جوهر الحياة في شعر جلال الدين الرومي
جوهر الحياة في شعر جلال الدين الرومي
ماريان بريمَر
ترجمة: رائد الباش
لم تفقد أبيات شعر جلال الدين الرومي شيئا من عمقها وقوتها التغييرية حتى بعد مرور سبعة قرون ونصف القرن على وفاته. الصحفي الألماني ماريان بريمَر يستحضر ذكراه لموقع “قنطرة”.
“أيا قلب مهما يكن مبتغاك فلتبحث عنه بداخلك”. ظهرت الحروف الفارسية على السبورة في سطور مموَّجة مكتوبة من اليمين إلى اليسار؛ وقد احتوت على خلاصة قصيدة قرأناها للتو -أو كنا على الأقل نحاول قراءتها. لقد كنا طلابًا قادمين من كوريا وأمريكا الشمالية وإيطاليا وألمانيا- نتمرَّن على قراءة شعر صوفي من القرن الثالث عشر الميلادي في فصل دراسي في شمال طهران.
وكان يجمعنا تحمُّسنا للفارسية، لتلك اللغة التي كتب بها شعره جلال الدين محمد الرومي (1207-1273)؛ الذي يعتبر بالنسبة للكثيرين أعظم شعراء الشعر الروحي في الإسلام. وتستند جميع المدارس الصوفية إلى أعماله وتفسيره الإنساني والإيجابي والليبرالي للإسلام.
لم يساعدني أحد في محاولتي استشعار روح تعاليم الرومي أكثر من أستاذي الفارسي ومعلمي المثنوي المقيم في طهران. وليس مهمًا هنا أن أذكر اسمه، ولكن مثلما لاحظتُ في وقت مبكِّر فإنَّ جلال الدين الرومي انتقل إلى كلِّ كيانه. ماذا يعني ذلك؟ أنا أكاد لا أعرف شخصًا يُعَلِّم بمثل هذا التفاني والهدوء بحيث تتحوَّل الدقائق في الفصل الدراسي إلى تأمُّل.
تبيِّن سماحةُ أستاذي وتواضعُه ودفءُ قلبه كيف يمكن للتواصل المستمرة مع جلال الدين الرومي أن يُحسِّن طبيعة الإنسان؛ أو -إن أردنا استخدام تعبير صوفي- أن “تصقل مرآة القلب”.
والشعر الصوفي الفارسي يخلق – مثلما كتب الفيلسوف الإيراني سيد حسين نصر في مقال: “نوعًا من الجو الإلهي للروح لكي تتنفَّس“. وأستاذي يقرأ كلَّ يوم منذ سنين كثيرًا في المثنوي – ديوان جلال الدين الرومي الذي يحتوي على ستة وعشرين ألف بيت شعر. ويقضي في بعض الأيَّام ساعات كثيرة مع هذا الكتاب.
جلال الدين محمد الرومي (ولد سنة 1207م وتوفي سنة 1273م) يُعتبر بالنسبة للكثيرين أعظم شعراء الشعر الروحي في الإسلام. وتستند جميع المدارس الصوفية إلى أعماله وتفسيره الإنساني والإيجابي والليبرالي للإسلام. نشاهد هنا داخل المقال في الصورة مزاره وضريحه في مدينة قونية التركية.
“كلّ مرة أفتح فيها المثنوي، يبدو ذلك لي وكأنَّني أقرؤه للمرة الأولى. فهو دائمًا يكون جديدًا ورائعًا”، مثلما أخبرني أستاذي أثناء حديثنا في مكتبه بين الرفوف المليئة بالكتب، وأضاف: “أنا أشعر كأنَّني مُقتَلَع من الزمان والمكان”. ثم أخذ من الرف طبعة قديمة من المثنوي اشتراها أيَّام دراسته. وكان يوجد على غلاف هذا المجلد صورة مرسومة للرومي بلحية وعمامة، يكاد يبدو مخدِّرًا بألوانه الخضراء والزرقاء الزاهية.
مُعَلِّم حيٌّ على الطريق الروحي
يقع ضريح “مولانا” (الرومي) على بعد أكثر من ألفي كيلومتر غربي طهران، في مدينة قونية التركية بوسط الأناضول، ويجذب كلَّ عام مئات الآلاف من الزوَّار، الذين يوجد من بينهم زوَّار قرويون أتقياء قادمون من منطقة الأناضول وكذلك مريدون وطلاب صوفيون ومحبون للشعر وباحثون عن المعنى وسيَّاح ثقافيون قادمون من جميع أنحاء العالم. في الطريقة المولوية التي يعتمد نظامها التعليمي على تعاليم مولانا، يُعتبر المثنوي كتابًا لا يزال الرومي يُوجِّه من خلاله -حتى يومنا هذا- الناسَ على طريقهم الروحي، مثل مُعلِّم حيّ.
والمثنوي يأخذ القارئ بسرده قصصا وأمثالا تبدو بسيطة إلى الداخل ويحدِّد المسار الروحي بجميع تحدِّياته ويبحث في أعماق الأسئلة المتعلقة بوجود الإنسان. لقد أثَّر هذا الكتاب في حياة المسلمين الروحية بين منطقة البلقان وشرق آسيا تأثيرًا عميقًا لدرجة أنَّه صار يعرف باسم “القرآن بالفارسية”.
لقد بدأ الرومي كتابة الشعر وهو في سنّ الأربعين فقط، وذلك بعد لقائه أستاذه شمس الدين التبريزي واجتيازه التحوُّل من عالم فقيه وقور إلى صوفي مفعم بالحب. وقد أدَّى إلى تسريع هذا التحوُّل الألمُ الوجودي لانفصاله عن صديقه ومعلمه، وأخيرًا عن الأصل الإلهي. ويصف الرومي نفسه هذه التجربة المؤلمة في بيت شعر مشهور كتب فيه: “انقسمت حياتي كلها إلى ثلاث كلمات: كنت نيئًا فنضجت ثم احترقت”.
وهكذا تحوَّل الشعر بالنسبة للرومي إلى وسيلة يستطيع من خلالها نقل أفكاره وخبراته إلى طلابه ومريديه. وعلى الرغم من أنَّ التجربة الإلهية لا يمكن التعبير عنها كلها بكلمات، إلَّا أنَّ شعر الصوفيين هو الشكل اللغوي الأقرب إلى تجربتهم. إذ إنَّ الشعر فيه شيء متناقض وغامض مثل التجربة الصوفية أيضًا.
عرض يؤدِّيه دراويش المولوية في مركز قونية الثقافي في الأناضول. في الطريقة المولوية التي يعتمد نظامها التعليمي على تعاليم مولانا جلال الدين الرومي، يُعتبر كتابه المثنوي الذي يضم ستة وعشرين ألف بيت شعر كتابًا لا يزال الرومي يُوجِّه من خلاله حتى يومنا هذا الناسَ على طريقهم الروحي، مثل مُعلِّم حيّ.
ولكن في النهاية كثيرًا ما يشكو الرومي من حدود اللغة. وهو يطلب من القارئ مرارًا وتكرارًا أن يصمت (بالفارسية: خاموش) وأن يكتشف الحقيقة ليس في الشعر بل في الصمت نفسه.
سلام داخلي وحب شامل وابتهاج بالحياة
وشعر مولانا يمنح القارئ لمحة بسيطة عن التجارب التي ربَّما يكون قد مرَّ بها وهو في طريقه إلى النضج. بإمكان الإنسان أن يشعر بهذه الحالات -التي تسمى في المفردات الصوفية بالأحوال- من سلام داخلي وحب شامل وابتهاج بالحياة في شعر الرومي. ومثلما أوضح لي أستاذي في طهران فإنَّ أبيات شعر الرومي تجلب “إلى حياتي رِضىً داخليًا عميقًا وسلامًا داخليًا لطيفًا بالإضافة إلى الحماس والعاطفة الرائعة”.
ومن ثم أضاف قائلًا: “أثناء قراءة هذه الأبيات يتم تطهير كيانك كله وتنقيته. الحياة تتغيَّر. أنا لا أزال أفعل ظاهريًا الأشياء نفسها، مثلًا آكل أو أمشي أو أتحدَّث مع زوجتي. ولكن كلّ هذا يحدث بعمق أكبر وبتوجيه واضح وإحساس بالتوسُّع الداخلي”.
لقد كان الرومي نفسه مدركًا للدور الذي يجب أن يلعبه شعره للأجيال القادمة. فهو ينشد في أحد مواضع كتاب المثنوي الثالث ما معناه: “تعالي، تكلمي (يا روحي)! لأنَّ الكلمة تحفر قناة ليصل بعض الماء إلى جيل بعدنا”. واليوم، لا توجد تقريبًا أية مكتبة لبيع الكتب -من مكتبات طهران الكثيرة- لا تعرض نُسَخًا من ديوان الرومي.
كنتُ أتحدَّثُ إلى بائع كتب في شارع الثورة مقابل الحرم الجامعي المركزي لجامعة طهران. وأخبرني أنَّ تعليقات المثنوي قد زاد عليها الطلب كثيرًا في السنين الأخيرة؛ وبشكل خاص جدًا على مجموعة التعليقات الشاملة المكوَّنة من سبعة مجلدات للفقيه والمفسِّر والمترجم الإيراني كريم زماني، والتي تضم أهم المقالات حول المثنوي من القرون الماضية.
وهذا العمل الذي يملأ رف كتب كاملًا ويقتصر استخدامه في غير هذا المكان على القرَّاء المتعلمين تعليمًا عاليًا، يتم بيعه هنا في إيران من تحت الطاولة مثل رواية.
________________
*نقلًا عن موقع ” قنطرة”.
سند في الأوقات الصعبة: يكتب ماريان بريمَر: “قالت لي المصوِّرة سارة بعدما قرأنا قصيدة من ديوان شمس: لقد تساءلتُ كثيرًا لماذا أنا إيرانية. في أعماقي كنت أعلم أنَّه يجب أن يكون هناك سبب لولادتي هنا. ثم أضافت: الآن يمكنني أن أفهم السبب. فلو أنَّ لغتي لم تكن الفارسية لكان يجب عليَّ أن أبذل جهدًا كبيرًا من أجل قراءة الرومي. وهذه هِبَة وُهِبَت لي في حياتي”. نشاهد هنا في الصورة داخل المقال أبياتًا من شعر الرومي مخططة على مدخل بوَّابة في جبال طهران.
قالت لي المصوِّرة سارة بعدما قرأنا قصيدة من ديوان شمس: “لقد تساءلتُ كثيرًا لماذا أنا إيرانية. في أعماقي كنت أعلم أنَّه يجب أن يكون هناك سبب لولادتي هنا”. ثم أضافت: “الآن يمكنني أن أفهم السبب. فلو أنَّ لغتي لم تكن الفارسية لكان يجب عليَّ أن أبذل جهدًا كبيرًا من أجل قراءة الرومي. وهذه هِبَةٌ وُهِبَتْ لي في حياتي”.
لا يزال إرث هذا الولي المسلم حيًا حتى يومنا هذا – ليس فقط في إيران أو في مسقط رأس الرومي في أفغانستان أو في منطقة الأناضول التي تمثِّل مركز حياته. فقد كانت مختارات الرومي لسنين على قوائم الكتب الأكثر مبيعًا في الولايات المتحدة الأمريكية. وفي ألمانيا، يعود الفضل إلى باحثة الدراسات الإسلامية آنا ماري شيمِل في تعريفنا بالرومي من خلال ترجمتها شعره بأمانة.
وحتى هنا في ألمانيا – يتم إحياء الذكرى السنوية السبعمائة وخمسين لوفاته. ولكن يجب علينا ألَّا نُكرِّم هذا الصوفي فقط باعتباره شاعرًا جديرًا بأن يكون في المتحف ومن ماضٍ بعيد، بل يجب علينا أن نحاول إحضار تعاليمه الخالدة إلى حاضرنا. وتعاليمه تذكِّر دائمًا الأشخاص الذين نسوا أنفسهم بجوهر الحياة.
والرومي يشجِّعنا بإصرار على التخلي عن البحث عن الوفاء في عالم خارجي دائم التحوُّل وأن نبحث بدل ذلك عن الكنز في الداخل. وإذا لم يكن السلام سائدًا في داخل الإنسان فإنَّ هذا الصراع يتجلى خارجيًا في شكل انقسامات وحروب – وهو مستوى غالبًا ما يتم تجاهله عندما نتساءل عن سبب إراقة الدماء باستمرار على مرّ التاريخ، سواء على حدود أوروبا أو في أي مكان آخر.
ماريان بريمَر
ترجمة: رائد الباش