سياسة العرفاء في مرجعيَّة الوحي
سياسة العرفاء في مرجعيَّة الوحي
د. محمود حيدر
* مفكِّر وباحث في الفلسفة والإلهيَّات – لبنان.
مقدِّمة:
تنظر هذه الدراسة إلى سياسة العرفان من جهة كونها أطروحة إحيائيَّة تتغيَّا الاستهداء بالكلام الإلهيِّ سعياً إلى تأصيل رؤية معرفيَّة حضاريَّة ذات امتدادات إنسانيَّة شاملة. ولتظهير هذه الغاية، وجدنا أن نأخذ بمفهوم “العالَمِين” القرآنيِّ لما له من منزلة محوريَّة في خطاب الوحي.
من البيِّن أنَّ كلمة “العالَمِين” – الواردة في الآية الأولى من السورة الأولى من القرآن – تختزن من الدلالات والأبعاد الغيبيَّة والشهوديَّة ما يُعرب عن الغاية من عالم الخلق. من أجل ذلك، رأينا كيف افتتح الحقُّ بيانَه في سورة الحمد بـ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[1]، ثمَّ في مخاطبته نبيَّه الخاتم ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾[2]. في الآية الأولى بيان التوحيد، وفي الثانية بيان النبوَّة. وفي البيانين ثمَّة ربط وطيد بعالمَيْ الخلق والأمر حيث الإنسان المكرَّم هو المستخلف والوارث، وهو ضمير المخاطَب المباشر في كلام الخالق.
* * *
- المنهجيَّة القرآنيَّة ومقتضيات التدبير الحضاريّْ:
يرى العرفاء استناداً إلى مرجعيَّتهم القرآنيَّة، أنَّ كلَّ سائرٍ في الإحياء الحضاريِّ، أنَّى كانت رتبته وعلمه ومعارفه، له من التكليف نصيب. ﴿فَلاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾3.
يعني هذا أنَّ ما يسري على العارف الكامل يسري على الجميع من التابعين، وكلٌّ بحسب قدره ومقامه. فكلُّ من أدرك بالعقل ما تفترضه عليه الآيات البيِّنات، هو المكلَّف الذي استطاع تمييز الأحكام، واقْتَدرَ على إنزالها في مواضعها. ومتى حلَّ هذا المكلَّف العاقل في معترك التجربة، سيجد نفسه أمام مقتضيين أساسيَّين وجَب عليه الأخذ بهما:
الأوَّل: أن يعلم أنَّ الحقَّ يخاطبه في كلِّ شيء، وأنَّ هذه المخاطبة مستمرَّة باستمرار حياته، وأنَّ معاني محتوى هذا الخطاب ومعارفه مودَعة في نفس المكلَّف وفي الأكوان من حوله، وأنَّ هذه الأكوان ما قامت ولا استقامت إلاَّ بهذه المعاني الإلهيَّة التي على المكلَّف واجبُ طلبها، والتعرُّف عليها، والتقرُّب بها إلى حضرة الله.
الثاني: أن يعلم أنَّ الله يراه رؤية لا تنقطع، وأنَّ هذه الرؤية، إن جاءته بالرضا عن أفعاله سَعِدَ سعادة لا يشقى بعدها، وإن جاءته بالسَّخط، شقي شقاوة لا يسعد بعدها، وبذلك فهو مطالَب بأن يراقب نفسه، ويراقب الله في كلِّ أفعاله.
وتبعاً لهذين المقتضيين، تتفرَّع ثلاثة خطوط تتَّصل بالاختبار الحيِّ الذي يمارسه المكلَّف في سياق مجاهداته، وهي: الاشتغال بالله، والتعامل مع الغير، والتفاعل مع الأشياء. وتفصيل ذلك على الوجه التالي:
أ – أنَّ المكلَّف يدرك أنَّه مخلوق للاشتغال بالله، وأنَّ الاشتغال بغيره ينبغي أن يذكِّره بالله دائماً وأبداً، فما يعقل شيئاً إلاَّ ويجعله هذا الشيء يعقل أمر ربِّه فيه.
ب – أنَّ المكلَّف يأتي أعمالاً لصالحه يبنيها على اعتقاداته، ويكون مُقِرَّاً للغير- ولو اختلف معه في الرأي أو كان معه على اختصام – بحقِّ الإتيان بمثل هذه الأعمال لصالحه. وفي الكتاب الحكيم ما يؤيِّد الحثَّ على هذا الإقرار. ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾1.
ج – أنَّ المكلَّف يتَّجه إلى الموجودات من حوله قصد إرضاء حاجاته المشروعة، وحفظ حياته الماديَّة، فيفعل فيها ويتصرَّف بها بحسب هذه الأهداف، كما تفعل فيه هذه الموجودات هي الأخرى، وتؤثِّر فيه بما يوافق هذه الأهداف أو يعارضها، فتقوم بينهما علاقات الأخذ والعطاء والتأثُّر والتأثير1.
- الرَّشاد الحضاريُّ والإمام المُبين:
فضلاً عن كون العامل بالأركان والمقتضيات يستمدُّ صفاته وأفعاله من الآيات البيِّنات، إلاَّ أنَّه يبقى محتاجاً إلى تفسير مقاصدها، واستيضاح طبقاتها المعرفيَّة من إمام مُبين وشارح أمين. ولمَّا كانت المخاطبة الإلهيَّة للعالَمين جرت عبر الوحي المتنزِّل على قلب النبيِّ(ص)، في خلال حقبة زمنيَّة دامت ثلاثة وعشرين عاماً، فهذه المخاطبة، وبحكم قانون الاعتناء الإلهيِّ بزمن الإنسان، سوف تستمرُّ وتتواصل من بعد ذلك عن طريق الأوصياء من سلسلة الحقيقة المحمديَّة، ومنهم إلى العلماء والتابعين على مدار الأزمنة المتعاقبة.
ولقد قدَّم أئمَّة أهل البيت(ع) البيان الأظهر للآيات فعلَّموها الناس، وكانوا لهم في العلم المقرون بالعمل أسوة وقدوة.
وسنرى أنَّ أسمى الصفات التي ينبغي للناس الاتِّصاف بها لإنجاز البديل الحضاريِّ، هي صفة العبدانيَّة. وهي الصفة الأتمُّ لتحقُّق عبادة اليقين الكامل، حيث يصل العابد بالعبدانيَّة إلى مقام التصديق التامِّ، وهو مقام الحمد لذات الله. حيث الحمد مقصور على الله لأنَّه الله. وهو غير مرتبط بعطاياه ومِنَحَه ورزقه، ووعده الموحِّدين بالنعيم الأبديِّ، وإنَّما لأنَّه الحقُّ الأحد الصمد.
فالحمد عند المتَّصف بالعبدانيَّة هو عين العلم بالله. ذلك يعني أنَّ الحمد لا يُدرك إلاَّ بتعرُّف الحامد على المحمود حقَّ المعرفة. وتلك المرتبة من التعرُّف لا يفلح بها إلاَّ متى اتَّصف بالعبدانيَّة كمقام أعلى في معراج التعبُّد. إذ بهذا الالتقاء يبتدئ السير في حركة الأحياء المستأنف لحضارة العالمين، تأسيساً على الارتباط الموثوق بين الحامد والمحمود. وحتى يُعرف الحقُّ بذاته حقَّ المعرفة على قاعدة، “بك عرفُتُك”، ينبغي النَّظر في عبدانيَّة العابد العارف من خلال الاعتناء بالخلق. وما ذاك إلاَّ لتصير المعرفة بالله معرفة بمخلوقاته بالتبعيَة، حيث لا انفصال في هذا الحين بين حقِّ الله وحقِّ الإنسان. وما ذاك إلاَّ لأن حقيقة العبدانيَّة هي معرفته لذاته في تبعيَّتها. والتبعيَّة عموماً عبارة عن الارتباط بشيء في أمر لا يتمُّ حصوله إلاَّ بهذا الشيء. وفي مقام التبعيَّة للحقِّ الأعلى، هي أن يرتبط التابع بشيء تحصل له به فائدة أكبر من تعيُّن وجوده وتحقُّق سلوكه. فتكون العبدانيَّة في هذه الحال، معرفة الارتباط الذي يحصل به التعيُّن الوجوديِّ والتحقُّق السلوكيّْ. ويصطلح أهل المعرفة على تسمية هذا الارتباط باسم “التبعيَّة الأصليَّة”1.
تأسيساً على هذه المنزلة من “عبدانيَّة الحمد لذات الله”، ينفسح للتابع مجال السفر إلى عالم الناس. ومن فضاء الحمد بالذات سوف يُتاح له أن يمضي إلى تجاوز معضلة التدافع السلبيِّ بين الإنسان والإنسان. وهو الحلُّ الذي يتبيَّن في الآيات البيِّنات على قاعدة التعرُّف الخلاَّق بين منوَّعات الكثرة البشريَّة واختلافها. ﴿إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾2.
في المتضمَّن من الآية ربطٌ ذاتيٌّ بين نشأة الخلق وقانون التعرُّف، ثمَّ تنتهي إلى ربطهما بالتكريم والتَّقوى. وكلُّ ذلك على أساس أنَّ التعرُّف المؤسَّسِ على العدل واللُّطف والدفع الأحسن هو السبيل المفتوح على القرب من الحقِّ الأعلى. حالئذٍ، سيكون لمسار التعرُّف أن يترسَّخ في أرض العالَمين عبر حركة تسري في جوهر العلاقة التي لا تنفصم بين الحقِّ والخلق. أمَّا ميدان هذا السَرَيان فهو في الحيِّز الذي يشهد فيه الحقُّ على حركة العالم وأفعال العالَمِينْ. وهو ما اصطُلح عليه بعالم الشهادة. ولذا، فإنَّ على القائم بمهمَّة الجهاد الأعظم أن يدلَّ، ويبيِّن، ويعلِّم، ويقيم الوزن بالقسط بين الناس تبعاً لتقريرات المخطَّط الإلهيِّ في التاريخ البشريّْ.
ذلك أمر داخل في الحضور المدرِك للذين اختارهم الحقُّ لإعادة إعمار الحضارة البشريَّة بعد فسادها. أولئك الذين عرفوا الحقَّ بالفيض القرآنيِّ على أفئدتهم حيال ما يتَّصل بمصير الأمَّة الوسط ومصير الإنسانيَّة على الجملة، فإنَّهم بهذه المعرفة أدركوا حاضريَّة الحقِّ في الخلق، حتى صارت مخاطباتهم ومواقفهم علماً راسخاً متسلسلاً من القول الثابت. مع هذا البُعد المتعالي لا تعود المعرفة بحقوق الإنسان عند المخلِّص أمراً محصَّلا ً بالاكتساب، بقدر ما هي فائض ربَّانيٌّ ودفع إلهيّْ. فحقُّ الإنسان غير منقطع عن حقِّ الله. والإحالة إلى الحقِّ الأول، يجعل حقَّ الإنسان مرتبة من مراتب الحقِّ تعالى، بحيث يغدو كلُّ حقٍّ في عالم الكثرة البشريَّة موصولاً بعالم الأحديَة. فلو أقمنا ما مرَّ معنا في سياق الرَّشاد الحضاريِّ لوجدنا كيف تكشف الرؤية المتبصِّرة عن العروة الوثقى بين حقِّ الله وحقوق الناس، ولكن مع التأكيد على أنَّ صلات الوصل، بناء على هذه الرؤية، تتأتَّى من قيوميَّة الله على الوجود، لا على محوريَّة الإنسان المحض التي ابتنى عليها العقل غير الوحيانيِّ منظومته الفلسفيَّة ورؤيته إلى العالم1.
- مهمَّة العارف إصلاح عالم الكثرة:
منتهى معراج المكلَّف إصلاح عالم الكثرة، هو العودة إلى المبدأ. وما دام كلُّ أمر متعلِّق بتوحيده تعالى فلا مناص من الرُّجوع إليه في كلِّ شأن متعلِّق بتدبير الاجتماع الإنسانيّْ. وهو ما يبيِّنه الموحِّدون في قولهم: “إنَّ النهايات هي الرُّجوع إلى البدايات”. وهذا القول يترجم أصل الميل والعشق لدى كلِّ مخلوق للرُّجوع إلى أصله ومبدأه. وبعبارة أخرى، هو أصل عودة كلِّ غريب إلى وطنه. أمَّا عند الأولياء فهذا الميل إلى المبدأ يشمل كلَّ ذرَّات الوجود ومنها الإنسان، ومهمَّة التكليف الإلهيِّ تظهير هذا الاعتقاد من خلال الإرادة والعزم على أداء المهمَّة. والإرادة عند الأولياء تُعدُّ أول منازل السير إلى الله عبر إصلاح شؤون الخلق. ذلك ما ألفناه في نهج المعصوم1. فلم يفصل بين عبادة الحمد والتنزيه لله الواحد الأحد الصمد، وبين فعليَّة العبادة في الاجتماع الإنسانيِّ، حيث تتمظهر أسماء الله وصفاته وأفعاله كشواهد وموازين في أعمال الناس وتجاربهم.
لقد أراد المعصوم ببيانه القرآنيِّ أن ينشئ عقداً رحمانيَّاً ينتظم صلات الوصل بين الناس لتبدأ من هنالك نهاية تاريخ الإنزياح عن صراط الوحي. ذاك لا يعني أنَّ عقداً كهذا سوف ينهي التغاير والاختصام والعداوة، ففي أثناء خلافته سيذهب أمير المؤمنين(ع) إلى تصنيف أعداء الدولة الإسلاميَّة بثلاثة هم: الناكثون والقاسطون والمارقون. والناكثون هم أصحاب الجمل، والقاسطون هم أصحاب صفِّين، وأمَّا المارقون فهم أصحاب النهروان من الخوارج. وفي خطبة “الشقشقيَّة” من “نهج البلاغة” ما يفصح عن استمرار سنَّة التدافع والاحتدام في الطور الأول للمجتمع الإسلاميّْ، حيث يقول الإمام(ع): “فلما نهضتُ بالأمر نكثت طائفةٌ، ومرقت أخرى، وقسط آخرون، وأمَّا صفات هذه الطوائف فقد توزَّعت بين الجشع، وحب المال، والسَّعي إلى السلطة والنفاق، ناهيك بالخوارج الذين امتازوا بالتكفير والعنف وإثارة الفتن”.
هذا التصنيف المثلَّث الأضلاع الذي وضعه الإمام تبياناً لأحوال الأمَّة، لم يكن بخارج عن تبصُّره الربَّانيِّ في ما ستكون عليه تلك الأحوال من بعده. ولذلك آثر بيان مقاصد الوحي، ومعاني مكارم الأخلاق على الاحتفاظ بسلطان الحكم، ألَّلهم إلاَّ ما افترضته الفتنة من أمر بمعروف ونهيٍ عن منكر. ومردُّ هذا إلى إدراك الإمام أنَّ عالم الكثرة هو بطبعه عالم حركة وتغيُّر وتبدُّل. وأن مقتضى مثل عالم كهذا يكتظُّ بآثار الجاهليَّة، ولا بدَّ له من تناسُب بين حدِّ السيف ورحمانيَّة العقل. فالعدوُّ في لحظة ما يمكن أن يتحوَّل إلى وليٍّ حميم، ولذلك لا مناص من إقامة هذا التناسُب كما هو مقرَّر في آية الأمر الإلهيِّ بالدفع، ﴿وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ إدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾.1
هاتان الآيتان تظهران بنحوٍ جليٍّ في قول الإمام عليٍّ: “صافح عدوَّك وإن كره، فإنَّه ممَّا أمر الله في عباده”. وقوله: “ما يكافأ عدوُّك بشيء أشدُّ عليه من أن تطبع أمر الله فيه”.
وفي هذين المأثورين ما يفصح عن الامتداد الرحمانيِّ الذي يبدأ من الأنا العارفة بالحمد لله، إلى النظير وإن كان لك عدوَّاً. وذلك ما يقيمه الحكماء والعرفاء في أعلى مراتب الارتباط بالحقِّ الأول تعالى، إذ على قاعدة الحبِّ في الله والكره في الله يستوي الموحِّد على الصراط.
ومثلما يسري مفهوم النظير على الفرد والمجموعات، فإنَّ للمفهوم سرَيانه في فضاء الحضارات والأديان. وما في القرآن الكريم من البيِّنات بصدد الاختلاف والتنوُّع وتكثًّر طرق معرفة الحقِّ من خلال الأديان ورسالات الوحي، ما يفضي إلى بيان سلسلة الوجود الواحد وصولا ً إلى المصدر الأوَّل والحقِّ الأوَّل. ذلك ما يجعل مبدأ التناظر ضرباً من الكثرة في عين الوحدة، بحيث يغدو التكثُّر طوراً في الحقيقة الواحدة للأصل الانسانيِّ، ذلك أنَّ الاختلاف في الألوان والأعراق والألسُن والثقافات والأديان هي من آيات الله وسنَّة من سُنَن الخلق.1
- قاعدة الرَّبط بين الوحي والواقع:
التأسيس القرآنيُّ لفقه التاريخ بيِّنٌ في الآيات لا لَبْس فيه. وهو تأسيس مُنبنٍ على ركنين أصيلين لا ينفكَّان أبداً: ركن الوحي وركن الواقع.
وما كنا لنتغيَّا الإشارة إلى هذين الركنين الأصيلين في القرآن، لولا أنَّ المنزِّل سبحانه سيُظهر لنا حكمته البالغة في إتقان صنع العالم، وترتيب حركة الزمان والمكان كأصل من أصول التكوين، مع ما للإنسان فيها من منازل ومقامات التكريم والاستخلاف.
فلو كان لنا أن نتأوَّل الإعتناء الإلهيَّ بأزمنة البشريَّة، لوجدناه سارياً في كلِّ القرآن، ولتناهت إلينا حقَّانيَّة الارتباط الوطيد بين السُنَن الإلهيَّة وحركة التاريخ.
تنجلي الرابطة بين الوحي والواقع في رحلة التعرُّف على الغاية من سنَّة التكليف. فسنجد في أحكام هذه السنَّة وقوانينها ضرباً من متاخمة إلهيَّة لا تبرح زمن الإنسان. وهو ما يمكن الإصطلاح عليه بالعناية الرحيميَّة للعالم الآدميِّ، بعد العناية الرحمانيَّة لعالم الأشياء.
لقد وصف الله تعالى نفسه في القرآن الكريم بصفتين متلازمتين (الرَّحمن، الرَّحيم)، وهما لفظتان مشتقَّتان من الرَّحمة، وأمَّا التمايز بينهما: فإنَّ الرَّحمة الرحمانيَّة، عامَّة وشاملة لكلِّ الموجودات. وأمَّا الرَّحمة الرحيميَّة: فإنَّما هي ألطاف واعتناءات خاصَّة يستحقُّها المكلَّف جزاء ما أحسن من أعمال. إلاَّ أنَّها لطف خاصٌّ، يعمل وفق قوانين خاصَّة معيَّنة، وليس قانوناً عامَّاً للطبيعة. وقد بُعِثَ الأنبياء من أجل دفع البشر وحثِّهم على الإيمان. وبهذين الأمرين – الدفع والحثِّ – وتدرُّجاً منهما، تُحصَّل الإمدادات الغيبيَّة الخاصَّة. فمن توفَّر له اليقين بالغيب، وعمل بأحكام الشريعة، وألزم نفسه مكارم الأخلاق، وجاء الله بقلب سليم، ربط الحقَّ تعالى على فؤاده وأمدَّه من غيبه بما ينبغي له من توفيقات.
والقرآن الكريم يقول بخصوص النبيِّ(ص): ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى* وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى* وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾1 وفي الفرائض الخمسة: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾2، وهو نوع من طلب المدد من الغيب.
لكن تحصيل المدد الغيبيِّ، يظهر حيناً بصورة توافر الشروط والظروف لتحقيق النجاح والتوفيق، وحيناً آخر بصورة إلهامات وتوجيهات. ومع ذلك، فإنَّ الألطاف الغيبيَّة لا تتحقَّق عبثاً. ذلك بأنَّ الشروط التي ذكرها القرآن الكريم لتحقُّق المدد الغيبيِّ هي شروط متَّصلة بقابليَّات الإنسان واستعداده. والآيتان الآتيتان تفصحان عن جدليَّة تلازم الفيض بالقابليَّة:
في الأولى: ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّـهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُم﴾3، إبلاغ بأنَّ إحراز النصر أنَّى كان شكله ونوعه، سواء على الذات بالتنبيه والتصويب، أم على العدوِّ بالتمكُّن والغلبة، إنما هو أمرٌ مسبوق بالولاء الكامل للحقِّ. ذلك يعني أنَّ علَّة النصر مشروطة بنصرة الله التي تسبق المدد والاستجابة، أمَّا التمهيد إلى هذه الغاية فهي الأخذ بما مرَّ معنا من موجبات.
وفي الثانية: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾4. وهذه الآية كسابقاتها، اشترطت العمل والمجاهدة والنيَّة الصادقة التي تسبق هبوط النور الهادي على أفئدة الطالبين وعقولهم. ذلك يفضي بحسب المنهجيَّة القرآنيَّة، إلى التأكيد على حقيقتين:
الأولى: أنَّ للتاريخ ضوابط وقوانين كلِّيَّة في غاية الإحكام، وهي لا تقبل الفراغ والعبثيَّة والمصادفة. كما في قوله تعالى: ﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحوِيلًا﴾1.
والثانية: أنَّ للإنسان باختياره وإرادته الفعل الحاسم في النقلات الحضاريَّة، وتحوُّلات التاريخ.
هاتان الحقيقتان اللَّتان تجريان مجرى الآيات جميعاً، تتكاملان وتتضافران معاً ولا تنفصلان البتَّة. فمع تأكيد القرآن على السنَّة التاريخيَّة غير القابلة للتبديل والتحويل، تبقى حاضريَّة الإنسان على أصالتها في إحداث التغيير. هنالك تساوُق بين القضاء الإلهيِّ المتجلِّي بالهندسة الكلِّيَّة للزمن، والإرادة البشريَّة التي تعرب عن نفسها بالطاعة ضمن دائرة التكليف. والإرادة البشريَّة سارية في الحركة التاريخيَّة، وتعمل بحرِّيَّة ضمن هذه القاعدة الكلِّيَّة، سوى أنَّها لا تتعدَّى حدود الحتميَّة الإلهيَّة، وإلاَّ فسدت وآلت إلى الهلاك.
- مبدأ تناسُب السُنَنْ:
القصص القرآنيُّ يكشف لنا كيف تعاقبت الأطوار والأمم والحضارات بناء على التناسب بين سُنَن الله الكلِّيَّة، والحرِّيَّة الممنوحة للإنسان.
وهذه الصلة التداوُليَّة قائمة في ما يمكن أن نضعه تحت عنوان “مملكة الضرورة والثبات”. وهو ما قصدته الآية لجهة استحالة التبديل والتحويل في السُّنَن التكوينيَّة للخلق. إلاَّ أنَّ “مملكة الضرورة والثبات” تستبطن الحركة والحرِّيَّة اللتين تفضيان إلى إحداث التحوُّلات في حياة الأفراد والمجتمعات والأمم. فالقانون الكلِّيُّ لا يعدم خصوصيَّة التغيير الذي يمارسه الإنسان كفرد أو كهويَّة حضاريَّة. ذلك بأنَّ حُسن أو سوء خاتمة جماعة ما، أو حضارة ما، هو أمر يتوقَّف على إدراك أو جهل الاتصال الجوهريِّ بين الثابت الإلهيِّ والمتحوِّل البشريّْ. فلمَّا كان الله خالق كلِّ شيء وشرَّف الإنسان بالامتياز عن مخلوقاته كلِّها، فقد كلَّفه صناعة التاريخ جاعلاً له نوراً يستهدي به في صناعته تلك.
والخطاب الإلهيُّ يحدِّد الإطار المعرفيَّ لحركة الإنسان في الزمان التاريخيِّ. والآية التالية تبيِّن ذلك:﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾1. والإنسان تبعاً للخطاب الإلهيِّ، مطالَب بالتعرُّف على محتوى السُّنَن في ثوابتها وتحوُّلاتها. فلو فعل ذلك واستجاب لدعوة الهداية والتعرُّف، لوقف على حقيقة التكليف المقرونة بالحرِّيَّة. وحينئذٍ سيكون له أن يتلقَّى ما هو أصيل ومطابق للسُّنَن الكلِّيَّة، ثمَّ أن يعمل على إنشاء حضارته الإنسانيَّة على أصالة الفعل الإلهيِّ في الزمن البشريّْ.
وإذا كانت المعرفة البشريَّة قد أقامت فهم التاريخ وحركته على منازل ومراتب تبعاً لمنهج السببيَّة في ولادة الأحداث، فقد احتوت كلُّ آية من الآيات على المنازل والمراتب المتَّصلة بأسبابها.
وليس هذا إلاَّ ليكشف حقيقة الاتصال الوجوديِّ بين الواقع التاريخيِّ ومقاصد الوحي.
من أجل ذلك، يتبيَّن لنا كيف تظهر تلك المقاصد في كلِّ آية عن طريق البيان والبرهان والتعلُّم والتعرُّف والتنبيه والتبشير. وهذه المراتب كلُّها تجتمع في المقصد الأعلى الذي هو الهداية. وبهذا نستطيع فهم مُندَرجات التدخُّل الإلهيِّ في زمن الخلق. وهو تدخُّل يقوم على الدعوة إلى فقه الواقع بما هو واقع، ثمَّ على ضرورة تغيير هذا الواقع.
قد يكون الوجه الأكثر دلالة والذي لا يغادر منطق السُّنَن الكلِّيَّة، هو عناية الله الخاصَّة بمن تخيُّرهم من الناس، الأمر الذي يمكن أن نعبِّر عنه بالهداية التسديديَّة، وهي هداية تختصُّ بمن اصطنعه الحقُّ لنفسه ليقوم بأمر مخصوص لا ينبغي إلاَّ لواحد بعد واحد من الأقلِّين. وإذ يجري هذا الأمر على نصاب الاختصاص والاختيار، فإنَّه لا يجري إلاَّ تبعاً لمشيئة إلهيَّة، إمَّا ظاهرة مبيَّنة وإمَّا باطنة مجهولة. وفي كلتا المنزلتين سيكون للهداية التسديديَّة المجعولة لبعض من دون بعض، أسبابُها الموضوعيَّة. فالدعوة الإلهيَّة للمختارين من أوليائه إلى التغيير التاريخيِّ غير مقصورة على توفُّر عامل القوَّة لدرء الفساد في الأرض، وإنَّما أيضاً أساساً على دعوة الناس إلى مكارم الأخلاق، في سياق إحداث ثورة معرفيَّة تقضُّ عالم المفاهيم والأفكار والثقافة التي يحملونها. كما قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾1. وما ذاك إلاَّ لأنَّ الانتقالات الحضاريَّة من الفساد إلى العمران لا تبلغ غايتها من دون خطبٍ جللٍ يناسب ما قصدته الآية الكريمة: ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّـهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُم﴾2. بما يعني أنَّ ثمَّة تقابلاً شَرطيَّاً بين نصر الله للخلق ونصر الخلق لله.
وأمَّا مقتضى هذا التقابل الشرطيِّ فتحصيل التناسب بين إرادة الفاعل واستعداد القابل. وهو الحال الذي يفلح فيه المكلَّف الخاصُّ الحرُّ بتحصيل التسديد من ربِّه. فلو تعقَّل العبد قوانين الزمن الذي هو فيه، وعمل وفقاً لهذه القوانين وأخذ بأحكام الشريعة وكان من المتَّقين لقابله الشارع تعالى بالاستجابة وسدَّد أعماله وأيَّده بالنَّصر.
- مبدأ السببيَّة والتكامُل في البيان الإلهيّْ:
وَرَدَ في رواية عن الإمام الصادق(ع) قوله: أبى الله أن يجري الأشياء إلاَّ بالأسباب. فجعل لكلِّ شيء سبباً، وجعل لكلِّ سبب شرحاً، وجعل لكلِّ شرح علماً، وجعل لكلِّ علم باباً ناطقاً، عَرفهَ من عَرفَه، وجهِلَه من جَهِلَه، ذلك رسول الله(ص) ونحن3.
البيان القرآنيُّ يكاشف عن مبدأ السببيَّة في نظام الخلق. فالله هو الفاعل الحقيقيُّ، والسبب الأصل لكلِّ حركة في العالم. لكنَّه تعالى وضع قوانين وأنظمة لحركة الحياة. وليس قانون الجاذبيَّة على سبيل المثال إلاَّ ليتمكَّن الإنسان من إدراك سبب التوازن في نظام الطبيعة، والسعي لتوفير الشروط التي تمكِّنه من التكيُّف مع الجاذبيَّة وقوانينها الصارمة.
يسري هذا على كلِّ حركة وتحوُّل يجريان في عالم الممكنات. حيث تقوم حياة الكائنات جميعاً على العلِّيَّة والمعلوليَّة، وعلى الأسباب والمسبِّبات، وكلُّ ذلك تحت قيوميَّته وفعله تعالى كما في قوله: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) 1.
فكلُّ ظهور في العالم منسوب في القرآن الكريم إلى المسبِّب الأوَّل، وكما جعل الله تعالى قوانين ثابتة وراسخة في إطار المنظومة الكبرى لعالم التكوين، فقد جعل لحركة الإنسان في الزمان الاجتماعيِّ أسباباً تحكم مسيرته في إطار التكليف، وبالتالي اختياره الحرِّ في ممارسة هذا التكليف. ﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾2.
هذه الآية، شأن طائفة من آيات أُخَر، تقصد الإشارة إلى سيرورة دورة متكاملة في الزمن، وهي سيرورة يعبرها الإنسان وفق نظام متَّصل الأطوار من الخالق إلى المخلوق، ومن المخلوق إلى الخالق ضمن جدليَّة الطاعة والعصيان والنتائج المترتِّبة عليهما.
عند هذه الجدليَّة ينفتح أفق جديد من الكلام على وحدة العلاقة بين الوحي والواقع. أمَّا مقتضى فهم هذه الوحدة فهو أن يُرى إلى حضور الغيب في الواقع كشأن واحد. وما ذاك إلاَّ لأنَّ ركنَيْ الوحدة يعودان إلى مصدر إيجاديٍّ واحد، فيؤلِّفان معاً صراط الله المحيط بعالمَي التكوين والتشريع. ﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ﴾3. ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾4.
في المنهج المعرفيِّ القرآنيِّ نجد أنَّ إحاطة الصراط بكلا العالمَين سوف ينتهي بنا إلى اليقين بوجود طريقين لا يتضادَّان ولا يتناقضان، بل يتكاملان في ما يماثل “صيغة المثنَّى”، وهما الصراط التكوينيُّ والصراط التشريعيّْ. من فضاء هذا المثنَّى الذي يستمدُّ حَيَواتِه من أنباء الغيب، سوف تفتح لنا نوافذ التعرُّف على صلة الله بالعالم وقيوميَّته عليه.
تأسيساً على المآل التكامليِّ الذي يوفِّره فضاء “المثنَّى”، تستوي الرؤية إلى الكثرة في الوحي الإلهيِّ بوصفها سنَّة خَلْقِيَّة. وذلك بأنَّ فهم المثنَّى يستمدُّ شرعيَّته المعرفيَّة من سنَّة الخلق والتكوين القائمة على قانون الزوجيَّة. وهذا القانون بيِّن لا ريب في الخطاب الإلهيِّ. فإنَّما هو صريح في الآيات المُحكَمات ﴿وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا﴾1﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾2﴿*وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا*﴾3، ثمَّ يبيِّن كيف تجمع النفس الواحدة الضدَّين، ثمَّ كيف تعود إلى مُصدِرِها الأول ليقول تعالى واصفاً الخلق وإعادة الخلق على نظام النشأة الواحدة ﴿مَّا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾4.
تشكِّل الزوجيَّة كقانون خلقيٍّ في البيان القرآنيِّ أحد أبرز المفاتيح المعرفيَّة لفهم مقاصد الكلام الإلهيِّ، إذ على تدبُّرها يتوقَّف إدراك الحكمة من خلق عالم الكثرة وصلته بعالم الوحدة. ولنا في هذا المقام أن نتوجَّه بعناية خاصَّة لحرف “الكاف” المتَّصل بالنفس الواحدة. فقوله تعالى (كنفسٍ واحدة) إنَّما ليبيِّن لطفه بالنوع الإنسانيِّ، لجهة أنَّ كثرته في خلقه وحياته ومماته ثمَّ بعثه عائدة إلى جوهر واحد. وما حرف “الكاف” إلاَّ لتمييز الهويَّات المتكثِّرة بعضها من بعض، ومن دون أن تنفصل عن مصدرها الواحد. المثنَّى القرآنيُّ، إذن، هو سرُّ اتصال الكثرة بالوحدة، وهو الذي يجعلها آمنة من التشظِّي والعدم، ومحفوظة بالعناية والرحمانيَّة. ولذا فهي تناظُرٌ متكافئ في أصل الجعل والتكوين مع لحاظ وجه التمايز في الكثرة وفق نظام التدافع والخلق المتجدِّد.
- الإحياء الحضاريِّ كقانون إلهيّْ
على خلاف ما ذهب إليه المسعى الفلسفيِّ في الغرب، فإنَّ فقه المثنَّى المنبني على نظام الزوجيَّة في القرآن الكريم يفتح على إمكان اجتياز الإشكاليَّة العظمى الناجمة من التعقيدات التي ينطوي عليها عالم الكثرة. ذلك بأنَّ الخلق الإلهيَّ، وفقاً لنظام الزوجيَّة، هو فعل متَّصل بالفاعل وقيوميَّته على ذلك الفعل. ولأنَّه كذلك فهو مغمور بأسماء والصفات المقدَّسة ومؤيَّد بها. فالزوجيَّة خلق موصول العدل واللُّطف.
بالعدل: لا ترى في خلق الرحمن من تفاوت”. وباللُّطف: ربَّنا الذي أعطى كلَّ شيء خلقه ثمَّ هدى.
بهاتين الصفتين الإلهيَّتين يستوي الزوجان على نشأة التناسب التكوينيِّ ثمَّ يمضيان بالهداية.
وهنا نصل إلى سنَّة الإستخلاف. فهو حاصل التناسب بين مسعى الإنسان لإنجاز هجرته الحضاريَّة ومقرَّرات القانون الإلهيّْ. والله الذي أعطى كلَّ شيء خلقه ثمَّ هدى إنَّما كان عطاؤه هبة ولطفاً وأمراً. لكن ليس لأيٍّ كان – كما مرَّ معنا – فلن يتلقَّاه أو يقترب منه من لم يكن من المطيعين المصدِّقين…
إنَّ علَّة الاستخلاف هي الطاعة والاستحقاق. وكلاهما يفضيان إلى استخلاف الذين استُضعِفوا في الأرض، وكان لهم استحقاق الدخول في “دورة المُلك”1. أولئك الذين ارتكنوا في المنطقة الوسطى من الأمَّة الوسط، وأخذوا بقاعدة الاعتدال، وقالوا قولهم المعروف: لا إفراط ولا تفريط بل هو أمر بين أمرين1.
فالاستخلاف الحضاريُّ القرآنيُّ هو حاكميَّة رحمانيَّة تتجاوز الحصريَّة القوميَّة لتنتشر في فضاء العالمين. وذلك صريح في مجمل الخطاب الإلهيِّ للنبيِّ بوصفه مُرسَلاً رحمة للعالمين. كما في دعوته تعالى نبيَّه إلى إعلان بيانه العالميِّ بقوله: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً﴾2.
ولئن كان الاستخلاف الحضاريُّ القرآنيُّ يعطي الأصالة للحاكميَّة البشريَّة فهي أصالة مفتقرة إلى مصدرها الأول لكنَّها موصولة به بعروة وُثقى. فإنَّ أصالة الحاكميَّة البشريَّة هي أصالة مستمَدَّة من أصالة الوحي. به تبقى على حيويَّتها وديمومتها فلا يطاولها فساد، وبمعزل عنه تصير مصير بيت العنكبوت، فإنَّه بقدر ما يبدو شديد الاتقان، هو في حقيقته شديد الوهن. والآية الكريمة في سورة “العنكبوت” ترسم صورة كلِّ ظاهرة حضاريَّة انفكَّت عن الوحي فآل أمرها إلى التصدُّع والزوال. ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾3.
من هذه الآية يمكن لنا أن نهتدي إلى نظريَّة معرفة قرآنيَّة تؤسِّس لفهم المسار المنطقيِّ لصعود الحضارات البشريَّة المتعاقبة وسقوطها.
وإذن، فالقرآن العظيم لا يَهَبُ نفسه إلَّا لقارئيه المتدبِّرين، والقارئ الذي يستطيع أن يأخذ منه بعض مكنوناته هو الذي أخذ بقراءة منهجيَّة تجمع إلى التدبُّر والتأمُّل والتذكُّر، الفهم والفقه واللُّغة والأثر. وتلكُمُ على الجملة، وسائط لفهم الآيات ومن أجل قراءة الكون المفتوح الذي يشكِّل وسيلة أخرى من وسائل الفهم والإدراك. فالقراءتان متضافرتان متلازمتان: قراءة القرآن المسطور قراءة تحليلية متدبَّرة. وقراءة الكون المنشور قراءة آفاقيَّة تدرس وتختبر وتتأمَّل. وهكذا فإنَّ إعمال القراءتين معاً والجمع بينهما بمنهجيَّة كونيَّة، والانطلاق منهما مع الإفادة من سائر الوسائل تجعل من هذه القراءة المتكاملة، الوسيلة الدائمة المتجدِّدة لتحقيق الغاية من الخلق وبناء الحياة الطيِّبة في الحياة الدنيا والآخرة. تلقاء ذلك، فإنَّ تعطيل أيِّ من القراءتين، أو تجاوزهما، أو الإخلال بالتوازن بينهما، يعني الإعراض عن ذكر الله تعالى1. ذلك بأنَّ الغيب والشهادة يؤلِّفان معاً وحدة الذكر والاتِّصال بالحقِّ، وأيُّ انزياح عن أيٍّ منهما يعني الانزياح عن الصراط المستقيم بوصفه كُنْهَ الهداية الإلهيَّة الذي لا يقبل الانفصال ولا التثنية ولا التكثُّر. وهو ما يحذِّر منه تعالى بقوله: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾2.
وما حال المُعرِض إلاَّ كذاك الموغل في سبيل بلا هادٍ يهديه ولا معرفة يهتدي بها. فالعامل بغير علم كالسائرِ على غير طريق، فلا يزيده بعده عن الطريق إلاَّ بُعداً عن حاجته. والعامل بالعلم هو كالسائر على الطريق الواضح. فلينظر ناظرٌ أسائرٌ هو أم راجع؟. كما يقول الإمام عليٌّ(ع) في “نهج البلاغة”. أو كما جاء في الحديث الشريف3: إنَّ هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق. ولا تبغِّض إلى نفسك عبادة ربِّك، فإنَّ المنبتَّ لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع4. والمنبت هو نفسه الذي قطع ما أمر الله به أن يوصل. فكانت خاتمته الخيبة والخسران.
ولئن كان هذا هو شأن المنبت الذي تحدَّث عنه النبيُّ الأعظم، فذلك ما وجدنا تذكيراً به في القصص القرآنيِّ: في قصَّة عاد وثمود وقوم تُبَّع كأطوار حضاريَّة، كما في قصص فرعون ونمرود كطاغيين فسقا عن أمر الله، فآل بهما فسقهما إلى الهلاك المحتوم.
لا بدَّ من القول أنَّ منهجيَّة الجمع بين القراءتين كطريقة نظر، يمكن أن تؤدِّي غرضها في فهم القصد القرآنيِّ، لا سيَّما لجهة ما يتعلَّق منها بدورة الاستخلاف ثمَّ الاستبدال بعد الاستخلاف، وكلُّ ذلك انطلاقاً من مبدأ السببيَّة كقانون ناظم لتاريخ الحضارات. ولذا، فإنَّ المنهج الجمعيَّ يعتمد على الربط بين القرآن بوصفه محتوى الوعي المعادل للوجود الكونيِّ وحركته، وبين ما يتمظهر به هذا الوجود من تشيُّؤ. فكلاهما، القرآن والوجود المتشيِّئ (عالم المخلوقات والكائنات)، يكمل الآخر في الكشف عن دلالات الوجود وقوانينه، حيث يتجلَّى القرآن بمقولاته، والطبيعة بحركتها1.
أمَّا القاعدة التي تحكم المنهج الجمعيَّ فهي أنَّ القراءتين تستمدَّان شرعيَّتهما المنهجيَّة من القرآن والكون. فالقرآن يعطي ما هو موجود في الكون، والكون يعطي ما هو موجود في القرآن ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾2.
- سنَّة الاستبدال الحضاريّْ:
مبدأ التناسب بين سنَّة التكوين وسنَّة التشريع هي أحد أظهر مكوِّنات نظريَّة المعرفة في القرآن الكريم. وإذا كان هذا المكوِّن المعرفيُّ ينزل منزلة البديهيَّات الكلِّية في أسباب النزول. كما يشكِّل العروة الوثقى بين الوحي والنبيِّ(ص).. فإنَّه الحجَّة البالغة على وحدة الغيب والحضور. ذلك أنَّ مقصود الشرائع كلِّها – كما يشير أهل الحكمة – هو تعريف عمارة منازل الطريق إلى الله، وكيفيَّة التأهُّب للزَّاد والاستعداد بإعداد السلاح يدفع به سرَّاق المنازل وقطاعها3.
وعلى نحو ما تقصده الآيات، سنرى كيف يُربَطُ استبدال الأمم والحضارات بسواها بسبب من فسادها أو تثاقلها، أو إعراضها عن العمل بما تفترضه شروط تجدُّدها. وذلك واضح في قوله تعالى: ﴿إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.1
كذلك سنرى في آية ثانية كيف يُربَطُ سبب الإهلاك بالظلم كما في قوله تعالى:﴿ومَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾2، وقوله سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ*﴾3.
صيرورة ما تختزنه هذه الآيات من دلالات وتنبيهات واضحة في تظهير السببيَّة. فإذا أخلد الإنسان لقوانين التشيُّؤ العلميِّ الوظيفيِّ بمنهجيَّة معرفيَّة وضعيَّة، مادِّيَّة أو انتقائيَّة، وهي قوانين كاملة وليست (نسبيَّة) كما ذكرنا، فإنَّه يوظِّف هذه القوانين خارج منطق مبادئها الغائيَّة ويتَّخذها أرضيَّة لعلوِّه الحضاريِّ وطغيانه في الأرض. ويجري ذلك أيضاً بما يعاكس أخلاقيَّة هذه القوانين الطبيعيَّة نفسها، فيحلُّ الصراع والتضادُّ والطغيان، ثمَّ التدمير الذاتيُّ للعلوِّ الحضاريِّ بحكم التناقض الكامن في أصل تكوينه، أي ما بين منهجيَّة الخلق ومنهجيَّة الفكر الوضعيِّ ونسقه الحضاريّْ. فثمَّة مستويات متعدِّدة ومتراكبة لفهم علاقة الغيب بالواقع، فالتأليف بين القراءتين هو صعود من الواقع إلى الغيب، والدمج بين القراءتين هو تنزُّلٌ من الغيب إلى الواقع، والتوحيد بين القراءتين هو توسُّط بين الغيب والواقع. فالتأليف بينهما يفضي إلى انفتاح نفسيٍّ وعقليٍّ على (عالم المشيئة المباركة) التي قضى الله بها الكون وحركته ومعطياته، وأمَّا التوحيد فمؤدَّاه انفتاح عقليٌّ ونفسيٌّ على (عالم الإرادة المقدَّسة) المتبدِّية في العلاقات الاقترانيَّة زماناً ومكاناً في حركة الوجود، والدمج انفتاح عقليٌّ ونفسيٌّ على (عالم الأمر المنزَّه)4.
خلاصة هذه المنهجيَّة في القراءة المركَّبة، نقرأها كما يقرِّر أصحابها على وجهين:
الوجه الأول: أنَّ التأليف بين القراءتين، يعني التأليف بين مظاهر (الخلق) وظواهر الحركة التي (يجعلها) الله في هذه الظاهر، لتعطي الوجود معنى (إنسانيَّاً) على قاعدة مفهوم (التسخير) بحيث يصبح الكون كلِّه (بيتاً) للإنسان، وكلُّ ما فيه للإنسان، حيث ينتمي الكون للإنسان، ويشعر الإنسان بالانتماء للكون ووفق منهجيَّة الحقِّ في الخلق ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾1. فالكون مقصده الإنسان، ليكون بيتاً له. وقوانين علوم التشيُّؤ الوظيفي هي لسيطرة الإنسان على محتويات بيته وموجوداتها وفق غائيَّة الحقّْ.
الوجه الثاني: أنَّ حصيلة التوحيد بين القراءتين جمع لقرائن الزمان والمكان. فلا مصادفات في اقتران الأحداث بعضها ببعض، ولا في جرَيان الصيرورة وانسيابها عبر متغيِّرات الزمان والمكان. فليس صدفة (على سبيل المثال لا الحصر) أن يولد موسى في زمان ومكان محدَّدين، وأن يُقذَف في تابوت لا يغرقه الماء، وأن يَقتل مصريَّاً وقد أراد وكْزَه فحسب. ثمَّ ليس صدفة أن يهرب إلى أرض مَدْيَن، وأن يلتقي ببنتين تذودان عن نفسيهما بوجه الرعاء، وأبوهما شيخ كبير. أخيراً وليس آخراً، أن يأتي في زمان ومكان محدَّدين ليرى شجرة متأجِّجة بالنار، ليخاطبه الله سبحانه عندها قائلاً له: ﴿ثم جئت على قدر يا موسى﴾، نافياً كل صدفة في حركة الإنسان والوجود2.
- فلسفة التاريخ والوعد الإلهيّْ:
مرَّ معنا أنَّ فقه التزامن بين الغيب والواقع كما تُبيِّنه الآيات، هو أحد أهمِّ المرتَكزات المنهجيَّة في فهم الثابت والمتغيِّر والوقوف على الحدود الفاصلة بينهما. والقرآن الكريم الذي أنزله الحقُّ تعالى ليشكِّل محور التوسُّط والوصل بين الله والخلق، هو حقيقة واقعيَّة سارية وهادية في أيِّ شأن من شؤون الإنسان.
﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾1.
في هذه الآية توكيد على الهداية بشرط قابليَّة القابل وعزمه على التماهي وشرائطها ظاهرة وباطنة. وإذ يتبع المهتدي الرضوان (أي الصراط) يعطيه السلام في الأرض، ويخرجه من عالم الشرور والطغيان والظلم إلى عالم الخلاص والعدل الإلهيّْ. وهذه الآية تتَّصل وتتكامل مع آيات الوعد الإلهيِّ بإحياء الحضارات بعد موتها وتهالُكها، كما في قوله تعالى في آية التوريث:﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾2.
هذه الآية تشير بعمق إلى المآل الذي يمضي إليه تاريخ البشر، فتتدخَّل الإرادة الإلهيَّة لتؤيِّد المصطَفين من العباد بنصرها، وتجعلهم ورثة العالم وساداته.
على صراط التناسب بين الاعتناء الإلهيِّ القائم على الاستخلاف والاستبدال والتوريث تتهيَّأ الأسباب المؤدِّيَّة إلى ظهور التاريخ على نشأة أخرى. وعلى الصراط القرآنيِّ نفسه سيكون للمدرسة العرفانيَّة المنفسح الإيمانيُّ والمعرفيُّ الذي يؤسَّس عليه الفعل الحضاريُّ المستأنَف. هي مدرسة تؤمن بأنَّ البحث في سُنَن التاريخ أمر مرتبط ارتباطاً عضويَّاً بكتاب الله الهادي إلى الصراط. وسنلاحظ بما لا يدع مجالاً للرَّيب أنَّ التأسيس الحيَّ لمشروع الدولة العالميَّة العادلة قائم على الأخذ بالأسباب من أجل الوصول إلى التغيير المنشود.
وإذا كان الجانب العمليُّ والتطبيقيُّ متعلِّق بإرادة البشر وعزمهم، فإنَّ كتاب الله الهادي هو الذي يضيء سبيلهم ويخرجهم من الظُّلمات إلى النور. بذلك يستطيع الآخذون بالهداية القرآنيَّة أن يستلهموا منها التدبيرات التي تمكِّنهم من تسيير شؤونهم في كلِّ ميدان من ميادين نشاطهم الاجتماعيِّ وحركتهم الحضاريَّة.
يجدر القول أنَّ التلازم بين الغيب والشهادة وبين حقيقة الشريعة وحُسن تدبير الاجتماع البشريِّ، هو تلازُم مساوِق للتغيير الحضاريِّ من وجهين متكاملين: إلهيٍّ وبشريّْ.
الوجه الإلهيّْ: هو ما تدعو إليه الشريعة من وجوب التزام الأحكام الإلهيَّة الكلِّيَّة لكي يُفلح الناس في إصلاح ذات بينهم. وهذا وجه يمثِّل شريعة الله سبحانه وتعالى التي نزلت على النبيِّ الأكرم محمد(ص) وتحدَّى بنزولها عليه كلَّ سُنَن التاريخ المادِّيَّة بحكم كون هذه الشريعة أكبر وأعظم من البيئة التي حلَّت فيها. ذلك أنَّ التحدِّي النبويَّ الخلاَّق للسُّنَن المادِّيَّة التاريخيَّة ليس إلاَّ من قبيل العزم على تبليغ الوحي، رغم الحروب التي شُنَّت عليه من كفَّار ومُشرِكي قريش.
الوجه البشريّْ: تُستَظهَر سماتُه وفقاً لثوابت الخطَّة الإلهيَّة ومقاصدها من البعثة النبويَّة، وديمومتها في الزمان البشريّْ. هذان الوجهان يتَّصلان بعمق بالقصد الإلهيِّ من الخلق الآدميِّ والغاية من حضور الإنسان في التاريخ. لكن مآلهما بحسب القضاء القرآنيِّ هو إنجاز الخلاص الأعظم حيث تمتلئ الأرض عدلاً وقسطاً بعدما مُلئت ظلماً وجوراً. فلو ابتنينا تعريف هذا المآل على المنطق الذي يحكم نظريَّة المعرفة التاريخيَّة لوجدنا أنَّ الاعتقاد بخلاص العالم إنَّما يصدر عن إيمان راسخ بأنَّ الدولة العادلة هي على التعيُّن تلك التي يحقِّقها الوليُّ الكامل. ذلك بأنَّها الحتم المقضيُّ الذي يشكِّل ذروة اللِّقاء المُعدِّ بعناية خاصَّة بين السُّنَن الإلهيَّة وقوانين التاريخ. أمَّا ما ينبغي أن يفعله المؤمنون فهو التمهيد بالقول والعمل لظهور محيي الدين وحامل راية الحقيقة المحمَّديَّة في تاريخ البشريَّة الآتي.
على أيَّة حال، فإنَّ لهذه الحتميَّة التاريخيَّة بُعدين، بُعداً غيبياً وبُعداً حضوريَّاً، وهو ما دلَّت عليه آيات الكتاب العزيز في هذا المورد: – ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾1 – ﴿وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ﴾2.
إنَّ ما نلاحظه من الآيات الكريمة التي أوردناه في هذا السياق، هي التأكيد على الأجل المحتوم في حركة التاريخ، وهو تأكيد يُظهِرُ الارتباط الوثيق بين أمر الله تعالى ومسار الحياة الإنسانيَّة، كما يكشف عن القيوميَّة الإلهيَّة على كلِّ شأن من شؤون عالم الخلق، وأنَّ لهذا العالم مبدأ مثلما له بالضرورة مَعادٌ محتوم.
[1] – سورة الفاتحة- الآية 2.
[2] – سورة الأنبياء- الآية 107.
3 – سورة البقرة – الآية 286.
1 – سورة المائدة – الآية 8.
1 – عبد الرحمن، طه – العمل الدينيُّ وتجديد العقل، المركز الثقافي العربي – بيروت 1997، ص 128.
1 – مطهَّري، مرتضى– العدل الإلهيُّ – ترجمة عبد المنعم الخاقاني- دار الهادي – بيروت – 1997- ص 82.
2 – سورة الحجرات – الآية 13.
-1 المعصوم هو (المفرد بصيغة الجمع)، وهو كامل السلسلة المباركة للحقيقة المحمَّديَّة حيث إمام المتَّقين الأول علي بن أبي طالب(ع)، وختامها الإمام الثاني عشر المهدي المنتظر(عج).
1 – سورة فصِّلت – الآيتان 34 و35.
1 – حيدر، محمود – جدليَّة الأنا والآخر والله في نهج البلاغة – بحث قُدِّم في مؤتمر “طرق الإيمان: التصوُّف وفقه التحرُّر” المنعقد في مدينة قسنطينة بالجزائر في 21 كانون أول (ديسمبر) 2012.
1 – سورة الضحى – الآيات 6 و7 و8.
2 – سورة الفاتحة – الآية 5.
3 – سورة محمد – الآية 7.
4 – سورة العنكبوت – الآية 69.
1 – سورة فاطر – الآية 43.
1 – سورة النساء – الآية 26.
1 – سورة الرعد – الآية 11.
2– سورة محمد – الآية 7.
3 – بحار الأنوار للعلاَّمة المجلسي – ج1 – ص 93.
2 – سورة التوبة – الآية 105.
3 – سورة الأعراف – الآية 54.
4 – سورة طه – الآية 50.
1 – سورة النبأ – الآية 8.
2 – سورة البلد – الآية 10.
3 – سورة الشمس – الآيتان 7 و8.
4 – سورة لقمان – الآية 28.
؟؟ 1 ؟؟ – سوف يكون لنا في دراسة أخرى كلام على نظريَّة دورة المُلك عند ابن عربي بما هي سنَّة إلهيَّة في مسيرة الحضارات الإنسانيَّة.
؟؟ 1 ؟؟ – ورد في كتاب الكافي للعلاَّمة الكليني في باب القضاء والقدر.
2 – سورة الأعراف – الآية 158.
3 – سورة العنكبوت – الآية 41.
1 – من مقدِّمة الدكتور طه جابر العلواني لكتاب محمد أبو القاسم حاج حمد- منهجيَّة القرآن المعرفيَّة – دار الهادي – بيروت 2003 – ص 19.
2 – سورة طه – الآية 124.
3 – نهج البلاغة – شرح أصول الكافي- مولي محمد صالح المازندراني- ج 1- ص 272.
4 – حديث شريف – بحار الأنوار – العلاَّمة المجلسي – ج 68- الصفحة 218.
1 – حاج محمد، محمد أبو القاسم – المصدر نفسه- ص 178.
2 – سورة الحجر – الآية 87.
3 – الشيرازي، صدر الدين – المبدأ والمعاد – دار الهادي – ط 1 – 2000 – ص 642.
1 – سورة التوبة – الآية 39.
2 – سورة القصص – الآية 59.
3 – سورة هود – الآية 117.
4 – حاج محمد، محمد أبو القاسم ـ مصدر سابق- ص 189.
1 – سورة البقرة – الآية 29.
2 – حاج محمد، محمد أبو القاسم – المصدر نفسه- ص 191.
1 – سورة المائدة – الآية 16.
2 – سورة القصص – الآية 5.
1 – سورة الأعراف – الآية 34.
2 – سورة الحجر – الآيتان 4 و5.