هيغل وماركس: انعطافة الجدلية من المنطق الفلسفي إلى التفسير المادي للتاريخ
هيغل وماركس:
انعطافة الجدلية من المنطق الفلسفي إلى التفسير المادي للتاريخ
جميل سالم
على امتداد تاريخ الفلسفة، تنامت فكرة الجدلية (أو الديالكتيك) من منهج حواريّ بسيط لدى سقراط، إلى نظام تفسيريّ واسع لدى فلاسفة مثل أفلاطون وأرسطو. ولكن النقلة الكبرى حدثت مع حلول العصر الحديث، ولاسيما في الفلسفة الألمانية عند إيمانويل كانط، مرورًا بقمة تطوّرها في فكر جورج فيلهلم فريدريش هيغل، ووصولًا إلى توظيفها المادي والاجتماعي لدى كارل ماركس. يأتي سؤالُنا هنا: كيف تحولت الجدلية من نسق ميتافيزيقيّ أو منطقٍ فكريّ إلى أداة لتفسير الواقع الاقتصادي والتاريخي؟ في هذا المقال، نتوقّف عند رؤية هيغل للجدلية بوصفها حركة وجود وتاريخ، ثم رؤية ماركس في قلب الظواهر الاجتماعية والصراعات الطبقية.
1 – هيغل: الجدلية بوصفها منطق الوجود والتاريخ
عقب الثورة النقدية التي دشنها كانط في كتابه نقد العقل المحض، وجد الفلاسفة الألمان أنفسهم أمام سؤال عميق: ما حدود العقل البشري في إدراك الأشياء “كما هي في ذاتها”؟ وهل يمكن تجاوز انتقادات كانط للميتافيزيقا؟
من هنا انطلق هيغل (1770-1831) ليقدم رؤية جديدة تفيد بأن العقل والواقع ليسا منفصلين انفصالًا تامًّا كما قد يوحي بذلك كانط، بل هما يتحركان ويتطوران بوساطة التناقضات الداخلية. أوضح هيغل في كتابه علم المنطق وفي مؤلفاته اللاحقة أن كل مفهوم أو ظاهرة تحمل تناقضها في داخلها، وهذا ما يدفعها إلى التغير والتطور، فتنتقل من حالة إلى أخرى.
1.1 – الثلاثية الهيغلية
اشتهرت الجدلية الهيغلية بصياغتها الثلاثية: الطرح (These)، النفي (Antithese)، ثمّ نفي النفي (Synthese). قد يبدو الأمر في البداية تقنيًّا، لكنّه يُلخّص نظرة هيغل إلى صيرورة الوجود:
الطرح يمثل نقطة الانطلاق أو الفكرة الأولية.
النفي هو الذي يكشف التناقض الكامن أو المعارضة المحتملة داخل تلك الفكرة، فيهدم جزءًا ممّا سبق أو يضعه موضع تساؤل.
نفي النفي يمثل مستوى أرقى وأوسع يدمج إيجابيات الطرح والنفي، دون إلغاء الصراع كليًا بل بـ”رفعه” (Aufhebung) إلى مستوى أعلى.
2.1 – أمثلة على جدلية هيغل
في تناوله لفكرة “الوجود الخالص” (Pure Being)، لاحظ هيغل أنها مجردة بدرجة تحوّلها إلى “عدم” (Nothing)، ومن خلال هذا التلاقي الجدلي ينشأ مفهوم “الصيرورة” (Becoming). وبرأيه، يمكن تعميم هذا النمط على الفكر والتاريخ؛ إذ يتجلى التاريخ بوصفه حركة واعية تولد نفسها باستمرار، وصولًا إلى مستويات أعلى من الحرية والإدراك.
ينعكس هذا بوضوح في نظريته عن جدلية السيد والعبد كما عرضها في ظاهريات الروح؛ إذ يبدأ الصراع بين طرفين غير متكافئين، لكنّ هذا التناقض يولّد وعيًا جديدًا لدى العبد قد يقلب المعادلة الاجتماعية لاحقًا. بالنسبة لهيغل، التاريخ نفسه يعمل وفق هذه الحركة التناقضية التي ترمي إلى الحرية المطلقة في نهاية المطاف.
3.1 – الروح المطلقة أو “روح العالم“
لا يتوقّف هيغل عند صراع الآراء الخارجية؛ فجدليته ترتبط بجوهر كل شيء، من الأفكار إلى الظواهر الطبيعية، لأنها قائمة على الصيرورة المتواصلة. وهنا يظهر مفهومه عن “الروح المطلقة” (Geist) التي تتجلى عبر تلك الصراعات، وتتجاوز كل مرحلة لتندفع إلى مرحلة أرقى. وهذا يعني أن الواقع نفسه ليس ثابتًا، بل يتطوَّر نتيجة للجدل الداخلي بين التناقضات.
هكذا منح هيغل الجدلية بعدًا شاملًا، فهي ليست مجرد “حوار” كما كان الحال لدى أفلاطون وسقراط، بل منطق يحكم الوجود والفكر والتاريخ كله. وبذلك اصبح مفهوم الجدلية محورًا لرؤية شاملة تدمج العقل (الفكرة) والواقع في حركة واحدة.
2 – كارل ماركس: المادية الجدلية والانتقال إلى حقل المجتمع والتاريخ
لم يكن ماركس (1818-1883) معجبًا بهيغل فحسب، بل تتلمذ بالفعل على أعماله في شبابه. لكنه سرعان ما اكتشف ما اعتبره “قلبًا للجدلية على رأسها” لدى هيغل، لأن الأخير رأى أن الأفكار (أو الروح المطلقة) هي التي تحدد مسار العالم. في المقابل، رأى ماركس أن الفكرة يجب أن تُعاد إلى موطنها الحقيقي في المادة وفي حياة البشر الفعلية.
1.2 – قلب الجدلية على قدميها
اشتهرت عبارة ماركس بأنّه “أعاد هيغل من الوقوف على رأسه إلى الوقوف على قدميه”. فما قصده هو أنّ العلاقات الاقتصادية والاجتماعية، بما فيها الإنتاج المادي، تسبق الأفكار وتشكل أساسها. فإذا كانت روح العالم لدى هيغل هي العنصر المحرك للتاريخ، فإن “قوى الإنتاج” لدى ماركس هي القاطرة الفعلية التي تقود عجلة التغيير.
2.2 – صراع الطبقات: تطبيق الجدلية في الواقع الاجتماعي
في مشروعه الفكري، ولا سيما في كتاب مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي (1859)، يشرح ماركس نظريته عن “التفسير المادي للتاريخ”. يرى أن الناس يقعون في شبكة من العلاقات الاقتصادية تحدد مواقعهم الطبقية، كما تحدد شكل مؤسساتهم وأفكارهم.
ينتج عن ذلك صراع جدلي بين الطبقات؛ فهناك طبقة تملك وسائل الإنتاج (البرجوازية في المجتمع الرأسمالي)، وأخرى تضطر لبيع قوة عملها (البروليتاريا). تتولد تناقضات عدة من هذا الوضع، على رأسها الاستغلال الاقتصادي. وهذا ما يعمق التوتر الاجتماعي، إلى حد يقود في النهاية إلى ثورة تتجاوز النظام القائم، وتُولِّد نظامًا جديدًا أكثر تطوّرًا (مثل الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية، ثمّ الاشتراكية(.
هنا تكون الجدلية أداةً لتحليل حركة المجتمع الفعلية، لا لحركة العقل المجردة. وهكذا تتجلّى “المادية الجدلية” كمنهج يربط الأفكار بمصالح الناس، والوعي بالوجود المادي.
3.2 – الفكر والثورة
لا تقتصر جدلية ماركس على وصفٍ اجتماعي بارد؛ إذ تؤدّي إلى نتائج ثورية. ففي البيان الشيوعي (1848) الذي كتبه مع فريدريك إنجلز، يقول صراحة: “إنّ تاريخ كلّ المجتمعات السابقة هو تاريخ صراع الطبقات.” ومع تطوّر هذا الصراع، يصبح التغيير الجذري مسألة حتمية، لأنّ تراكم التناقضات سيطيح بالشكل السائد للإنتاج والعلاقات الاجتماعية، ممهّدًا لمرحلة تالية.
بهذا المنظور، يتبدل دور الجدلية من مجرد نسق فكري مثير للعقل، إلى قوّة معرفية تستشرف المستقبل الثوري؛ إنها ليست جدلية تكتفي بتوصيف الواقع، بل تسعى إلى تغييره جذريًّا.
3 – مقارنة: جدلية الفكرة والواقع
رغم أنّ ماركس استفاد من هيغل، فإنّهما يختلفان جذريًا في موضوع “مَن يتحكّم في حركة التاريخ؟” هل هي “الأفكار” (أو الروح المطلقة)، أم “المادة” (أو الواقع الاقتصادي)؟
لدى هيغل، فإنّ التاريخ يرتقي بالتناقضات وصولًا إلى وعيٍ أعلى، وأساس حركته يأتي من التطوّر الداخلي للفكرة.
لدى ماركس، الطبقات في صراع مستمر بسبب المصالح الاقتصادية، وهذا الصراع العملي في الواقع المادي هو الذي يولِّد التحولات على صعيد الأفكار والنظم الاجتماعية.
ومع ذلك، يبقى القاسم المشترك هو اقتناع كلٍّ منهما بأن التناقض هو جوهر الحركة والتطور. تلك الرؤية الجدلية وحدها، في نظرهما، تكشف جذور التغيير في طبيعة أي ظاهرة. إنها نظرة ترفض الجمود وتُقِر بالصيرورة والصراع الداخلي.
4 – أثر هيغل وماركس في تطور الجدلية
يرى بعض الدارسين أن هيغل هو المحطة الكبرى التي جمعت شتات الجدلية القديمة (من هيراقليطس وأفلاطون وأرسطو وغيرهم) وصاغتها في نظامٍ فلسفي شامل يفسر الواقع بوصفه صيرورة مستمرة. ومن ثم جاء ماركس ليعيد صياغة هذا النظام في ضوء المادة والتاريخ الاجتماعي، فحول الجدلية من أداة للتأمل الميتافيزيقي إلى أداة لتغيير العالم.
ليس هيغل سهلًا على الفهم لأسلوبه الاصطلاحي المعقّد، كما أنّ ماركس تعرّض بدوره لتأويلات متباينة، بين مَن يراه فيلسوفًا مثاليًّا إلى حد ما، ومن يعده مادّيًا ثوريًّا محضًا. لكنهما معًا أسهما في بلورة فكرة كبرى تنص على أن الواقع هو وحدة متناقضة، ومَن أراد فهمه أو تغييره فعليه أن يدرس صراع الأضداد في العمق.
5 – منطق الجدلية بين روح العالم وواقع المجتمع
تُجسِّد جدلية هيغل وماركس انتقالًا فارقًا في مسار الفكر، إذ لم تعد الجدلية مجرد حوار أو أسلوب للكشف عن الأخطاء، بل أصبحت “منطقًا” يسري في الكينونة نفسها (عند هيغل)، و”سلاحًا” في خدمة التغيير الاجتماعي (عند ماركس). ومن خلال إدراك هذه التحولات، نفهم بشكلٍ أوسع معنى أن تكون الحركة الديالكتيكية متأصّلة في الظواهر، وأنها ليست حدثًا ذهنيًّا فقط.
بالطبع، أثار هذا التناول صدى واسعًا في القرنين التاسع عشر والعشرين؛ ففلاسفة ومفكرون كُثر استفادوا من النطاق الهيغلي-الماركسي، إما باستكمال النهج الماديّ، أو بنقده والسعي إلى إعادة ربط الجدلية بمنظوراتٍ أخرى (كفلسفات الوجودية أو البنيوية أو حتى ما بعد الحداثة). ومع ذلك، يبقى اسم هيغل وماركس مرتبطًا بميلاد الجدلية الحديثة بأشكالها المتعددة.
في الخلاصة ممكن القول أن استيعاب مقاربتَيهما هو استيعاب لروح عصر آمن بأنّ الحقيقة تكمن في التطور والصراع، لا في الثبات والجمود. وإذا كانت هذه الرؤية قد وجدت معارضةً قوية واحتفاءً صاخبًا، فإنّ مردّ ذلك إلى عمق ما تمسه الجدلية من إشكالات تتعلق بطبيعة الواقع، وسلطة الفكرة، ودينامية المجتمع. هكذا غدت الجدلية، عبر هيغل وماركس، إحدى أكثر الأدوات الفكرية انتشارًا وتأثيرًا في فهم التحولات الكبرى التي شهدها العالم الحديث.