كلّه يؤكِّد هذه القدرية التاريخية التي نالت ذروة إبداعها في سيرة وموعظة جون ونثروب، أول حاكم لمستعمرة ماساشوستس. أمّا السيرة فوضع لها مؤلِّفها كوتون ماذر عنوان:” نحميا الأميركي” تأسِّياً بنحميا الأسطوري الذي قاد الإسرائيليين في “عودتهم” من سبي بابل إلى أرضهم الموعودة، ونظَّم الكثير من موجات الهجرة من بابل إلى يهودا، ثم أشرف على انتشال أورشليم من أنقاضها وأعاد بناءها «مدينةً على جبل». وكانت الأجيال اللاّحقة قد صنَّفت هذا الحاكم مع يعقوب و موسى و داود، غير أنَّ اختيار نحميا، بطل إحياء إسرائيل، هو الذي طغى في النهاية. والواقع أنَّ كل سيرة نحميا الأميركي هي مثال على إصرار المستعمرين الإنكليز على التماهي بين تجربتهم في العالم الجديد وما يرويه العهد القديم. عن تجربة العبرانيين في العالم القديم، أو بتعبير صموئيل فيشر في “شهادة الحقيقة”: “لتكن إسرائيل… المرآة التي نرى وجوهنا فيها”. وأمّا الموعظة فهي تلك التي ألقاها ونثروب في الحُجَّاج على متن السفينة الأسطورية أربيلا، وأكَّد فيها على العهد الجديد بين الإسرائيليين الجدد وبين يهوه، وعلى الرسالة التي يحملونها إلى مجاهل أرض كنعان الجديدة:” إنَّنا سنجد رب إسرائيل بيننا عندما سيتمكَّن العشرة منّا من منازلة ألف من أعدائنا، وعندما سيعطينا مجده وأُبّهته، وعندما يتوجَّب علينا أن نجعل “نيو إنغلاند «مدينة على جبل». وهذا التعبير هو رمز لأورشليم ولصهيون أيضاً، ولا يزال يستخدم إلى الآن للدلالة على المعنى الإسرائيلي لأميركا. وقد درج آخر أربعة رؤساء على استخدام هذا الرمز في مناسبات مختلفة، وهم رونالد ريغان ، وجورج بوش الأب، وبيل كلينتون، وجورج بوش الإبن”. ولم يكن الآباء المؤسِّسون للدولة الأميركية مثل جيفرسون، وآدامس، وفرانكلين، وباين ـ أصحاب الإتجاه العقلاني والمذهب الطبيعي ـ بأقل حماسة للمعنى الإسرائيلي للأمّة الأميركية من الحجّاج والقدِّيسين و صموئيل لانغدون . ومعروف أنَّ فرانكلين وجفرسون كليهما أصرَّ على صورة “الخروج الإسرائيلي: من مصر إلى كنعان كمثل أعلى للنضال الأميركي من أجل الحرية[9].

هذه الأخلاق التي ضربت جذورها في عقيدة الاختيار وكراهية الكنعانيين، ورافقت بناء أميركا لحظة لحظة، وجبهة بعد جبهة، هي التي جعلت “الأميركيين يعتقدون اليوم، كما كان أجدادهم المستعمرون الأوائل يعتقدون قبلهم، بأنَّ لهم الحق المطلق في أن يقتحموا أي “غرب” في أي مكان من الأرض. إنَّ ميتافيزياء “اقتحام الغرب” التي نسفت نظام البوصلة، وأعدَّت العصر الذهبي لنظرية البريطاني مالتوس جعلت الغرب الأميركي في كلِّ الجهات، وفي كلِّ الأرحام. إنَّه “الغرب” اللاّنهائي، بل إنه اللاّمكان، كل مكان. لكن الأهم من هذا إنَّ هؤلاء “الآباء” لم يكتفوا بحمل العقيدة التوراتية على محمل التبشير وحسب. ذلك على أهمية هذا الجانب في توفير المناخ السايكوسوسيولوجي والروحي للمهاجرين. فلقد انبرت النخب المؤسِّسة إلى بث الروح التوراتية في الدستور الأميركي. واللاّفت للإهتمام هنا أنَّ وضع الدستور قد شجَّع على توثيق وتثبيت المعنى الإسرائيلي لأميركاـ كما كتب رئيس جامعة هارفرد صموئيل لانغدون (Samuel Langdon) في ملحمته الشهيرة “جمهورية الإسرائيليين: نبراس للولايات المتحدة. هذه “الملحمة” التي هي في الأصل خطبة ألقاها في المحكمة العليا ـ سوف لن يجد قارؤها لحظة شك في أنَّه يقرأ مقاطع من سفر الخروج أو التثنية. بل إنَّ لانغدون فعلاً يفتتح كلامه عن ولادة الدستور بهذا المقطع من سفر التثنية : “لقد علمتكم فرائض وأحكاماً كما أمرني الرَّب إلهي لكي تعملوا بها في الأرض التي أنتم داخلون إليها لتتملّكوها. فاحفظوا واعملوا، فتلك هي حكمتكم وفطنتكم في عيون الشعوب الذين سيسمعون عن هذه الفرائض ويقولون: ما أعظم هذا الشعب وما أحكمه وأفطنه!…”. الواقع ـ كما يلاحظ صاحب كتاب ” أميركا والإبادات الجماعية” إنَّ كل هذه الملحمة الرائعة إنَّما هي كناية شرح وتعليق وقياسات تمثيلية بين شريعة موسى والدستور الأميركي، وبين الإسرائيليين والأمة الإسرائيلية. فالدستور مناسبة للتأكيد على وجه الشبه بين ما نزل على موسى من “ألواح” وبين ما نزل على قلب واضعي الدستور. وهي مناسبة للتذكير بأنَّ إسرائيل القديمة والجديدة أمَّة مختارة، باركها الله قديماً بشريعة ليس لها مثيل، وجعلها “فوق كل الشعوب” نبراساً للعالم، ثم أكرمها حديثاً بدستور ليس له مثيل وجعلها “فوق كل الشعوب” مثالاً يُحتذى عبر كل العصور. فإذا تعلَّم الناس منهم طريقتهم في الحضارة رفعوا من شأنهم، وإذا استكبروا وأبوا جرّوا على أنفسهم الدمار والخراب (والأضرار الهامشية (…) كذلك(…) سوف يمضي لانغدون في المقايسة إلى الحد الذي يرى فيه أنَّ تأسيس مجلس الشيوخ ليس إلاَّ استمراراً لما فعله موسى عندما اشتكى إلى يهوه أنَّه لا يطيق الحكم وحيداً، فأمره باختيار سبعين من الحكماء والرتباء. ثم لم يجد لانغدون حرجاً من القول إن حكومة موسى كانت ” جمهورية ” وقائمة على المبادئ الجمهورية.، وإنَّ قبائل إسرائيل كانت تحكمها حكومات محلية لامركزية ولا تختلف عن الحكومة المحلية للولايات المتحدة[10].

الفيزيائية المقدسة عند المحافظين الجدد

وفقاً للايديولوجيا المؤسِّسة للسلوك الأميركي، لن يكون أمراً مفارقاً، أن يُرى إلى إسرائيل اليوم، كفيزياء أميركية مقدَّسة. ولئن كان المعنى الإسرائيلي لأميركا داخلاً في التاريخ السياسي الممتد منذ المهاجرين الأوائل، فهو يرقى إلى مراتبه القصوى لدى المحافظين الجدد في مستهل القرن الحادي والعشرين.

سوف يعلن أميركيون كثر، ومن بينهم المحرر السابق في صحيفة “وول ستريت جورنال “ماكس بوت” أنَّ العلاقة الحميمة مع إسرائيل تبقى العقيدة الأساسية للمحافظين الجدد، معتبراً أنَّ استراتيجية الأمن القومي لدى الرئيس جورج دبليو بوش تبدو وكأنها جاءت مباشرة من صفحات الـ (Commentary) توراة المحافظين الجدد. لكن ستانلي هوفمان الأستاذ في جامعة هارفرد والكاتب في “نيوريبابليك” يمضي إلى الكلام على أربعة مراكز قوة كلها تدعو إلى الحرب واستعمال القوة ضد من لا يوافق العقيدة السياسية والأمنية للولايات المتحدة. ويشير إلى أنَّ هؤلاء وخصوصاً أولئك الذين تحلَّقوا حول الرئيس، وأبرزهم ريتشارد بيرل و بول ولفوويتز و كونداليزا رايس ، و دونالد رامسفيلد ، و ديك تشيني ، وسواهم، ينظرون إلى السياسة الخارجية عبر عدسة مهيمنة واحدة: هل الأمر مناسب لإسرائيل أم لا؟ ومنذ نشأة إسرائيل في العام 1948 لم يكن لأصحاب هذا التفكير أن يشكِّلوا غالبية طاغية في الخارجية، ولكنهم اليوم في أفضل الأوضاع في البنتاغون عبر اشخاص مثل ولفوويتز و بيرل و دوغلاس فايث .

من هم هؤلاء “المحافظون الجدد” الذين بلغوا السلطة العليا في الولايات المتحدة ليبدأوا بإنجاز تلك المطابقة النادرة والاستثنائية بين أميركا وإسرائيل بوصفها معنى واحداً وجوهراً واحداً؟

يبيِّن الكاتب الأميركي باتريك بوكانان أنَّ الجيل الأول منهم ضمَّ الليبراليين السابقين، بالإضافة إلى الاشتراكيين و التروتسكيين ، وكذلك المجموعات الآتية من ثورة ماكغوفرن عبر نهاية مرحلة المحافظين، وانتقلت بعد مسار طويل إلى السلطة مع مجيء رونالد ريغان إلى البيت الأبيض في العام 1980. وفي هذا الموضوع يضيف بوكانان أنه سبق لكيفن فيلبس أن عُرِّف بـ”المحافظ الجديد” آنذاك وبأنَّه “محرر في مجلة أكثر مما هو عامل بناء”. أما اليوم فيمكن التعريف به بأنه من الأعضاء المقيمين في مؤسسات السياسة العامة مثل “مؤسسة المشاريع الأميركية” (AE) أو إحدى توابعها مثل “مركز سياسة الأمن”، أو “المؤسسة اليهودية لشؤون الأمن القومي” (JINSA). إنَّه باختصار من الأشخاص الذين يعملون عن كثب مع مجموعات وضع الأفكار والخطط.

لم يأتِ أحد، تقريباً، من هؤلاء من عالم الأعمال أو القوات المسلحة، وبعضهم القليل من أعضاء حملة “غولدوتر”. وهم يستشهدون عادة بأبطال من أمثال ودرو ولسون و هاري ترومان و مارتن لوثر كينغ ، فضلاً عن الشيوخ الديمقراطيين مثل هنري سكوب جاكسون وبات موينيهان وغيرهما. وهم جميعاً من أنصار سياسة التدخل في شؤون الدول الأخرى، وينظرون إلى عامل دعم إسرائيل على أنه عنصر بالغ الأهمية. ومن نجومهم في هذا المجال جين كيركباتريك ، بيل بينيت ، و مايكل نوفاك و جايمس.ك. ولسون . أما منشورات المحافظين الجدد فتشمل الـ”ويكلي ستاندرد”، والآنف ذكرها “كومنتاري”، والـ”نيويورك ريبابليك”، و”ناشونال ريفيو”، وكذلك صفحة المحرر في “وول ستريت جورنال”. وهي على قلّة عددها تبقى واسعة النفوذ عبر سيطرتها على مؤسسات المحافظين ومجلاتهم. فضلاً عن قوة الارتباط بالنقابات الصحافية ومراكز القوى[11].

المهم في الأمر لدى هؤلاء هو أنهم يجاهرون بفلسفتهم التوراتية وبضرورة صون ” المقدس الإسرائيلي ” أياً تكن تبعات التمرين على هذه الفلسفة . ولسوف يمضي عدد من رموز التيار الجديد والمحافظين إلى وضع إسرائيل في مقام يتجاوز كونها ” فيزياء سياسية أمنية ينبغي صون حياضها المقدس. بل إنَّ بعض رؤى هذه الرموز يبلغ درجة لافتة في شغفه بالكينونة الإسرائيلية إلى حد جعل الحروب مفتوحة وممتدة على العالمين العربي والإسلامي، وخصوصاً على البلاد المحيطة بها. ولو شئنا أن نعطي توصيفاً لهذا الشغف لقلنا إنّ أصحاب هذه الرؤية المؤثرة والحاسمة في السياسات الأميركية العليا، أرادوا لإسرائيل أن تؤلِّف نقطة جيو ـ استراتيجية شديدة الحساسية في الدائرة الكبرى للأمن القومي الأميركي. وثمة الكثير من الأمثلة الدالَّة على هذه الرؤية. ومن الشواهد المتأخرة أنه في العاشر من تموز/يوليو 2002 بادر ريتشارد بيرل الذي استقال من منصبه المهم في وزارة الدفاع في خلال الحرب على العراق، إلى دعوة أحد دعاة المعنى الإسرائيلي لأميركا المدعو لوران مورافيك لإلقاء محاضرة أمام “مجلس سياسة الدفاع” أثارت يومها روع هنري كيسينجر (تصوَّروا).. حين عمد المحاضر إلى نعت السعودية بأنها جوهر الشر والمحرك الأول له، وأكثر الأعداء خطراً.. واعتبر مورافيك أنَّ على واشنطن توجيه إنذار للسعودية بموجب “محاكمة الضالعين في الإرهاب أو عزلهم، بمن فيهم رجال المخابرات السعوديين”، مع إنهاء كل الحملات ضد إسرائيل، وإلاَّ فإننا سنغزو بلادكم ونصادر حقول نفطكم ونحتلّ مكّة. وفي ختام محاضرته قدَّم مورافيك تصوّره لـ”الاستراتيجية الكبرى في الشرق الأوسط”. وجاءت حصيلته مطالعته العصماء بهذه المعادلة: العراق محور تكتيكي، والسعودية محور استراتيجي ، ومصر هي الجائزة. ولكن التسريبات عن هذا التقرير لم تشر إلى أنَّ أيّاً من الحاضرين طرح السؤال عن ردَّة فعل المسلمين إذا دخلت الجيوش الأميركية إلى الأراضي المقدَّسة. ولعل ماتريده النزعة الاسرائيلية لدى المحافظين الجدد ـ على ما يلاحظ باتريك بوكانان في كثير من المرارة ـ هو تجنيد الدم الأميركي لجعل العالم أكثر أماناً بالنسبة لإسرائيل. إنَّهم يريدون فرض سلام السيف على المسلمين، وأن يموت الجنود الأميركيون في أثناء ذلك إذا لزم الأمر[12].

حمايـة مملكـة يهودا 

في العام 1996 سيخطو التيار المتصهين في الفكر السياسي الأميركي خطوة استثنائية. فقد أعدت مؤسسة الدراسات الاستراتيجية والسياسية المتقدمة الأميركية تقريراً بعنوان:” استراتيجيا جديدة لإسرائيل في العام «2000» وتنبثق الأفكار الأساسية للتقرير من نقاش شارك فيه صانعو رأي بارزون، بمن فيهم ريتشارد بيرل ، و جايمس كولبرت ، و تشارلز فيربانكس ، و دوغلاس فايث ، و روبرت لوينبرغ ، ديفيد ورهسر وغيرهم. المهم أنَّ المهندس الأساسي للتقرير هو ريتشارد بيرل ، مساعد السيناتور سكوب جونسون في ذلك الوقت، علماً أنَّ هذا الأخير كان في العام 1970 خضع لاستجواب حول تسريب أشرطة تحمل معلومات سرية إلى السفارة الإسرائيلية في واشنطن. وفي العام 1974 كتب ستيفن د.اسحق في “السياسات اليهودية والأميركية” أنَّ ” بيرل و موريس زميتاي يقودان جيشاً صغيراً من أنصار السامية في كابيتول هيل، ومهمتهم توظيف القوى اليهودية وتوجيهها لتحقيق المصالح اليهودية. وفي العام 1983 شاع في الصحف والأوساط الإعلامية الأميركية أن بيرل نال مبلغاً كبيراً من مصنع سلاح إسرائيلي.

وتحت عنوان “انطلاقة نظيفة: استراتيجية جديدة لتأمين المملكة” قُدِّم التقرير المشار إليه إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك بنيامين نتنياهو . وفيما يحثّ هؤلاء “نتنياهو” على دفن اتفاقيات أوسلو التي كان أنجزها زعيم “العمل” الراحل اسحق رابين ، بهدف اعتماد استراتيجية جديدة أكثر شراسة: “تستطيع إسرائيل تشكيل محيطها الاستراتيجي، بالتعاون مع تركيا والأردن، عبر إضعاف سوريا واحتوائها، أو حتى دحرها. ويمكن تركيز الجهد على إطاحة صدام حسين في العراق. وهو هدف استراتيجي بالنسبة لإسرائيل وذلك من أجل إحباط الطموح السوري في المنطقة. وفي كل الأحوال تبقى سوريا في استراتيجية بيرل ورفاقه هي العدو بالنسبة لإسرائيل، ولكن طريق دمشق تمر في بغداد. وإذا كانت الخطة تشجع إسرائيل على اعتماد “مبدأ الاستباق”، فإنَّ المبدأ عينه بات الآن مفروضاً على الولايات المتحدة بواسطة المجموعة عينها. وفي العام 1997 قال بيرل في ورقة وضعها تحت عنوان “استراتيجية من أجل إسرائيل” إنَّ على تل أبيب إعادة احتلال” المناطق الخاضعة للسلطة الفلسطينية.. حتى لو جاء الثمن بالدم مرتفعاً”. من جانبه وضع ورمسر خطط حرب مشتركة لإسرائيل والولايات المتحدة “لتوجيه ضربة حاسمة إلى مراكز الأصولية في الشرق الأوسط. ويجب على إسرائيل والولايات المتحدة التوسُّع في الضربة بما يتجاوز مجرد نزع السلاح إلى القضاء الكلي على مراكز الأصولية في أنظمة دمشق وبغداد وطرابلس وطهران وغزة. وسيكون من شأن ذلك تكوين قناعة شاملة بأنَّ محاربة الولايات المتحدة أو إسرائيل هو انتحار”. وهو دعا البلدين إلى الانتباه للأزمات معتبراً أنَّها “قد تكون فرصاً”. وقد نشر ورمسر خططه المذكورة في أول كانون الثاني/يناير من العام 2001، أي قبل تسعة أشهر من الـ11 من أيلول/سبتمبر 2001.

ولقد كان للكاتب مايكل ليند أن يتحدث عن عصبة بيرل ، فايث ، و رمسر بقوله:” إنَّ اليمين الصهيوني الذي ينتمي إليه بيرل وفايث وعلى الرغم من قلَّته العددية، فإنَّه يتمتع بنفوذ كبير في دوائر صنع القرار مع الجمهوريين. إنها ظاهرة تعود إلى السبعينات والثمانينات حين عمد عدد من المفكِّرين اليهود الديمقراطيين إلى الالتحاق بتحالف ريغان. وإذا كان العديد من هؤلاء الصقور يتحدثون علناً عن حملات صليبية من أجل الديمقراطية ، فإنَّ الهمّ الأساسي لدى عدد من المحافظين الجدد هو السلطة وسمعة إسرائيل”[13].

لاهوت التماهي بـ “الهولوكوست”

هنالك زاوية في الأصل المشترك الأميركي – الإسرائيلي على جانب وازن من الأهمية، وهي تتصل بتماهي أميركا بالمحرقة. في هذا الصدد يمضي الباحث الفرنسي اليهودي جان مارك درايفوس في ما يشبه الاستطلاع السوسيو-ثقافي لأثر الهولوكوست في الشعور الأميركي، وتداعيات هذا الشعور في السلوك الإجمالي للنخب الحاكمة. وهو يرى وجوب إعطاء موقع متقدم للهوس الأميركي بالخير والشر حيث يتم النظر من خلال هذه الثنائية إلى حركة التاريخ نفسه. وحيث تحل هذه الرؤية أحياناً محل دراسة الماضي بشكل منهجي إلى درجة تتعارض فيها مع المقاربة التاريخية. فالمحرقة تمثل الشر المطلق، وعلى ذلك يصبح التثقيف بذكراها، البديل الزمني لرؤية دينية يمكن أخذ عناصرها من مجمل مكوِّنات المجتمع الأميركي، وليس فقط من قبل عنصره البروتستانتي التقليدي. يضيف درايفوس:

“وإذا ما دفعنا خطوة أخرى إلى الأمام بفكرة أولوية ثنائية الخير والشر ، يصبح بإمكاننا طرح فَرَضيَّة جديدة، قوامها أن ذكرى المحرقة من شأنها أن تكون استبدالاً بسيطاً يغذيه شعور مكبوت بالذنب إزاء إبادة الهنود الحمر. فبما أن أميركا لم تتوصل إلى تحمل التبعات المباشرة لتاريخها الخاص ولخطيئتها الأصلية الخاصة، فإنها تفعل ذلك بواسطة إبادة أخرى لم تجر على أرضها. وبالمناسبة فإن بناء متحف للأميركيين الأصليين أيضاً، أي الهنود، فوق ساحة “مول”، سيعرض ثقافة سكان البلاد الأصليين لا كيفية إبادتهم، للإضاءة على هذا الجانب من السيكولوجيا الجمعية التي يمثلها الافتتان بالشر المتجسد بالفعل، أي بالكارثة وتطبيقه لـ “مصلحة” ” المحرقة “. ويشير درايفوس إلى الخطاب الديني التنبؤي الذي يكتسب موقعاً متزايد الأهمية منذ السبعينيات. وهو الخطاب الذي يظهر بقوة في أجهزة التلفزة حول أخبار الأعاصير، والكوارث الطبيعية المحدقة، والتي تصوّر أميركا وكأنها تمكث كل لحظة من عمرها على شفا هاوية مدمّرة”[14].

ويبدو أن نشاط السينما الأميركية يتركّز بشكل متزايد الإيقاع منذ حوالي ثلاثين عاماً حول موضوع الكارثة النهائية. أما نجاح الأفلام الكارثية التي تظهر كل شهر، ولا تختلف فيما بينها إلا من حيث درجة التقانة في المؤثِّرات الخاصة وتنويعات أشكال الدمار، فهو من الأمور التي يمكن دحضها. وكذلك الأمر بالنسبة للنتائج: مدينة تختفي من الوجود وينعدم فيها كل حضور بشري. كوارث الشاشة صارت عملة رائجة، وهذا السيناريو عن الدمار يعج بعناصر النوع الكارثي. أما أفلام الخيال العلمي والأفلام البوليسية والأفلام الحربية فتعرض فيضاً كاسحاً من أشكال العنف وحروب المدن على خلفية من الأبنية المدمرة والصروح المهمَّشة. ويكاد فيلم ” يوم الاستقلال ” (1996) يكون إعادة لهذا الاتجاه، حيث يمكن للمشاهد أن يرى بفرح سادي كل صروح الديمقراطية الأميركية وهي تنفجر الواحد بعد الآخر بفعل أسلحة الدمار الشامل المنطلقة من أحد الصحون الطائرة. وحده النصب التذكاري الخاص بالمحرقة هو ما أبقى عليه كاتب السيناريو والقادمون من الكواكب البعيدة. ومنذ فيلم “أسنان البحر” (1975) – هنالك مسلسل ضخم جيد الإخراج من الفئة “ب” لستيفن سبيلرغ، تحول منذ ظهوره إلى فيلم معبود يُعاد عرضه باستمرار على شاشات التلفزة؛ وتمكن قراءته ليس فقط كحرب بين الخير والشر، بل أيضاً كقصة حول سفينة يتم تدميرها بكل عناية(…) هنالك إذن، في الوعي الأميركي المعاصر هوس حول الدمار الشامل الذي قد يجعل أميركا أمة تسبح في أجواء الكارثة. ولا يقتصر الأمر على الخوف من الحرب، أو من الإرهاب ، أو من العنف المديني، أو انهيار المجتمع، بل يتعدى ذلك إلى تصور يقضي بأن النهاية أمر ممكن في أية لحظة. فأميركا، البلد البروتستانتي منذ حقبة طويلة، أدمنت قراءة “سفر الرؤيا”، على خلاف البلدان الكاثوليكية. وهي تواصل الاستماع إلى المتنبئين، والوعَّاظ الكثر. وهم يبشِّرون بنزول الروح على جماهير المؤمنين المحتشدين في غمرة الانجذاب داخل الملاعب الرياضية. وكثيرة هي شاشات التلفزة المتخصصة بالوعظ المتواصل، وهي تقوم بتأبيد تراث الوعَّاظ الأوائل . حتى القنوات الكاثوليكية راحت تبتعد عن الخطاب الأوروبي، وتعطي الأولوية لمسألة الخير والشر والعقاب الذي ينتظر الخاطئين. وربما يكون انتحاريو “القاعدة” قد فهموا الأمر عندما قاموا بتدميربرج التجارة العالمي. وخلافاً لما كان قد قيل وكتب في أوروبا، فإن الأميركيين لم يروا اللاَّمفكر فيه ماثلاً أمام أعينهم، بل رأوا تحقق ما كانوا يخشونه أكثر من غيره. وعلى هذا النحو من التوصيف الدرامي للثقافة الأميركية المعاصرة، تُستعاد المحرقة ضمن التصورات الموغلة في القدم. وتقدم واقعاً تاريخياً ينسجم انسجاماً كاملاً مع هذه الترسيمة. ويشكل تدمير يهود أوروبا دليلاً ظاهراً على المخاوف الأميركية حيث أنه العنصر الواقعي الذي يغذي رؤية الخطر غير المعقول والمطلق والموشك على التحقيق. على ذلك، تدخل الحكايات عن المحرقة ، وعمليات إحياء ذكراها في علاقة مع تصورات لا علاقة لها بها. يمكننا أن نتساءل عن السبب في كون هذا التدمير بالذات هو الذي حاز على كل هذه الأهمية في حياة الولايات المتحدة بدلاً، على سبيل المثال، من القنابل الذرية الأميركية التي ألقيت على هيروشيما وناغازاكي، او من عمليات الإبادة في كمبوديا؟ لقد كان المطلوب من أجل ذلك وجود عنصر إضافي هو تماهي الأميركيين باليهود. والواقع أن ذلك لم يكن البديهي والسبب هو، وجود تراث أميركي معاد للسامية ومتجذراً ومتجدّر جداً حتى فترة قريبة من الزمن. فمن هامشيين في المجتمع، تحول اليهود إلى أبرز الممثلين المرموقين لهذا المجتمع. والحقيقة إنهم يشكلون نموذجاً لا يعلى عليه في مجتمع يريد لنفسه أن يكون منفتحاً، ويعطي الأولوية للنجاحات الفردية عن طريق التجارة والصناعة والمال والتعليم. فالثروة المكتسبة والانتماء التاريخي إلى السلالة والمواريث لم تعد تشكل جزءاً من الوعي الأميركي (حتى وإن كانت لا تزال موجودة على نطاق واسع بالطبع). و اليهود الذين ينظر إليهم جميعاً بوصفهم أناساً يصنعون أنفسهم بأنفسهم، ويصلون بأعداد كبيرة إلى كراسي الأستاذية في الجامعات، وإلى إدارات المصارف، ولوائح كبار الأغنياء في أميركا، باتوا يشكلون القدوة التي يجب أن تحتذى، الأمر الذي يعني انقلاباً غريباً بالفعل[15].

«أسطرة» البدايات الأولى

هنالك بالتأكيد تراث طويل من التماهي و التمثُّل الميتافيزيقي ، بين قصة بناء أميركا، وبين عبور الصحراء وتأسيس المملكة اليهودية . وهنا أيضاً لا ينبغي التقليل من أهمية حضور التوراة، خصوصاً وأن الولايات المتحدة قد عرفت، منذ ثلاثين عاماًُ، صحوة دينية مذهلة بالفعل، وهي في ذروة النزعة الدينية الزمنية التي تفوق بكثير مثيلتها الأوروبية. وليس الرجوع إلى التوراة بالأمر الجديد في القصة الـتأسيسية لأميركا. فالمستعمرون الأوائل تمكنوا، وإن بعد الوهلة الأولى في الألب، من التماهي بالعبرانيين في الصحراء وبوصولهم إلى أرض الميعاد . وهنالك الكثير من التيارات الدينية المسيحية التي تقوم مجدداً بإعادة تمثيل المشاهد الأصلية بالتوازي مع الاضطهاد الذي تتعرض له البلاد. وقد قامت طائفتاً ” المورمون ” و” الآميش ” مثلاً بكتابة قصص مماثلة تتحدث عن طريق الظلمة إلى النور. وتجدر الإضافة هنا، أن هذه التيارات من الأقليات التي اضطُهِدَت في التاريخ الأميركي، ومن المهمَّشين قد أصبحت هي الأخرى، في الآونة الأخيرة، نماذج مرغوبة في صورة أميركا عن نفسها. ولعبت السينما أيضاً، كما ذكرنا، دور البطل في توصيل أصداء هذا التحول، حتى وإن كانت القصص الحالية عن “المورمون” و”الآميش” قد اختلفت عما كانت عليه في السابق لتصبح قصصاً تعيد تمثيل دور الجماعة العضوية الأصلية، البسيطة والريفية، والمتضامنة التي لا تطاولها شرور المدينة كالفقر والمخدرات والعنف. بل أكثر من كل ذلك، فثمة ظاهرة في أميركا تتمثل بتكريس عادة لكتابة قصة أسطورية تأسيسية للولايات المتحدة. وهي قصة الأقليات المضطهدة التي تحافظ على بقائها وتهرب من أرض العنف (أوروبا) وتصل إلى بر الأمان حيث تحظى بالإعتراف بها وتحقق الإزدهار لنفسها. إن ملحمة “مايفلاور” مثلاً وبالشكل الذي ما زالت تروى به، يمكن أن تُلحَظ في القصص السائدة حول المحرقة: أسرة يهودية مجتمعة، مثال للأسرة المزدهرة، ألمانية أو بولونية في أغلب الأحيان، تسقط عليها الكارثة النازية . بعض أفرادها يتمكنون من النجاة حيث يحررهم الجنود الأميركيون، ثم يهاجرون إلى أميركا. وهناك يندمجون وبعضهم يتمكن من تجميع ثروة كبيرة، ثم يتجذرون ويعيدون رواية تجربتهم القصوى. في قارة الشر، أي أوروبا التي تلعب دور الرحم السلبي نفسه الذي لعبته مصر في التراث اليهودي . أما الخطاب الرسمي الأميركي حول المحرقة فإنه لا يركز، خلافاً لما هي عليه المنظمات اليهودية، على تبرير وجود دولة إسرائيل. فمتحف المحرقة التذكاري في واشنطن ومتحف “يادفاشيم” في القدس يتم النظر إليهما كمؤسستين متنافستين. وعلى أية حال فإننا إذا ما تتَّبعنا خيط التماهي التوراتي، فإن القصة السائدة حول المحرقة في الحياة العامة الأميركية يكون حملها الناجون الذين تمكَّنوا من الوصول إلى أرض الميعاد الأميركية. ولا يتطابق مصطلح الناجين، كما هو مفهوم اليوم في أميركا الشمالية، مع المصطلح المستخدم في أوروبا، وخصوصاً في فرنسا. فمصطلح الناجين من المحرقة يستخدم في أوروبا للدلالة على الناجين من معسكرات الاعتقال. أما في الولايات المتحدة، فإن المفهوم يكتسب معنى أكثر اتساعاً وعمقاً، حيث يصبح الناجون هم جميع اليهود الذين كانوا يعيشون في أوروبا في العام 1933 والذين لم يتعرضوا للقتل. وعلى ذلك، يشتمل المفهوم على اليهود الذين هاجروا، أو الذين عاشوا بعد ذلك في الخفاء ثم وجدوا أمكنة يلتجئون إليها. ومنها سويسرا، او الذين نجوا من القتل، ومن أشكال سياسات التعامل مع الألمان كالعديد من اليهود الذين يحملون الجنسية الفرنسية. لذا فإن عددهم يكون أكبر بكثير من عدد أولئك الذين كان ينطبق عليهم المفهوم بمداولة الأوروبي لدرجة أن اليهود البريطانيين أمكنهم، خلال فترة من الزمن، أن يأخذوا لأنفسهم صفة الناجين: لو تمكن الألمان من كسب معركة بريطانيا واجتياز بحر المانش، لكان بإمكان اليهود البريطانيين أن يكونوا في عداد ضحايا المحرقة. واللاّفت على نحو جليِّ أنه من بين جميع العذابات، تحتل المحرقة مكان الصدارة لتصبح مرجعية إجبارية، ومقياساً عالمياً لأن الفرق بين الضحايا والضحايا الآخرين هو فرق في الدرجة لا في الطبيعة. ولذا فإن الاعتراف بقيمة العذاب الداخلي هو من الأمور البارزة في الحياة الأميركية كعنصر من عناصر الهوية. ويحصل هذا الاعتراف منذ اللحظة التي يظهر فيها العذاب وخصوصاً عندما يفضي إلى قضية نضالية أو مطلب. والشاهد على ذلك هو مئات الألوف من الدعاوى والمحاكمات التي تجري سنوياً حول موضوع الاعتداءات الجنسية حيث يسمح النظام القضائي الأميركي بطرح الموضوع بطريقة يتمكن معها الضحايا من تجاوز المشكلة. ولكن التركيز الكبير على المحرقة في أميركا والتكرار الآلي للذكرى في كل مناسبة بدأ يدفع بالمسألة نحو الابتذال.

عقدة الإحساس بالذنب

العنصر الأخير الذي يفسر الاهتمام الأميركي بالمحرقة هو الشعور بالذنب ، ليس فقط لأن الجيش الأميركي لم يستجب للدعوات اليهودية لقصف معتقل أوشفيتز، بل أيضاً لأن الأميركيين رفضوا إفساح المجال لهجرة الألمان إلى الولايات المتحدة في أواخر الثلاثينيات، وخصوصاً مع فشل مباحثات إفيان عام 1938 حول هذا الموضوع. ومع هذا تظل المحرقة رافعة لإعادة تأسيس الهوية للقوة الأكبر في العالم. وقد لوحظ، في الوقت الذي تطرح فيه حالياً موضوعات الأمبراطورية والتدخلات العسكرية الأميركية ضد الشر المطلق المتمثل أي ما يسمى بـ ” الإرهاب الإسلامي “، أنه في ذكرى الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، تم اعتماد الطريقة المعتمدة من قبل المنظمات اليهودية في قراءة أسماء الضحايا. ولا بد من القول بأن المجتمع الأميركي يُسقِطُ على المحرقة كثيراً من صراعاته الداخلية وتناقضاته. فالحديث عن المحرقة يعني أيضاً، بالنسبة إلى أميركا، الابتعاد عن أوروبا، والتحرر منها، مع خروج العالم من الحرب الباردة[16].

وعلى الرغم من غلبة هذا التيار وسيادته على مركز القرار فإن من الخبراء الأميركيين من راح يطلق صرخته من سوء العاقبة المنتظرة بسبب من العمى الايديولوجي الذي يسيطر على السياسات الأميركية في الشرق الأوسط والعالم. دعونا نقرأ أخيراً ما ختم به باتريك بوكانان مقالته المستفيضة حول الوقائع الدراماتيكية التي جعلت الإدارة الأميركية في عهد بوش الإبن تؤول من آخرها إلى الزاوية اليهودية الحادة: إنَّ الرئيس بوش تحت الإنذار: فإذا مارس الضغط على إسرائيل لمبادلة الأرض بالسلام، وهي معادلة أوسلو التي وضعها أبوه واسحق رابين، فسوف يُتَّهم بمعاداة السامية، كما كانت حال أبيه، كما باتّباع أسلوب ميونيخ، وذلك من قِبَل الإسرائيليين ومعهم المحافظون الجدد الذين يقيمون داخل خيمته”. وإذا لم يتخلَّ بوش عن إسرائيل فلن يكون هناك سلام. ومن دون سلام في الشرق الأوسط لن نحصل على أمننا أبداً لأنَّ الإرهاب لن ينتهي. ويضيف: “إنَّ أي دبلوماسي أو صحافي يزور الشرق الأوسط سوف يربط فشل أميركا في تطبيق السياسة المعتدلة بفشلها في لجم شارون ، وفشلنا في إدانة استخدام إسرائيل العنف المفرط، وتآمرنا الخلقي مع إسرائيل في سلب أراضي الفلسطينيين وحرمانهم حقهم في تقرير المصير، الأمر الذي سيكون من شأنه تعزيز العداء للأميركيين في العالم الإسلامي الذي ينمو فيه الإرهاب والإرهابيون. ثم يخلص بو كانان إلى استنتاج مؤدَّاه ان الإسرائيليين هم أصدقاء أميركا ولهم الحق في السلام والحدود الآمنة، وعلينا مساعدتهم في تحقيق ذلك. نحن كأمّة لدينا التزام خلقي دَعَمَهُ أكثر من ستة رؤساء ويدعمه الأميركيون، وهو عدم ترك هذا الشعب، الذي طالما عانى الكثير، ويتعرض لرؤية بلاده تُدمَّر، وسوف نفي بالتزامنا. لكن المصالح الإسرائيلية والأميركية ليست شيئاً واحداً، فقد خدعت إسرائيل أميركا مرَّات عديدة على امتداد نصف قرن. أبرزها ما قام به عملاء الموساد في الخمسينات حين فجّروا منشآت أميركية لجعل الأمر يبدو من فعل المصريين. ومنها في مرحلة متأخرة عندما كُلِّف جوناثان بولارد بسرقة أسرارنا النووية. ثم يصل بوكانان إلى أنَّه على الرغم من أننا كررنا مراراً تقدير الكثير مما حققه هذا الرئيس، فإنه لن يستحق إعادة انتخابه إذا لم يتخلَّص من عبء المحافظين الجدد، وبرنامجهم المتضمن لحروب لا تنتهي على العالم الإسلامي ، وهو الأمر الذي لا يخدم إلاَّ مصالح دولة هي غير الدولة التي كان انتُخب للحفاظ على مصالحها[17].

ومهما يكن من أمر، لم يكن ابتعاث “العصب الإسرائيلي” لأميركا في زمن المحافظين الجدد، إلاَّ لتأكيد الميتافيزيقا التاريخية التي رست عليها المقولة الأميركية. وهذا “العصب” الذي يمنح لأميركا معناها الإسرائيلي، هو عصبٌ مربوط بحبل وثيق إلى سلسلة غير متناهية من المفاهيم التي تؤول على الإجمال إلى إعادة إنتاج عقيدة الفرادة، أو ما يرسِّخ خرافة النوع الأميركي النادر.

شَبَهٌ تكويني تُظِهرُهُ ايديولوجيا الإقصاء 

ظلت العلاقات الأميركية. “الإسرائيلية” طيلة الأحقاب المنصرمة على شيء من الإبهام بالنسبة للعرب. وهذه سمة زامنت مراحل مختلفة من تاريخ الصراع العربي الصهيوني. وغالب الظن الا يأتي يومٌ تنقشع الرؤية فيه، ويزول الإبهام، او تصير واضحة القواعد التي يمكن بواسطتها فقه قواعد الثابت والمتحول في تلك العلاقات. ولقد بدا التفكير العربي في الأعم الأغلب مضطرباً في مقابل المشهد الذي تنتظم فيه العلاقة بين الولايات المتحدة الأميركية و “إسرائيل”. أما مرد هذا الاضطراب فإلى أسباب كثيرة، بعضها تاريخي وبعضها راهن، ويتصل بأحوال وظروف الصراع العربي. “الإسرائيلي” وديناميات السلام السياسي التي تعيش إخفاقاتها المديدة منذ حرب العام 1967.

في الأحوال جميعها، كانت الأسباب الكامنة وراء اضطراب الفهم العربي للعلاقة الأميركية – الإسرائيلية كثيرة. منها المقاربة الواهمة للقواعد التي حكمتها مع ما ترتّب عليها من صوغ خاطئ لاتجاهات العمل السياسي التكتيكي والاستراتيجي في العلاقات الدولية. ومنها أيضا غياب استراتيجية عربية موحّدة في مواجهة الحلف الأميركي-الإسرائيلي، مع ما حمله هذا الغياب من عوامل تفتيت وتصدع للتضامن العربي، وأثر ذلك في اختلال نسبة القوى بين العرب وإسرائيل.

هنالك بالطبع، طائفة من الأسباب الإضافية. وهي قد تبرز من حين لآخر، لتحايث التفاصيل اليومية للأحداث. إلا إنها في أي حال، تأتي لتؤكد فرادة العلاقة الأميركية-الإسرائيلية ورسوّها منذ البدء على خصوصية قد لا نجد ما يماثلها في العلاقات الدولية.

المسافة والوهم

لما كان فهم العلاقات الأميركية-الإسرائيلية على هذا النحو من الاضطراب، فإن جلاء بعض الحقائق التكوينية لتلك العلاقات أمرٌ في غاية الأهمية. انه من وجه يعيِّن قواعد جديدة للفهم فيما يعبر العالم عقوده الأولى في رحاب الألف الثالث، ومن وجه آخر سيساعد جلاء تلك الحقائق في صوغ استراتيجيات العمل العربية على الصعيد السياسي والدبلوماسي، ناهيك عن الأمن القومي، وموقع هذا الأمن في النظامين الإقليمي والدولي.

لقد كان الرأي السائد لدى الخبراء هو أن العلاقات التي تربط الولايات المتحدة بإسرائيل هي أواصر يمكن وصفها بالخاصة والمتميزة. إن كثافة المبادلات بين البلدين سواء على الصعيد الحكومي أو على الصعيد المجتمعي واتساع مدى التعاون وحميميته أو الدعم الأميركي لإسرائيل بمختلف أشكاله اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً ودبلوماسياً وكلامياً… إنما يُظهر وجود روابط خاصة وصلبة، بل روابط وصلات لا تتزعزع. والطريقة التي تدار بها الصعوبات والعقبات التي تنشأ بين الحين والآخر، والمزيج من المبالغة والإنكار للخلافات التي تحدث أحياناً، والقلق، الذي طالما جرى الإعراب عنه من تردِّي العلاقات بين البلدين، يفضي إلى بيان الطابع الفريد الذي تتحلى به الأواصر التي تربطهما. لكن إذا كان في الإمكان الإحاطة بتجليات هذه الأواصر وتوصيفها، وإن بصعوبة، فإن طبيعتها العميقة وديناميتها أي الأساس الذي تتأسس عليه، أمور تبقى أعصى على الإيضاح والإبانة.

بهذا التوصيف سعى الباحث العربي المتخصص في الشؤون الأميركية كميل منصور إلى أن يبيّن الجانب العسير في فهم الطبائع التي تحكم العلاقة بين واشنطن وتل أبيب. فهو يبدو كما لو انه يقر بوجود مسافة بين دولتين. المسافة التي تفترضها طبيعة وخصوصية كل دولة وظروفها، وعلاقاتها، وشروط تكونها، فضلاً عن الظروف الجيو-سياسية والاستراتيجية المحيطة بها… بينما يشير قي مقابل هذا إلى وجود وهم ناتج عن المسافة عينها. وهو وهم يتأتى من سؤ تقدير للمسافة التي تفصل بين الدولتين. “فالإسرائيليون” يرون إلى الطريقة التي تدرك أميركا بها هذه العلاقات، هي مسألة حاسمة بالنسبة إليهم، ذلك لأنها تتعلق برفاههم وبمصيرهم. أما بالنسبة إلى الدول والمجتمعات العربية، أو حتى بالنسبة إلى دائرة أوسع من الدول، فإن العلاقات الأميركية، الإسرائيلية تشكل عاملاً رئيساً في تحديد وضعها، وحجمها، وقوامها، ومستقبلها. مرجع الأمر هو، أن ثمة نزاعاً يُعاش كنزاع وجود، بين إسرائيل وجيرانها . يستثير هذا النزاع تدخل القوى الخارجية، بدرجات مختلفة، إلى جانب أحد الطرفين في منطقة مهمة استراتيجياً. لذا فإننا لو تدبّرنا النزاع العربي-الإسرائيلي ، أي لو نظرنا اليه في بعده التاريخي، او العسكري، او السياسي، أو الدبلوماسي، او الاقتصادي، او النفساني، أو حتى السكاني، فسوف يبدو وزن العلاقات الأميركية- الإسرائيلية المتميزة مهماً دائماً، إن لم نقل حاسماً. وتبدو الأواصر بين الطرفين الأميركي والإسرائيلي متميزة إلى حد يجعل بالإمكان القول إن الولايات المتحدة هي نفسها طرف ضالع، وعلى أكثر من صعيد في النزاع العربي-الإسرائيلي. وصفة الطرف الضالع مباشرة في النزاع هذه، هي صفة لا يمكن أن تنسب بالقدر نفسه من الاطمئنان إلى القوى الخارجية المعتبرة معنيّة بهذا النزاع، مثل الاتحاد السوفياتي في حينه أو مثل بعض دول أوروبا الغربية[18].

في المذهب الاستراتيجي الأميركي

يستهل كميل منصور دراسته عن الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل[19] بتحديد منزلة إسرائيل في المذهب الاستراتيجي الأميركي. غير ان المؤلف سيبيّن لنا الصعوبات المنهجية لما أراد ان يحدد هذا المذهب. وهو يمضي في هذا الإطار ليُعيِّن ثلاث صعوبات:

أولاً: إذا كان مصطلح “مذهب” كما يعرفه الفيلسوف الغربي لالاند (Lalande) هو “جسم من الافكار وظيفته توجيه العمل، وهو كخطاب يهدف إلى التماسك المنطقي”، فإن هذا لا يتوافر في الولايات المتحدة. ليس هناك خطاب رسمي واحد بل جملة خطابات متحاذية، وذلك بالنظر إلى تعاقبهم وتناوبهم في الزمن، ناهيك عن مسألة تكيّف الخطاب وفق التغيرات الظرفية. فأية تصريحات اذن، هي الأدنى إعراباً عن المذهب موضوع الدرس؟ وما هي المعايير التي تسمح بانتقائها وتحديدها؟

ثانياً: يمكن أن يكون ثمة هوّة، يزيد عمقها أو ينقص، بين الخطاب الرسمي والسياسية الفعلية، وذلك إما لأن هذه الأخيرة سياسة يصعب شرعنتها من وجهة نظر القيم والقواعد المعترف بها، وإما لاعتبارات وأسباب تكتيكية. إذ غالباً ما يكون شاغل المقرّر، حين يدلي بتصريحاته، أن يعطي صورة مجمَّلة أو مشوّهة عن ممارسته، وأن يوفق كلامياً بين شؤون يصعب التوفيق بينها في الواقع. ومن شأن هذا الأمر أن يفضي بالباحث،من بين أمور أخرى، إلى الشك في توصيف الخطاب موضوع التحليل: أهو تعبير عن مذهب يوجِّه الفعل السياسي حقاً، أم إنه مجرد تلبيس وتبرير عقلي، ووسيلة تسمح بتسويغ هذا الفعل لاحقاً؟..

ثالثاً: إن كثرة المقررين “الأميركيين” وتناوبهم، والهوة التي يمكن ان تفصل خطابهم ومقالاتهم عن سياساتهم الفعلية، والتناقضات المحتملة في هذه الأخيرة ولجوءهم إلى السبل والذرائع التبريرية: كل ذلك يؤثر حكماً وضرورة، وبصورة سلبية في تماسك ذلك الخطاب (…). توحي هذه الصعوبات التي يوردها الباحثون في مصطلح ” المذهب “، بأنه لا يمكن العثور بصورة مسبقة على مذهب رسمي أميركي متكوّن وجاهز حيال اسرائيل. بالتالي فلن يكون بالإمكان جمع مجموعة متماسكة ومقنعة من التصريحات الأميركية المأذون لها يمكن تقديمها كمذهب استراتيجي ملهم للقرارات الأميركية المتعلقة “بإسرائيل”. لكن هل هذا يعني أن مثل هذا المذهب غير موجود؟ يسأل منصور ويجيب على الفور بـ “لا”. وحجّته في ذلك ان المذهب الاستراتيجي ينبغي استقراؤه من الممارسة الأميركية لا من التصريحات الرسمية. وعلى هذا، فإن على الباحث ان يستخرجه من الممارسة او ان يوضحه ويفسره. وهذا المذهب المستقرأ هو الذي يفترض به انه يملي السلوكات الإجمالية وفاقاً لفرضية العقلانية الاداتية الذرائعية (Insrumental Rationality) . واستناداً إلى مقومات هذا المذهب، يصبح واجباً معاينة هذه الوضعية بدقة، والنظر فيما إذا كان مذهباً كهذا يمكن له أن يحكم السياسة الأميركية إزاء “إسرائيل” وبالتالي يتفق او لا يتفق، بالكامل أو بصورة جزئية مع الخطاب الرسمي أو المقالات الرسمية العديدة. وهو أي هذا ” المُضْمَر المذهبي ” ليس جامداً بل هو يتطور بحسب الحقب أو يواكب تعرجات القرارات السياسية، وتحولاتها عبر الزمن وبحسب الظروف.

ماذا يقول هذا المذهب المُضمر، وما هي العناصر التي يجب توافرها لاستخراجه من الممارسة الأميركية العملية؟

في ما يتعلق بالعناصر فمن البديهي ان يكون على الباحث في سعيه من اجل استخراج هذا المذهب ان يتابع تطورات العمل السياسي (…) فالاستقراء لا يكون من الفراغ. وهو يتطلب توافر حد أدنى من المفاهيم. وهذه العملية يمكن إيجادها في المذاهب الخاصة، لا في المذاهب العمومية والرسمية، وفي “مرافعات” الكتاب والمؤلفين غير الهامشيين، أي ذوي الصفات التمثيلية التي يتوجهون بها إلى المقرر الأميركي للتأثير في قراراته المتعلقة بالمنزلة الاستراتيجية التي ينبغي إسنادها إلى “إسرائيل”.

أما ما يتعلق بفرضية العقلانية الاداتية الذرائعية التي تؤلف غطاء المذهب الاستراتيجي الأميركي المضمر تجاه “إسرائيل”، فإنها تقوم على فكرة كون “إسرائيل” رصيداً استراتيجيا للولايات المتحدة الأميركية.

في، مقالة تحمل توقيع رونالد ريغان الذي كان يستعد لتقديم ترشيحه لرئاسة الولايات المتحدة سوف نجد تكثيفاً لفكرة الرصيد الاستراتيجي على الشكل التالي:

“أن مركزنا سيكون اضعف من دون الرصيدين السياسي والعسكري اللذين توفرهما “إسرائيل”.. فسقوط إيران زاد في قيمة “إسرائيل” بما هي ربما الرصيد الاستراتيجي الوحيد الذي بقي في المنطقة، او الذي تستطيع الولايات المتحدة الاعتماد عليه لاحقاً… “فإسرائيل” تمثل الإرادة الديمقراطية ، والتماسك القومي، والقدرة التكنولوجية، والعصب العسكري لتظل في الطليعة حليفاً يتمتع بثقة أميركا[20].. لا شك ان ما يعبر عنه ريغان ، الذي أصبح فيما بعد رئيساً لأميركا على مدى ولايتين متعاقبتين، يمس قطاعاً وازناً في سلطة القرار في الولايات المتحدة، إلا انه لا يعكس سلطة أصحاب القرار بأجمعهم. وذلك فإن عدداً من الكتاب والمؤلفين راحوا يطرحون ما يخالف فكرة ونظرية الرصيد الاستراتيجي ، ويطرحون في المقابل فكرة العبء الاستراتيجي .

حتى ان عدداً آخر من الباحثين طرحوا أسئلة كثيرة حول علاقات التعاون أو التحالف بين دولتين متفاوتتي القدرة: لماذا تساعد قوة عظمى عالمية دولة اضعف منها أو دولة طرفية ؟ هل ثمة ربح يعوض من تكلفة هذه المعونة؟ هل يشتمل دعم القوة العظمى للدولة الصغرى على مخاطر أمنية عالمية أو إقليمية؟ من هو المستفيد الأكبر من هذه العلاقة؟ وهل هذه العلاقة هي وسيلة تضبط القوة العظمى بها الدولة التابعة لها؟ وهل وجود هذه العلاقة يزيد أو ينقص من هامش مناورة أحداهما إزاء الأخرى، وكذلك إزاء الأطراف الثالثة؟ ان هذه الأسئلة ستشكل موضوع البحث الطويل الذي يقدمه لنا كميل منصور مستفيداً من عدد لا حصر له من الوثائق والتصريحات والمستندات والوقائع. سوى ان السؤال الذي يبقى مطلاً على ميدان البحث من أوله وحتى نهايته، هو الذي يثير علامات الاستفهام والريبة حول الحقيقة المستورة للعلاقة الأميركية-الإسرائيلية. ووصله ذلك بالسياسات العربية العليا وبالأمن القومي العربي في مداه الاستراتيجي.

تكافؤ عوامل الارتباط

ليس ثمة من العوامل ما يُرجَّح على الآخر في ما يتصل بقواعد العلاقة بين “إسرائيل” وأميركا. هنالك على الأغلب ضرب من تكافؤ في عوامل الارتباط التي تبسط العلاقة وتقيمها على النحو الذي نراه على امتداد القيامة الاسرائيلية الاستيطانية في فلسطين. فلا العلاقة الأخلاقية القيمية وحدها تكفي لتحقيق العروة الوثقى بين الطرفين، ولا علاقة المنفعة والمصالح والأدوار الموكلة “لإسرائيل” في المنطقة وحدها أيضاً، ولا كذلك العلاقة الاستراتيجية الاداتية القائمة على الفلسفة البراغماتية للولايات المتحدة. إن هذه العلاقات جميعاً تتضافر كلها في ما بينها لتؤلف الصيغة الفريدة والمميزة في علاقة “إسرائيل” بأميركا.

وفي هذا المجال يمكن القول إن المرجعية الايديولوجية -الثقافية التي تتلاقى ضمن لاهوت الغَلَبَة هي الرحم التي تتحدد الاستراتيجية فيها. وخصوصاً حين تكون المصلحة المرتبطة بها ارتباطاً عقلانياً غير يقينية. ثم إن المصلحة لا تتقدم على المرجعية الايديولوجية الثقافية إلا في أقصى الحالات،أي، إلا إذا كانت عظمى وتقنية. كما يمكن القول انه ما عنى السياسة الأميركية إزاء “إسرائيل” فإن المرجعية الايديولوجية و مرجعية المنفعة تسيران إجمالا في الاتجاه نفسه. إلا أن كلاً منهما يفرض على الآخر حدوداً لا يستطيع تجاوزها. وفي الإمكان القول إنه بمقدار ما يظل التفوق الإقليمي “الإسرائيلي” قائماً، فإن الأداتية والتماهي الثقافي سيعزز كل منهما الآخر إجمالاً، وفقاً لأرجح الاحتمالات. ولهذا، فإن القراءة الأداتية والقراءة الايديولوجية الثقافية تظلان ممكنتين، الأمر الذي يجعل من العسير على المراقب أن يحدد طبيعة العلاقة المميزة القائمة بين البلدين. وإذا كان كميل منصور قد ذهب على ما يصرح إلى أن المرجعية الثقافية هي الرحم التي تتحدد فيها السياسية الأميركية يفترض بالمقابل أن تنشأ اعتبارات تضطر أميركا معها إلى تولي المصلحة “الإسرائيلية” مباشرة ومن دون الرجوع إلى حساب الأمن “الإسرائيلي” الداخل، الأمر الذي حصل في أثناء حرب الخليج الثانية حيث حجبت الولايات المتحدة عن “إسرائيل” فرصة القيام بالدفاع عن أمنها الذاتي لان الاستراتيجية الأميركية العليا آنذاك اقتضت مثل هذا الحجب[21].

في رؤية العرب

من أبرز النقاط موضوع التساؤل في فضاء العلاقة الأميركية- الإسرائيلية هي رؤية العرب الاستراتيجية للمسافات الطفيفة ضمن حقل الأولويات الأميركية الكبرى. فإن كان الطابع المتميز للعلاقات بين أميركا وإسرائيل هو طابع الثبات والدوام، فمن العبث الإعتقاد ان في وسع العرب تحويل هذه العلاقات تحويلاً نوعياً في مستقبل منظور. فهم لا يستطيعون التأثير في وضع الولايات المتحدة كقوة عظمى، ولا في التماهي الايديولوجي -الثقافي الأميركي- الإسرائيلي إلا بصورة هامشية جداً.

فالعرب في ما عنى النقطة الأولى هم أنفسهم احد الموضوعات التي يمارس عليها، أو بالأحرى يمارس ضدها دور الولايات المتحدة العالمي (…) أما في معنى النقطة الثانية، أي نقطة التماهي الأميركي-الإسرائيلي فإن العرب لن يستطيعوا مهما فعلوا ان يغيروا كينونتهم” فيصبحوا “غربيين” ويحلُّوا محل “إسرائيل” في المرجعية الثقافية – الايديولوجية، أو على الأقل احتلال المرتبة ذاتها التي تحتلها إسرائيل في هذه الحقبة. غير أن الكلام على الاستحالة في هاتين النقطتين لا يلغي احتمالات العمل العربي على استراتيجيات يستطيع في خلالها هذا العمل التدخل والتأثير في مناطق الفراغ التي تعتور العلاقة الأميركية-الإسرائيلية. ولعل ابرز مناطق الفراغ هذه هي تلك التي سنجدها على صعيد مرجعية المنفعة في الشرق الأوسط. غير انه ليس من شأن هذا التأثير أن يضع الطابع المميز لتلك العلاقة موضع تساؤل، بل انه يقتصر على زيادة أو نقصان تكلفة الإباحة الأميركية لمساحة المناورة الإقليمية الإسرائيلية.

يبدو عموماً ان هذا الحكم يظل صحيحاً ما دام التوصل إلى سلام عربي – إسرائيلي نهائي لم يتم. ومكتوب عليه بالتالي ان يمكث إلى اجل مفتوح في فضاء الاستحالة. وينبغي اعتبار عملية المفاوضات التي بدأت في مدريد في خريف سنة 1991، ما لم تفض إلى سلام شامل، احد أشكال النزاع الإسرائيلي العربي واحد مسارحه، اي المسرح الذي تجري على خشبته التجاذبات التقليدية بين العرب والأميركيين والإسرائيليين على خلفية دائمة من العلاقات المتميزة الأميركية-الإسرائيلية.

توراتية “الانجيليين الجدد”

مع صعود البيئة المحافظية الجديدة ، استهلت الولايات المتحدة طوراً جديداً في العلاقة بإسرائيل ولهذه العلاقة تاريخ طويل. ذلك ان الصهيونية البروتستانتية الأميركية هي بالتأكيد أقدم من نموذج اليهودية الحديثة، وقد ضغط الإنجيليون منذ القرن التاسع عشر على المسؤولين الأميركيين لإقامة ملجأ في الأراضي المقدسة لإيواء المضطهدين اليهود من أوروبا والامبراطورية العثمانية.

وتنظر الإنجيلية الدينية في الولايات المتحدة بشكل مميز وفريد إلى دور الشعب اليهودي في العالم الحديث. فمن ناحية، يتبنى الإنجيليون النظرة المسيحية الواسعة الانتشار القائلة بأن المسيحيين هم الوارثون للوعود التي قطعها الله للعبرانيين القدامى. لكن على عكس العديد من المسيحيين الآخرين فإن الإنجيليين يؤمنون بأنه ما زال للشعب اليهودي دور في خطة الله . وقد ظهرت في القرنين السابع عشر والثامن عشر، دراسات معمقة للنبوءات الواردة في الكتاب المقدس أقنعت المفكرين الإنجيليين كما المؤمنين، بأن اليهود سوف يعودون إلى الأراضي المقدسة قبل العودة المظفرة للمسيح. إضافة إلى ذلك، يعتقد الإنجيليون، بأن الفوضى القائمة قبل عودة المسيح سوف تدفع بالعديد من اليهود الى اعتناق المسيحية، إلا انه حتى ذلك الوقت فإن معظم اليهود سوف يستمرون على رفضهم للمسيح. وعلى ما يلاحظ كثيرون من الباحثين فإن هذا الإعتقاد سوف يخفف بشكل ملموس من الاحتقان والتوتر المفترض بين اليهود والإنجيليين، لاسيما و أن الإنجيليين لا يتوقعون كما توقع مارتن لوثر، بأنه حين يتم عرض الإيمان الحقيقي فإن اليهود سوف يتحولون بأعداد كبيرة. إن الغضب الذي أحس به مارتن لوثر عندما لم تتحقق توقعاته دفعه الى ان يكون أقرب إلى معاداة السامية من ناحيته، وهذا ما لن يحدث من جانب الإنجيليين. بالنسبة لهؤلاء، فإن حقيقة نجاة الشعب اليهودي واستمراره على مدى آلاف السنين، وعودتهم إلى أراضيهم القديمة المقدسة، هو برهان على حقيقة وجود الله. وان الإنجيل هو الملهم، وان الدين المسيحي هو الدين الحق . ويؤمن العديد من الإنجيليين بأن الوعود الواردة في سفر التكوين لا تزال قائمة، وان رب إبراهيم سيبارك الولايات المتحدة اذا ما باركت الولايات المتحدة اسرائيل، وهم يرون في ضعف وهزائم وفقر العالم العربي دليلاً واضحاً على اللعنة التي انزلها الله بأولئك الذين يلعنون اسرائيل. وهكذا تترسخ القناعات لدى اللّاهوت السياسي الأميركي الجديد، إلى درجة أن انتقاد إسرائيل، وانتقاد الولايات المتحدة لدعمها إسرائيل لا يحرك ساكناً لدى الإنجيليين، بل يعزز من قناعتهم، التي ترى ان العالم الذي يكره إسرائيل، إنما مَثَلَه كمثل الرجل المنحل الأخلاق المنحط الذي يكره الله وشعبه المختار. ويشعر الإنجيليون أنهم بوقوفهم الى جانب إسرائيل إنما يقفون إلى جانب الله، وهو أمر هم على استعداد للقيام به ولو واجهوا العالم كله. لذا كتب (جون هاغي) راعي الأبرشية الإنجيلية في سان انطونيو، بولاية تكساس، قائلاً: إذا تحركت إيران لضرب دولة إسرائيل، فإن على الأميركيين أن يكونوا على استعداد لوقف مسار هذا العدو الشيطاني ملاحظاً أن سياسة الله تجاه الشعب اليهودي نجدها في سفر التكوين 12:3. ثم إن عودة اليهود إلى الأراضي المقدسة، والانتصارات المهمة على الجيوش العربية التي تفوقهم عدداً، إضافة إلى ازدياد موجة الحقد والتهديد ضد اليهود في إسرائيل وسائر أنحاء العالم، لم يقوِّ التزام الإنجيليين نحو اسرائيل فحسب، بل ساهم أيضا بتقوية موقف التيار الإنجيلي ودوره في الحياة الأميركية. ومع تركيز سياسة الولايات المتحدة حالياً على موضوع التصدي للهجمات الإرهابية، ومع تلويح أعداء المسيحية باستخدام أسلحة الدمار الشامل مدفوعين بعدائهم لإسرائيل، فقد تعززت ادعاءات الإنجيليين الدينية[22].

أما عن المسيحيين الليبراليين في الولايات المتحدة فإنهم مثل العلمانيين الليبراليين، اذ طالما كانوا تقليدياً من الداعمين للصهيونية، ولكن من وجهة نظر مختلفة. بالنسبة للمسيحيين الليبراليين، اليهود هم شعب كأي شعب آخر، لذا فقد دعم الليبراليون الصهيونية بنفس الطريقة والتوجه التي دعموا فيها حركات التحرر الوطنية الأخرى. وفي العقود الأخيرة، وعلى القاعدة والتوجه إياهما، ازداد تعاطف المسيحيين الليبراليين مع الحركة الوطنية الفلسطينية . في عام 2004، قامت الكنيسة المشيخية ، بتمرير قرار يدعو الى الحد من التعامل وبشكل محدود مع الشركات التي تتعامل مع إسرائيل، وقد ألغي هذا القرار عام 2006 بعد مواجهة مريرة. وتبين إحدى الدراسات ان 37% من المواقف التي أصدرها التيار الرئيسي للكنائس البروتستانتية حول انتهاكات حقوق الإنسان بين عامي 2000 – 2004 ركزت بشكل خاص على إسرائيل، بحيث لم تتعرض أية دولة أخرى لهذا الكم من الانتقادات.

وحدة النشأة والمآل

مهما كانت بعض المواقف والاجتهادات والتيارات الأميركية الدينية وغير الدينية ذات طابع انتقادي حيال إسرائيل، فذلك لن يؤثر في الواقع، على جوهرية النشأة الإسرائيلية التوراتية للأطروحة الأميركية.

لقد تلبست ” فكرة إسرائيل ” جوهر ” فكرة أميركا ” وصاغت شكلها. ولقد بات من المسلمات أن الأمة الأميركية هي أقرب إلى الإسرائيليين الأوائل من أي شعب آخر على وجه الأرض.

وبما أنه ليس هناك من شعب يعطي بلاده وحريته للغزاة الغرباء تطوعاً، فقد كان لا بد لفكرة إسرائيل وفكرة أميركا من تقديس طقس العنف الذي استلهم أخلاقه من منبع واحد. إن كل بلاغة العنف الأميركية كانت ولا تزال تستمد استعاراتها من أدبيات “فكرة إسرائيل وقصصها المقدسة وأنماط سلوك أبطالها[23]. فحين ألقى كوتون ماذر (وهو من أبرز أنبياء أميركا الإسرائيلية) خطبة الحرب أمام الكتيبة المتوجهة لغزو الهنود عام 1689، كانت استعاراته تنفخ الحياة في أساطير العبرانيين وتلح على المعنى الإسرائيلي لأميركا. فالجنود المتوجهون لغزو الهنود هم (على الحقيقة ولا لزوم لأدوات التشبيه) “بنو إسرائيل في مواجهة العماليق” (…)، “وما على بني إسرائيل الجدد إلاّ أن ينقضّوا على أعدائهم بالطريقة التي انقض بها العبرانيون على أعدائهم العماليق: فليُسحقوا كغبار تذروه الريح، وليُكنِّسوا مثل الوسخ في الشوارع إلى أن يبادوا فلا يبقى منهم أثراً”. لقد تبنت “فكرة أميركا” في حرب إبادة الهنود أخلاق العنف التي تحلت بها ” فكرة إسرائيل ” التاريخية تلميحاً وتصريحاً. إن البعد المقدس في هذا العنف هو الذي جعله مثالاً يحتذى لقتل الهنود وإخضاعهم وسلبهم أرض آبائهم وأجدادهم. فالهنود، كما يروي رولاند بينتون Roland H. Bainton يستحقون القتل والإبادة، تارة لأنهم عماليق، أو عمونيون، أو كنعانيون أوصت السماء بقتلهم، أو تشتيت شملهم حتى يتم أمر الله بتأسيس إسرائيل الجديدة، وتارة لأن إبادة الرجال والنساء والأطفال وقتل المواشي، وتدمير المدن، وتقويض المعالم الثقافية، لازم للحفاظ على نقاء شعب الله. ثم إن بينتون، وهو أحد أبرز مؤرخي الأديان المعاصرين، يرى أن الصليبيين في القرون الوسطى لفقُّوا مثل هذه الأعذار لتجميع صفوفهم وتعبئة حملاتهم، وأن الإنكليز قبل كوتون ماذر وبعده برَّروا بها حروبهم واستعذبوها لأنها تسامت بجرائم قتل الهنود ونهبهم، وإبادتهم إلى مرتبة العبادة، بل لربما – كما يقول بيتر كريجي (Peter Craigie) جعلت من إبادة الشعوب وتدمير المدن نذراً مقدسة.

وهكذا فإن فكرة إسرائيل قدمت للشعب الإنكليزي المختار كل المنظومة الأخلاقية التي يحتاج إليها لاجتياح “مجاهل” الشمال الأميركي وإفراغها من أهلها (…) ” حق الحرب ” (Right of war) مثلاً، الذي سنّه المستعمرون في العام 1610، وسوَّغوا لأنفسهم اجتياح مجاهل “العالم الجديد”، يتماهى إلى حد بعيد مع عقيدة الحرب الاستباقية التي أخذت بها إدارة المحافظين مع بداية الألف الثالث الميلادي[24].

ثمة إذاً، امتداد ميتافيزيقي عبر الزمن بين الفكرتين الأميركية والإسرائيلية. ولكن يمكن القول أن كلتا الفكرتين تنطلقان من لاهوت الاختيار الالهي لكل منهما، ومن حتمية المصير الانتصاري الذي ينتظرهما في نهاية التاريخ أو نهاية الزمان .

 

[1] – بنيامين نتنياهو، مكان تحت الشمس، ترجمة دار الجليل، الأردن، عمان 1995، ص 359.

[2] – غسان غصن، الخطر الأميركي الأشد، تسييس الدين أم تديين السياسة،مجلة “شؤون الأوسط، بيروت العدد.

[3]– محمود حيدر، يهودية الحقيقة والتوظيف، مجلة “مدارات غربية” العدد الخامس، كانون الثاني/فبراير 2005.

[4]– اسحق دويتشر، اليهودي اللاَّيهودي، ترجمة ماهر كيالي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1971، ص 65.

 

[5] – منير العكش ، تلمود العم سام، الاساطير العبريّة التي تأسست عليها اميركا، دار رياض الريس للكتب والنشر، بيروت 2004، ص 30.

 

[6] – منير العكش ، أميركا والإبادات الجماعية، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت 2003، ص 123 – 124. و ص 130.

[7] – منير العكش – المصدر نفسه – ص 124.

[8] –  Patrick Bucanan the American conservative March 24. 2003.

[9] – منير العكش أميركا والإبادات الجماعية، المصدر السابق ص 126.

[10] – المصدر نفسه.

[11] – باتريك بوكانان ، برنامج المحافظين الجدد، “المستقبل” البيروتية، الجمعة 11 نيسان/ابريل 2003.

[12] – باتريك بوكانان – المصدر نفسه.

[13] – المصدر نفسه.

[14] – جان مارك درايفوس، كيف تماهت اميركا بالمحرقة، ترجمة د. عقيل الشيخ حسين ، مجلة “مدارات غربية” العدد الخامس، كانون الثاني/يناير-شباط/فبراير 2005.

[15] Jean – Marc Dreyfus- comment L’Amérique: S’est identifieé à la shoah, Le Débat, Mai-Aout 2004.

 

[16] – المصدر نفسه.

[17] – باتريك بوكانان، مصدر سبقت الإشارة إليه.

[18] – محمود حيدر ، المسكوت عنه في علاقة أميركا بإسرائيل، مجلة الشاهد العدد 191، 192، تموز/يوليو ـ آب/أغسطس 2001.

[19] – كميل منصور، الولايات المتحدة واسرائيل، (العروة الوثقى)، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، لندن 1996، (المقدمة).

[20] – جريدة “واشنطن بوست”، 15 آب/أغسطس 1979.

[21] – كميل منصور – المصدر نفسه – انظر المقدمة (ص 16).

[22] – كميل منصور – المصدر نفسه، (ص 20).

[23] – وولتر راسل ميد ، أميركا دولة الله ، فورين أفيرز، أيلول/سبتمبر-تشرين الأول/أوكتوبر 2006.، العنوان الأصلي U.S God’s Country.

[24] – منير العكش – تلمود العم سام -مصدر سبقت الاشارة إليه(ص 211).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى