مدوّنات د. محمود حيدر

نقد هرمنيوطيقا العقل الأدنى

 

نقد هرمنيوطيقا العقل الأدنى

محمود حيدر

مبتدأ الاستغراب العدد التاسع عشر السنة الرابعةــ 1441هـ ربيع 2020م

لا شيء في عالم المفاهيم إلّا وله حجَّةٌ وغاية. والذين يساجلون في تبرئةِ المفهوم من التحيُّز، ربّما يغفلون بدرايةٍ أو من دون درايةٍ، عن النتائج المترتِّبة على آليات استخدامه. ففي حقل الاستخدام يَبينُ على نحوٍ لا يقبل الرَّيْب، ما إذا كان هذا المفهوم أو ذاك محايداً، أو أنّه مجرّدُ ذريعةٍ لإضفاء المشروعيّة على هويّة المتحيِّز ونظامه القيمَي. حال الهرمنيوطيقا كطريقة للفهم لا ينأى من هذه الفَرَضيّة، فإنّها كَسِواها من مفاهيمَ بَدَت حرّةً في علياءِ تجرُّدها، إلاّ أنّها لمّا دخلت مجال الاختبار تمَّ إخضاعها لمعايير المستخْدِمِ وتأويلاته.
في الحقل المعرفي الغربي، جرى التعاملُ مع الهرمنيوطيقا مجرى هذه الحكاية. فهي فضلاً عن أنّها كمفهوم محلُّ تأويل، فإنّها لم تتحرَّر من سجايا العقل الذي أنتجها، وظلَّ حاكمًا عليها منذ تأسيساته اليونانيّة الأولى حتّى أزمنة الحداثة. لقد أورثها هذا الصّنف من العقل صِبغتَه الأصليّة، وألزَمَها طرائقه في فهم الوجود وإدراك الموجودات. ولِمّا كانت الهرمنيوطيقا فعاليّة تأويليّة تستمدّ تفسير كلّ شيءٍ من العقل الذي صنّعها، فمن البديهي أن يجيء عملُها على شاكلته. ربّما لهذا يستوي القول: إنّ معثرة الهرمنيوطيقا الحديثة تكمن في أنّها سليلة المعثرة الكبرى التي عصفت بالتأويل اليوناني للوجود.
* * *
دارت الهرمنيوطيقا الحديثة مدار العقل المقيَّد حتّى وهي تتطلَّع نحو اللاَّ مرئي، أو تبحثُ عن سرِّ «الشيءِ في ذاته». لهذا استعصى عليها النّفاذ إلى «أفقٍ تأويلي ما بَعديٍّ» ينفسحُ فيه نشاط الفكر، ويكتشفُ العقلُ قدرته على مجاوزة ذاته المسكونة بعالم الممكنات. داخل المدار الهرمنيوطيقي للحداثة سينمو ضربٌ من التشاؤم من إمكان الفوز بمعرفة ما هو محتجبٌ وراء عالم الحواس. والسبب كامنٌ في «الخلط المنهجي» الذي اقترفه الحداثيون لمّا قاربوا الدين بأبعاده الغيبيّة من خلال المنطق الأرسطي، والمنهج العقلاني الصارم للفلسفة.. وعليه سيكون من أمرِ هذا الخلط أن تشيعَ سياقات وخطوطٌ تأويليّةٌ غَلَبَ عليها الغموض والاضطراب وسوء الفهم.
* * *
المفارقة أنّ الممارسة الهرمنيوطيقيّة ذات النزعة التشاؤميّة ستتمدّد إلى القلعة التي ابتنى عليها العقل الغربي أمجاد حداثته وأنوارها. ومع أنّ مؤوِّلة عصر النهضة بذلوا من الجهود ما صيَّر الهرمنيوطيقا علمًا مستحدثًا، إلّا أنّهم لم يجاوزوا الأرض الأولى لأسلافهم. كلُّ ما استحدثوه أنْ حوَّلوا الهرمنيوطيقا الشفاهيّة التي مارسها حكماء الإغريق إلى تنظير مدوَّن في خزائن الكتب. ربّما لهذا الداعي سيزعم الوَرَثة والمحدثون من فلاسفة التنوير أنّ أجدادهم لم يكونوا من الهرمنيوطيقا على شيء؛ لأنّهم أهل شفاهة لا أهل نصٍّ يستدلّ عليه بالوثائق. وعلى رغم هذا الزعم جاءت النتيجة لتقول: إنّ القول الفلسفيّ المستأنف للحداثة لم يقدر على القطع مع ماضيه، ولو كان دأبُه المستدام الانقلاب عليه، أو الجحود بإنجازاته. من أجل ذلك لم يكن التاريخ الغربي ـ كما يلاحظ أهله ـ مسيرةً مظفرةً نحو النور والسعادة. فلقد تخلّل ذلك التاريخ انحدار عميق نحو هواجس العقل الأدنى ومشاغله منذ ما قبل سقراط إلى زماننا الحاضر. والحاصل، أنّه كلّما ازدادت محاولة الإنسان فهم دنياه، واستغرق في تأويل إنجازاته التقنيّة، ازداد نسيانه كل ما هو جوهريّ.
النّظّار الذين قالوا بهذا، لا يحصرون أحكامهم بتاريخ الحداثة، بل يُرجعِونها إلى مؤثِّرات الإغريق، حيث وُلِدتَ الإرهاصاتُ الأولى للهرمنيوطيقا الدنيويّة. كان أفلاطون على علوِّ مُثُلِهِ، العلامةَ الأولى الدالّةَ على ذلك. فقد وضع موجودات العالم ضمن معايير عقليّة شديدة الإتقان؛ من أجل أن يحكم من خلالها على صدق القضايا أو بطلانها. ثمّ جاءت الفلسفة الحديثة والعلم النظري لكي يعزِّزا هذا المَيْل، لتصبح العقلانيّة العلميّة حَكَمًا لا ينازِعُه منازعٌ في فهم الوجود وحقائقه المستترة. من بعد ذلك ستأخذ الثورة التقنيّة صورتها الجليِّة، لِتَفْتتِحَ أفقًا هرمنيوطيقيًّا تعذَّر معه النّظر إلى الإنسان والكون بوصفهما كينونة موصولة بحقيقة التكوين. وهكذا صار لزامًا على كلّ من يبتغي الصواب، أن يضع كلَّ شيءٍ تحت سيطرة العقل الحسَّاب وعقلانيَّته الانتفاعيّة.
من هذا النحو ستحذو الهرمنيوطيقا الحديثة حَذْوَ السّلفِ في إجراءات القطيعة بين الله والعالم، ثمّ أنزلت عليها من تأويلاتها المستجدّة جرعاتٍ زائدةٍ اهتزَّت معها مفاهيمُ التنوير من أساسها. غدت الآلة محوًرا للكون بدلاً من محوريّة الإنسان ومكانته المتعالية. وحين استطاب لها سحر التأويل استبدَّت التقنيّةُ بأمرِها، وراحت تلقي بأثقالها على الإنسان الحديث، لتطيح بمجمل قِيَمِهِ ومعارفه ورؤاه حيال نفسه وحيال الكون. وسنرى كيف آلت الأفهام بدءًا من تأويلات ديكارت وكانط فضلًا عن فلاسفة العلم إلى كهف المقولات الأرسطيّة، ولمَّا تفارقها قط.
في حقبة الحداثة الفائضة التي نشهد وقائعها اليوم، سنجد كيف تهافَتَ التأويلُ العقلانيُّ لتصيرَ معه صورة الإنسان الحديث أقربَ إلى وجهٍ مشوَّهٍ وسط لوحةٍ سيرياليّةٍ تعكس السّخط على الذات وعلى العالم معًا. ففي عصر التقنيّة الجائرة ستتخذ المجتمعات المعاصرة سبيلها إلى انزلاقات باتت معها أدنى إلى أوعية متّصلة عصيَّة على فهمِ راهنِها والمقبلِ من أيّامها. بدا واقعُ الحالِ كما لو تُرِكَت تلك المجتمعات بلا راعٍ وسط ضبابٍ كثيفٍ من الحاجات والغرائز الدفينة. وليس مستغربًا أن يظهر من نقَّاد الغرب من يرى إلى التّقدّم التّقني على أنّه مجرّد طلاء خادع لحضارة أرهقها التشاؤم وانعدام اليقين.
أكثر ما تُستظهرُ فيه اختبارات الهرمنيوطيقا الحديثة حين تستفهم عن الظاهر والمحتجب في الوجود. ولئن كان لنا أن نبيِّن هذه المسألة فسنكون بإزاء مشهديّتين تأويليّتين لكلّ منهما سؤالها الخاص: الأولى، تسأل عن عالم الأشياء والماهيّات والممكنات وتنحصر مهمّتها بالهندسة المنطقيّة التي وضعها أرسطو لنشاط الفكر البشري. والثانية، تمضي بالسؤال إلى عالم غيبيٍّ فوق زماني، مع ما يحويه من عناصر متداخلة لا تتوقّف مفاعيلها على الاستفهام عن الشيء وشيئيّته، ولا على الإنسان بما هو كائن متفرِّد يجهر بالسؤال، ولا كذلك عن سرّ الوجود المطلق.. وإنما أيضًا وأساسًا عن السؤال نفسه بما هو سؤال مؤسِّس تنطوي فيه كلّ أسئلة الوجود. ومتى عرفنا أنّ الهرمنيوطيقا التي تؤسس أفهامها على كلمات الوحي هي حركة حاوية للزمن، وتستطيع أن تنقل سؤال الوجود من حال التبدّد والزوال إلى مقام الرسوخ والديمومة، عرفنا تلقاء ذلك أن التأويل المقيَّد بالماهيات الفانية لا تكاد معارفه وأفهامه تظهر، حتى تضمحلّ وتفنى، ثمّ لتكون النتيجة تبدُّد السؤال وتبدُّد جوابه في الآن عينه.
* * *
الاستفهام الهرمنيوطيقيّ كما يظهر لنا في الميراث التفسيري الإسلامي للقرآن الكريم هو نقيض الهرمنيوطيقا المتشائمة التي أخذت بناصية العقل لِتسُدَّ عليه آفاق التعرّف على الحقيقة الكامنة وراء الظواهر. فالهرمنيوطيقا المؤيدة بالوحي، لا تقبل التبدُّد؛ لأنّها محفوظة على الدوام بما يفيض عليها الكلام الإلهي من علم. أما سؤالها الموصول بعروة وثقى بالمبدأ الإلهي فإنّه سؤال حاوٍ جميع الأسئلة المستفهِمة عمّا يستغلقُ من خفايا الكون والإنسان. ذلك يعني أن السؤال في مقام الهرمنيوطيقا الوحيانية متضمَّنٌ في مظاهر الوجود وكوامنه فلا يفصل بينهما فاصلٌ أبدًا. أما الهرمنيوطيقا الدنيوية التي ألزمت تفكير الإنسان بحدود الماهيات الفانية، وحالت دون تَفَكُّرِه بما وراء عالم الحس. إلى ما انتهت إليه عَدَميات الحداثة، عندما أعرضت عن فهم الوجود بما عالم مخلوق ومحفوظ بالعناية الإلهية وتدبيراتها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى