“فلسفة الفلسفة” للفيلسوف الإسلامي يد الله يزدان بناه
“فلسفة الفلسفة” للفيلسوف الإسلامي يد الله يزدان بناه
إبداع مفاهيم جديدة للميتافيزيقا الإسلاميَّة
عبد الكريم المنصوري
(باحث في الفلسفة)
مقدِّمة:
إذا كان من أطروحة تستحقُّ العناية في حقل الفلسفة المعاصرة، فهي تكمن على غالب التقدير في تفكيك وإعادة تأصيل ماهيَّة الفلسفة نفسها. وليس من شكٍّ في أنَّ أطروحة كهذه تنطوي على مخاطرة معرفيَّة، لأنَّها تفترض وجود مشكلة تكوينيَّة في عالم التفلسُف. ولذا لا ينبغي أن يُنظر إليها كما لو أنَّها دعوة إلى استعادة جدل قديم حول تعريف الفلسفة اصطلاحًا ومفهومًا وهوّيَّة، في حين أنَّ الأمر يتعدَّى ذلك ليطرق بابًا مستحدثًا يفتح على أفق جديد في الفضاء الفلسفيِّ عمومًا، وفي التجربة الفلسفيَّة الإسلاميَّة على وجه الخصوص.
ما يستدعي هذه الإشارة الاستهلاليَّة هو الكتاب الذي صدر حديثًا تحت عنوان: “تأمُّلات في فلسفة الفلسفة الإسلاميَّة” للفيلسوف والمفكِّر الإسلاميِّ يد الله يزدان بناه. وفيه يذهب المؤلِّف إلى آفاق غير مألوفة في القول الفلسفيِّ وعلم الوجود، ذلك بأنَّه لم يكتف بمراجعة ونقد الفلسفة الأولى كما قرَّرها الإغريق، وإنما قطع شوطًا بعيدًا في تعميق الرؤية الأنطولوجيَّة الإسلاميَّة انطلاقًا من تأسيساته الفريدة في حقل الميتافيزيقا والعرفان النظريّ.
حيال هذا الكتاب، نجدنا بإزاء منجز معرفيٍّ مُفارِق في المدوَّنات الفلسفيَّة التي درج عليها الفلاسفة والباحثون في خلال الحقبة المعاصرة. ويمكن القول أنَّ ما قدَّمه الفيلسوف يزدان بناه في عمله المشار إليه، يدخل ضمن مسعى استراتيجيٍّ لتجديد الميتافيزيقا الإسلاميَّة بمبانيها ومرتكزاتها ومناهجها في فهم الوجود، وتحديدًا لجهة علاقة الله بالعالم. ولعلَّ ما أشارت إليه مقدِّمة الدكتور محمد الربيعي يشكِّل إضاءة إجماليَّة على المنطقة المعرفيَّة المفارقة التي ذهب إليها المؤلِّف في الحديث عمَّا يسمّيه بـ “فلسفة الفلسفة”. فهو يبيِّن أنَّ الفلسفة المضافة عمومًا، أو فلسفة الفلسفة الإسلاميَّة كعلم خاصٍّ على وجه التحديد، هي من الأبحاث المستحدَثة في الأوساط الفكريَّة الإسلاميَّة. ففلسفة الفلسفة لا تقلُّ أهميَّة عن الفلسفة نفسها، إذا لم نقُل إنَّها تفوقها من بعض الجوانب،ـ إذ لولاها – كما يقول – لما كان لعلم الفلسفة من وجود (ص 15).
الفلسفة أمام السؤال عن ماهيَّتها:
قد تكون الفرضيَّة الأولى التي تتناهى إلى الباحث المتخصِّص وهو يطالع مضمون هذا العمل، هي وجود معضلة منهجيَّة واجهت الفلسفة عمومًا والفلسفة الإسلاميَّة خصوصًا في تناولها لمقولة الوجود. وسيظهر له (أي للباحث المتخصِّص) كيف أنَّ المؤلِّف يبتني على هذه المعضلة المفترضة تصوُّرات مبتكرة تشكِّل في مجموعها مقدِّمة لميتافيزيقا جديدة. وهذا ما يبدو بوضوح من خلال ما أوردته المقدِّمة من عناصر إبداعيَّة في حقل التجديد الفلسفيّ. وفي ما يلي نشير إلى أبرزها:
أوَّلًا: تحليل شروط الاعتقاد المطابق للواقع وأركانه، وإضافة ما استخرجه من كلام ابن سينا في هذا الصدد.
ثانيًا: ابتكار اصطلاحات جديدة لم تعهدها الفلسفة من قبل مثل: مصطلح “الشهود العقليّ”.
ثالثًا: إضافة نظريَّة الشهود كأساس في بنية الفلسفة ونظريَّتها المعرفيَّة.
رابعًا: تحليل كيفيَّة إدراك العقل – وهو في موطن الحسّ – لحقائق الموجودات من خلال ما يعبِّر عنه المؤلِّف بـ “الشهود العقليِّ” كمصطلح جديد في حقل الميتافيزيقا.
خامسًا: بيان الفوائد التي يقدِّمها الشهود العقليُّ للفلسفة، والتي منها كيفيَّة اعتبار المدركات الشهوديَّة ولوازمها البيِّنة، وإمكان استحصال القضايا البديهيَّة من الشهود.
سادسًا: بيان فعاليَّات العقل النظريِّ والعقل الجدليِّ عبر تفكيك وظائفه وتشريحها واحدة تلو الأخرى مع ما يستتبع ذلك من نقد بعض المذاهب الفلسفيَّة الغربيَّة.
سابعًا: تبيين أنَّ ما يدركه العارف بالكشف القلبيِّ هو أمرٌ برهانيّ. أي أنَّه أمرٌ يقينيٌّ ضروريّ. فالشهود القلبيُّ يستوي على سياق واحد وتكامُليٍّ مع البرهان العقليّ.
ثامنًا: الشهود والشهود القلبيُّ يمدُّ الفلسفة بما يعين الفيلسوف على التعقُّل وتحليل المسائل الفلسفيَّة وإثباتها.
تاسعًا: تحليل كيفيَّة استفادة الفلسفة من الدين والنصوص الدينيَّة وجعلها حدًّا أوسط في البراهين العقليَّة المستخدَمة في العلم العقليّ.
عاشرًا: تحليل كيفيَّة توظيف المشاهدات والمكاشفات العرفانيَّة والاستفادة منها في المجال الفلسفيِّ والعقليّ.
حادي عشر: ملاحظاته النقديَّة على بعض مباحث الحكمة المتعالية، مثل مبحث المعاد الجسمانيّ، ومبحث شعور الموجودات.
ثاني عشر: تحليل دور العقل في فهم النصِّ الدينيِّ، وقد أقام هذا الدور على منازل متعدِّدة هي: العقل الفاهم- العقل المبنائيّ- العقل المنَّظم – العقل المُثبت- إلخ…
مقاصد المؤلِّف من “فلسفة الفلسفة”:
في سياق تبيين مقاصده من الكتاب يشير المؤلِّف إلى أنَّ الفلسفة الإسلاميَّة – وخصوصًا الحكمة المتعالية التي تعدُّ اليوم أهمَّ مدرسة في الفلسفة الإسلاميَّة – كانت نشأت وتطوَّرت مرتكزة على أرضيَّة عقلانيَّة خاصَّة، إلَّا أنَّها كانت تختزن مادَّة خصبة من الاهتمامات والموارد المنهجيَّة والمعرفيَّة الخاصَّة بها. وهذا ما سيتولَّى تأصيله من خلال درايته العميقة بفلسفة ملَّا صدرا ومبانيها المفارقة للكثير ممَّا دأبت عليه الفلسفة الإسلاميَّة الكلاسيكيَّة.
ولعلَّ أبرز الأبحاث المنهجيَّة والمعرفيَّة المبتكرة لفلسفة الفلسفة الإسلاميَّة والتي تحظى بأهميَّة فريدة، هي – كما يعرضها المؤلِّف – على الوجه التالي:
- معيار البداهة التصوُّريَّة في المفاهيم البديهيَّة.
2- عناصر المعرفة اليقينيَّة عند ابن سينا والمحقِّق الطوسي.
3- نوع البرهان المستخدم في الفلسفة.
4- أنواع فعاليَّات العقل النظريّ.
5- الشهود العقليُّ كأساس للفلسفة.
6- المنهج الإشراقيُّ كمنهج خاصٍّ للحكمة المتعالية.
7- الاستعانة بالدين والعرفان النظريِّ في الفلسفة كمنهج عامٍّ (مع التركيز على منهج الحكمة المتعالية الصدرائيَّة).
وهناك بعض الأبحاث يمكن دراستها ضمن مسائل فلسفة الفلسفة؛ لأنَّها تعدُّ من أبحاثها وهمومها الأساسيَّة ذلك رغم ضرورة طرحها ضمن أبحاث نظريَّة المعرفة بمعناها الدقيق. فكما أنَّ البحث في حقيقة التجربة ومدى كشفها عن الواقع يعتبر من مسائل نظريَّة المعرفة، إلَّا أنَّه لا بدَّ من التعرُّض له في “فلسفة الفيزياء” أو “فلسفة العلم” أيضًا، وبالتالي لا يمكن غضُّ النظر عنه في فلسفة العلم التجريبيّ (ص 33).
وممَّا ينبغي ذكره في هذا المجال، هو أنَّ علم المعرفة- أي: نظريَّة المعرفة – اليوم هو علم يبحث في قسم التصديقات فحسب، والحقيقة أنَّه لا بدَّ لعلم المعرفة من أن يبحث في التصوُّرات والمفاهيم البديهيَّة التصوُّريَّة كذلك، ومن ثمَّ عدم الاقتصار على البحث التصديقيّ. وعليه، فإنَّ من الواجب إدخال مثل هذه الأبحاث إلى علم المعرفة بمعناه الدقيق. كما أنَّه لا غنى لفلسفة الفلسفة عن تعريف أصل علم الفلسفة، ويُشار عادة في هذا التعريف إلى “المعرفة العقليَّة البرهانيَّة للوجود”، مثلما يُشار في بحث المنهج الفلسفيِّ إلى البرهان والمنهج العقليّ.
ومن الواضح – حسب المؤلِّف – أن تقصِّي هذه الأمور في فلسفة الفلسفة الإسلاميَّة لن يكون متيسّرًا من دون البحث في اليقين وعناصر المعرفة اليقينيَّة، وذلك أنَّ البحث في عناصر المعرفة اليقينيَّة والتصديقات “النفس أمريَّة” يدخل في علم المعرفة الإلهيَّة اليقينيَّة. ولما كان لماهيَّة المعرفة اليقينيَّة وعناصرها ارتباطًا وثيقًا بتعريف الفلسفة، فلا بدَّ حينئذٍ من إدراج هذا البحث أيضًا في هذه الفلسفة المُضافة [أي: فلسفة الفلسفة] وخصوصًا في فلسفة الفلسفة الإسلاميَّة؛ ولذا فقد وقعت هاتان المسألتان – أي: معيار البداهة التصوُّريَّة، وعناصر المعرفة اليقينيَّة – في بداية أبحاث هذا الكتاب من التأمُّلات(ص 34).
احتياج الفلسفة إلى الإلهيَّات والعرفان:
حول أسباب الإفادة من الدين والعرفان في الفلسفة وضروراتها يرى العلَّامة يزدان بناه أنَّ الفيلسوف المسلم- وللوصول إلى فلسفة حقيقيَّة وناضجة- يجد نفسه مضطرًّا للإستفادة من المصادر المعرفيَّة للدين والعرفان. ومن البيِّن أنَّه يقبل هذه المسألة على أساس مبانيه الفلسفيَّة ويعمل طبقًا لها. ومن أجل بيان هذا الفرضيَّة يورد أربع ملاحظات تبيِّن بوضوح ضرورة الاستفادة من الدين والعرفان في الفلسفة:
الأولى: أنَّ الفلسفة الإسلاميَّة متوازية في أفقها مع الدين والعرفان، ممَّا يُثبت إمكان استفادة الفلسفة من هذين المصدرين للمعرفة.
الثانية والثالثة: أنَّ المعرفة الدينيَّة والمعرفة العرفانيَّة للوجود هما أعلى معرفة للوجود.
الرابعة: أنَّ الفعاليَّة العقليَّة تعاني من نواقص.
تبعًا لهذه الصلة الإيجابيَّة بين الفلسفة والدين في أفقه العرفانيِّ، يوضح المؤلِّف أنَّ نقطة الجاذبيَّة في الفلسفة الإسلاميَّة – منذ الفارابي وحتى الملَّا صدرا- هي فلسفة تتمحور حول الله سبحانه. وقد بلغت هذه الخصوصيَّة أوجَها في الحكمة الصدرائيَّة. بعبارة أخرى: لقد دخلت الفلسفة الإسلاميَّة إلى مجالات المعارف الدينيَّة والعرفانيَّة إلَّا أنَّ الأمر ليس كذلك في بعض العلوم الأخرى، مثل العلوم التجريبيَّة. فللفلسفة الإسلاميَّة مساحة مشتركة مع معارف الدين والعرفان النظريِّ. ورغم أنَّ المعارف الدينيَّة وحيانيَّة، والمعارف العرفانيَّة شهوديَّة، والمباحث الفلسفيَّة عقليَّة، لكنَّها كلَّها قريبة بعضها من بعض؛ بسبب اشتراكها بمساحات كثيرة. فالدين والعرفان النظريُّ حاضران في المجالات التي تخوض فيها الفلسفة. وبعبارة أخرى: لهما رأي أيضًا في المسائل التي تبحث فيها الفلسفة الإسلاميَّة مسائلها وقضاياها الكبرى (ص 313-314).
لا شكَّ طبعًا في وجود اختلافات بين هذه المعارف والمباحث، فالفلسفة تخطو بقدم العقل، وتثبت مسائلها بالطريقة البرهانيَّة، وتستخدم لغة فنيَّة واصطلاحات خاصَّة، أي تستفيد من المعقولات الثانية الفلسفيَّة، وتقوم بتحليل كلِّ مسألة جديدة وفقًا لهذه الُّلغة. أمَّا العرفان النظريُّ فيعتمد على الشاهدات القلبيَّة، وله لغته الفنيَّة الخاصَّة به. وأمَّا المعارف الدينيَّة فقد أُخذت عن طريق الوحي والنبوَّة والإمامة. ولا ريب في أنَّ حقيقة الوحي والنبوَّة والإمامة هي نوع من الشهود أيضًا، وهذا الشهود هو بتمامه عقل، فحجَّة الله يُدرِك جميع الحقائق بالشهود، ولكنه شهود قويٌّ وأعلى يُستنتج منه الاستدلال بسهولة، أي أنَّه في تلك الساحة اتَّحد العقل والشهود معًا، فحجة الله هو العقل الكُلِّيُّ، وهو إلى ذلك القلب الكُليُّ، ويضمُّ الحقيقة كلَّها في نفسه دفعة واحدة، ويُدرك بنحو الشهود، وفي الوقت نفسه كلُّه عقل. من هنا، فإذا جرى النقاش بين الإمام المعصوم وشخص آخر فإنَّه بسهولة يستطيع المناظرة معه بشكل فلسفيٍّ واستدلاليّ. فالإمام لم يُدرِك تلك الحقيقة بطريق استدلاليٍّ، بل إنَّ جميع الحقائق حاضرة لديه بنحو شهوديّ، ويكفيه فقط الالتفات إليها “إذا شاؤوا أن يعلموا علموا”. وعليه، فإنَّ من باطن هذا الشهود يتفجّر الاستدلال، وسبب ذلك هو أنَّ شهود حجَّة الله قد وصل إلى عمق الحقائق الشهوديَّة؛ ولهذا يرى جميع الحدود الوسطى في قلب ذلك الشهود.. وقد استفاد الدين من اللسان العرفيِّ في بيان معارفه، وأنشأ تدريجيًّا- من داخله – لسانًا فنيًّا ودقيقًا. بل يجوز القول -حسب المؤلِّف- أنَّ الُّلغة الدينيَّة هي الُّلغة العرفيَّة نفسها. أي أنَّ جميع الناس يفهمونها كذلك، لكنها في الوقت نفسه لغة دقيقة وفنيَّة. فالشريعة تستخدم الاصطلاحات العرفيَّة، وترتقي بها تدريجيًّا وبتأنٍّ، وهذا الاصطلاح الجديد، وبعد الترقية، ليس بخارج عن الِّلسان العرفيِّ العموميِّ العامّ. وبناءً على هذا، تبدو المجالات مورد النقاش بين الدين والعرفان والفلسفة متَّحدة أو متقاربة، ولكنَّ لكل واحد منها طريقَه الخاصَّ به. وللإشارة إلى هذه الحقيقة جرى استخدام تعبير “وحدة الأفق”. ورغم محدوديَّة قدرات العقل، إلَّا أنَّه – رغم ذلك – يستطيع الدخول إلى المجالات التي يتعرَّض لها الوحي والشهود.
حيال هذا الموضوع، يستطرد المؤلِّف ليبيِّن أنَّ من الطبيعيِّ أن يكون هناك من يخالف هذه الدعوى. فالبعض يرى أنَّ القضايا المعرفيَّة الدينيَّة قضايا إحساسيَّة وتتحدَّث عن الإحساسات والعواطف، وليست هي ناظرة إلى الواقع. فالمجال الدينيُّ يختلف عن مجال الفلسفة التي تضع الواقع نصب عينيها، وعلى أساس هذه الرؤية، عندما يتحدّث الدين عن الله، فلا يتحدَّث عن حقيقة خارجيَّة، بل هو ناظر إلى أثر عاطفيٍّ خاصٍّ، وبعض الأفكار التي ظهرت في موضوع التجربة الدينيَّة هي من هذا القبيل. وممَّا لا شكَّ فيه – حسب المؤلِّف – أنَّنا لو نظرنا إلى هذه الرؤية بنظرة دينيَّةٍ داخليَّةٍ، وبملاحظة الكثير من النصوص الدينيَّة، لوجدنا أنَّها بعيدة عن الواقع. فالقضايا الدينيَّة لها بُعد إحساسيٌّ، ولكن هذا لا يعني أنَّها فاقدة للبُعد المعرفيِّ، وعندما يتحدَّث الدين عن المعاد فهو يبيِّن أنَّ هناك مرحلة موجودة واقعًا باسم القيامة: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ* لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ}[سورة الواقعة- 1-2]، وعندما يرى النبيُّ الأكرم(ص) الله سبحانه والعوالم العُلويَّة، فهو يرى ما هو موجود واقعًا {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}[سورة النجم- 11]، فالنصُّ الدينيُّ يطرح الله تعالى والمعاد وغيرها من الحقائق على أنَّها حقائق وجوديَّة.
في المعنى الخاصِّ للبرهان العقليّ:
يتساءل المؤلِّف: هل ثمَّة إمكانيَّة للإفادة الفلسفة من الدين باعتباره معرفة قدسيَّة للوجود، ومن العرفان النظريِّ كونه معرفة شهوديَّة للوجود، مع أنَّ المنهج الفلسفيَّ لا بدَّ من أن يكون منهجًا عقليًّا برهانيًّا؟ وهو يجيب عن ذلك في الفصل السابع ضمن بحث المنهج العام والتركيز على منهج الحكمة المتعالية، ذلك أنَّ البحث عن المنهج العام يعدُّ هو الآخر من الأبحاث المنهجيَّة المهمَّة في “فلسفة الفلسفة الإسلاميَّة” (ص 36). وهنا يتناول بإسهاب نظريَّة معرفة خاصَّة حول فهمه لكيفيَّات عمل العقل البرهانيِّ وصلته بالكشف والشهود. فهو يرى أنَّ الأسلوب البرهانيَّ العقليَّ له معنى دقيق من حيث الشكل والطريقة. ومن أجل دراسة هذا المفهوم جرى تخصيص الفصل الرابع من الكتاب لدراسة أنواع العمليَّات العقليَّة النظريَّة.
ولكي يفصح عن مقصوده في هذا المجال، يبيِّن المؤلِّف أنَّ المنهج البرهانيَّ العقليَّ يقوم على مجموعة من القواعد حيث يبدأ العقل عمليَّاته العقليَّة الاعتياديَّة. ويُقال أحيانًا- وكما هو مشهور- إنَّ العقل البرهانيَّ في الفلسفة يعتمد على العقل الأوّليِّ والضروريَّات فقط،ـ إلَّا أنَّ الشهود العقليَّ العامَّ يشكِّل ركيزة أخرى من ركائز العقل البرهانيِّ في الفلسفة. ووفقًا لمنهجه هذا، عندما يتمُّ البحث عن المنهج العقليِّ البرهانيِّ للفلسفة يجري التساؤل عن دور المنهج الإشراقيِّ في علم الفلسفة. غير أنَّ السؤال الأساسيَّ هو عن كيفيَّة الجمع بين منهج الشهود والِإشراق القلبيِّ الخاصِّ وبين المنهج العقليِّ البرهانيِّ؟.. وتتضاعف خصوصيَّة هذا السؤال متى عرفنا أنَّ حكمة الإشراق والحكمة المتعالية في الفلسفة الإسلاميَّة وفلسفة أفلوطين في المدرسة الأفلاطونيَّة الجديدة تدَّعيان ذلك الجمع. لكنَّ المؤلِّف سيجيب على هذه المشكلة في الفصل السادس من كتابه في إطار التركيز على آراء الحكمة المتعالية. ومن الواضح أنَّ نفي أو إثبات هذا الأمر يُعدُّ من الأبحاث المنهجيَّة المهمَّة في “فلسفة الفلسفة الإسلاميَّة”.
في هذا المضمار بالذات، يعود المؤلِّف إلى استقراء ما قدَّمته الحكمة المتعالية. فقد بيَّن ملَّا صدرا الشيرازي في “مفاتيح الغيب” طرق الوصول إلى المعرفة التي لا تحصل من خلال الاستدلال على نحوين: في النحو الأول منها، لا يدري صاحب المعرفة من أين حصلت له المعرفة وكيف حصلت خصوصًا أنَّه لا يرى المَلكَ الذي ألقى إليه المعرفة. وفي النحو الثاني يعرف من أين أخذ معرفته، ويشاهد المَلكَ الذي ألقى المعرفة في قلبه. فـ “الأول يُسمَّى إلهامًا ونفثًا في الروح، والثاني يُسمَّى وحيًا ويختصُّ به الأنبياء سلام الله عليهم. الأول يختصُّ به الأولياء، والذي قبله هو المكتسب بطريق الاستدلال يختصُّ به الحكماء، فكلُّ نبيٍّ وليٌّ دون العكس، وكلُّ وليٍّ حكيم من حيث المعرفة لا من حيث الطريق دون العكس”.
بهذا يتبيَّن أنَّ النبيَّ حكيم ووليٌّ فيلسوف، ولكنَّ الحكمة حسب العلّامة يزدان بناه لها مراتب، ومرتبتها العليا مختصَّة بالنبيّ. فإذا وصل الفيلسوف، من خلال جهده العقليِّ، إلى نتيجة مخالفة للمعطيات الدينيَّة، فماذا يفعل؟. وهو يقول بأنَّه عندما تخبر المعلومة الدينيَّة عن متن الواقع، تكون مخالفة المعلومة الفلسفيَّة لها مساوية للمخالفة مع متن الواقع. ومن الواضح أنَّ النتيجة الفلسفيَّة المخالفة للواقع لا قيمة لها. وبناءً على هذا، ستكون المعرفة المقدَّسة للوجود معيارًا وميزانًا للفلسفة لا من باب التعبُّد والتقليد، بل باعتبار أنَّ الفيلسوف يرى الدين حاكيًا عن متن الواقع، والفيلسوف لا يرفع يده أبدًا عن السعي لبلوغ الواقع. ومخالفة النتيجة الفلسفيَّة للنصِّ الدينيِّ تعني أنَّ المعلومة الفلسفيَّة لا تحكي الواقع، وأنَّ الجهد العقليَّ للفيلسوف لم يوصله إلى الواقع.
بهذه الكيفيَّة، يصل الفيلسوف إلى هذا النوع من التفكير طبقًا لاستدلالاته العقليَّة؛ لذا فليس الكلام هنا عن مجرَّد التعبُّد بالنصِّ الدينيِّ، بل إنَّ القضايا الدينيَّة تُخبر عن الواقع، وكأنَّ متن الواقع قد نطق بلسانه وأخبر هو بنفسه (ص 325). وليس من ريب – حسب المؤلِّف – في أنَّ وجود مثل هذه النظرة للنصِّ الدينيِّ تجعل المعارف الدينيَّة ومعرفة الوجود المطروحة في الدين موضع اهتمام شديد بالنسبة إلى الفيلسوف؛ ولهذا السبب فإنَّ الأخير يتبرَّأ من الفلسفة التي لا تنسجم قواعدها مع الدين، ولا يعتبرها حكمة أساسًا. وهذه النظرة لا تختصُّ بالملَّا صدرا، فسائر الفلاسفة المسلمين يرون الشيء ذاته. وفي هذا الصدد كانت عباراته واضحة: “من لم يكن دينه دين الأنبياء فليس من الحكمة في شيء”(مفاتيح الغيب ص 412). فالحكيم الذي لم يأخذ علمه من مشكاة النبوَّة والولاية لا يعدُّ حكيمًا من وجهة نظره؛ لأنَّ الحكمة تعني العلم الحقيقيَّ والمطابق للواقع.
وقد استخدم صدر المتألِّهين في موضع آخر تعبيرًا جميلًا للغاية حيث قال إنَّ العقل هو شرع باطن، والشرع عقل ظاهر؛ لذا فلا فرق بين العقل والشرع، فالشرع عقل ظاهر والعقل شرع باطن. ثمَّ يشير المؤلِّف إلى أفضليَّة المعرفة العرفانيَّة في علم الوجود فيقول: إنَّ أول ما يدعو الفيلسوف المسلم إلى أن يرى أفضليَّة معرفة الوجود (الأنطولوجيا) الشهوديَّة على المعرفة العقليَّة والفلسفيَّة للوجود، هو كون الشهود أعلى من العقل.
للاستدلال على ذلك، يعتقد الملَّا صدرا أنَّ الحقائق الأصيلة الخارجيَّة هي الوجودات نفسها، وأنَّ الطريق إلى معرفة الوجود عينه ينحصر بطريق واحد هو الكشف والشهود. فالمعرفة العقليَّة تتمُّ عن طريق الآثار، ولا تتعلَّق بذات الشيء، وبالتالي، فمن الطبيعيِّ أن تكون ضعيفة. “فالعلم بها [يعني بالوجودات] إمَّا أن يكون بالمشاهدة الحضوريَّة أو بالاستدلال عليها بآثارها ولوازمها، فلا تُعرف بها إلَّا معرفة ضعيفة”. وفي موضع آخر يقول: إنَّ معرفة المُثُل – وهي حقائق عقليَّة وحقيقة جميع ما دونها من الأشياء – تكمن بنحوين: المعرفة عن قرب (الأسفار- ج 1- ص 53)، وهي المعرفة الشهودية، والمعرفة عن بُعد، وهي المعرفة العقليَّة، وتكون حينئذٍ كالرؤية وسط الغبار.
إلى ذلك، ثمَّة كلام آخر مهمٌّ جدًّا للملَّا صدرا طبقًا للقاعدة الفلسفيَّة يقول فيه: “ذوات الأسباب لا تُعرف إلَّا بأسبابها” – إنَّ العلم بالمُسبَّب إذا حصل من طريق السبب، فإنَّه يكون علمًا أقوى. والوصول إلى الأسباب ينحصر بالكشف والشهود، وبناءً على هذا، يكون الشهود والكشف أعلى من العقل في إفادة اليقين، وبالتالي تكون الحكمة الحاصلة من طريق الكشف والشهود أعلى من الحكمة العقليَّة، وتكون المعرفة الشهوديَّة للوجود حكمة حقّة”.
على هذا الأساس، إذا كان الفيلسوف يعتبر الحكمة الشهوديَّة أعلى، فليس مردُّ ذلك إلى اعتقاده بأنَّ العرفاء أعلى وأقوى، وإنَّما لأنَّه يرى أفضليَّة طريق الكشف والشهود للوصول إلى الواقع وفقًا لما أوصلته إليه رؤيته واستدلاله الفلسفيّ. من هنا، فإنَّ الفيلسوف، بناءً على التزامه بالواقع وهواجسه تجاه إدراك الواقع، قد وصل إلى مثل هذه القناعة، إذ يرى أنَّ للبعض عيونًا حادَّة أكثر من غيرهم في مشاهدة الواقع، وطريقهم موصل بنحو أفضل؛ ولهذا فهو يهتمُّ بطريقهم ونتائجهم. بعبارة أخرى: إنَّ فلسفة الفيلسوف هي التي تدفعه إلى الاهتمام بالمعرفة العرفانيَّة للوجود (وكذلك الدينيَّة، كما مرَّ بيانه، ولا يفعل ذلك من باب التقليد (ص 328).
مهما يكن من أمر، فإنَّ ما قدَّمه الفيلسوف العلَّامة يد الله يزدان بناه، يشكِّل حقلًا خصبًا في توسيع الآفاق المعرفيَّة لبناء ميتافيزيقا إسلاميَّة وحيانيَّة تفتح على نقاش حيويٍّ وجديد في عالم الفلسفة.