فلسفة وميتافيزيقا

الفلسفة وبناء الإنسان المعاصر (2)

الفلسفة وبناء الإنسان المعاصر (2)

د. بهاء درويش

كنت قد كتبت مقالاً- نشر بجريدة الأهرام أيضاً- مفاده أن من مقومات بناء الإنسان المعاصر بصفة عامة – والمصري بصفة خاصة- ضرورة الوعي ببعض الأفكار الفلسفية ونطاق ثم كيفية تطبيقها في حياتنا العملية، فذلك من مقتضيات بناء الإنسان المعاصر، إذ تكمن أغلب القيم الفلسفية- التي يسلك وفقاً لها الإنسان دون وعي بها- في اللاوعي. إخراجها على سطح الشعور وفهمها والوعي بها وبمبرراتها ومن ثم تحديد ما إذا كانت ما يجب أن نسلك وفقاً لها مهمة ضرورية لبناء الإنسان المعاصر.

أجدني مضطراً للعودة لهذا الموضوع بفكرة فلسفية أضيفها للفكرتين اللتين وضعتهما في مقالي السابق، أرى ضرورة طرحها وبيان أهمية وعي كل مصري بها وبمقتضيات تطبيقها، إذ سيترتب على ذلك أن تعكس سلوكيات كل مصري أصالتنا المصرية ووجاهتنا تجاه العالم بالإضافة إلى السلم الاجتماعي الذي سينتج عن الوعي بها وبكيفية تطبيقها.

هذه الفكرة هي الوعي بالذات أو الوعي بالهوية الفردية. يناقش الفلاسفة مسألة الذات من عدة زوايا، فالبعض- مثل الفيلسوف الألماني فشتة- ارتأى الاكتفاء بمناقشة الذات المتعالية، والبعض- كعلماء النفس- ناقش الذات من حيث أنها الذات التجريبية. ليس هذا ولا ذاك ما أصبو إليه. الذات التي أرى ضرورة إبرازها والوعي بها هي الذات الفردية- من حيث كونها مجموعة من المقومات تمكننا من التعامل مع العصر بكل مقتضياته المحلية والاقليمية والعالمية.

يختلف بالضرورة تعاملي في هذا العالم انطلاقاً من وعيي بهذه المقومات عنه انطلاقاً من غير هذا الوعي: الوعي بالذات في علاقتها بالأسرة الصغيرة المحيطة بها، والمجتمع المحلي، ثم الدوائر الأكبر فالأكبر، إلى أن أصل إلى وعيي بذاتي في تعاملي مع العالم. للذات مقومات تشكل في مجموعها المكونات الجوهرية للذات. فهم هذه المكونات يساعد المرء على معرفة كيفية التعامل مع الآخر وحدود حقوقه وواجباته. فأنا مصري، عربي، مسيحي/ أو مسلم، إنسان. يترتب على كل مقوم من هذه المقومات التزامات أخلاقية تشكل هذه الصفة. ولما كان كل مقوم منها يمثل جزءاً من هويتي، فإن اختزاله أو إلغاءه يلغي أو يهمش إلتزامات ضرورية لولا هذا المقوم ما كان ليكون لها داع أو ضرورة. تتحقق ذاتي- ومن الضروري أن أحرص على تحققها- إذا ما أظهرت في سلوكياتي هذه الالتزامات الأخلاقية أو التزمت بها التزاماً يجعلها تنعكس في تصرفاتي. فأنا إنسان تجاه كل بني البشر، لا أعني بالإنسانية هنا الصفات البيولوجية التي يتصف بها بنو آدم ويختلفون بها عن بقية الكائنات الحية أو غير الحية، ولكن أعني بها الصفات الأخلاقية التي تُفرض عليّ من حيث أني إنسان عليه إلتزامات أخلاقية تجاه أخوتي في البشرية وإلتزامات أخلاقية تجاه الكائنات الأخرى الحية وغير الحية. وبالتالي لا أظهر في سلوكياتي وتعاملاتي مع الآخر سوى الرقي البشري بعيداً عن الالتزامات التي تحكمها المصالح.  وأنا مسلم/ مسيحي أفهم مقتضيات التعامل مع أبناء ديني من الملة ذاتها أو غيرها ومع أصحاب الأديان الأخرى، بل ومع غير المتدينين كما يعلمني ديني القويم. هكذا كان الدين منذ القدم- ولازال- يشكل جزءاً من هوية المصري يعي إنطلاقاً منه أن المصريين – وخاصة المسيحيين ومسلمين- نسيج واحد في المجتمع، يتعرضون للظروف ذاتها ويتقاربون في الأفراح والأتراح ويحتفلون معاً في الأعياد الرسمية والدينية، إسلامية كانت أم مسيحية. وأنا عربي تربطني بأبناء عروبتنا وشائج تلزمني بواجبات تجاههم دون أن تتعارض هذه الالتزامات مع المقومات الأخرى لذاتي أي دون أن تتعارض مع كوني إنساناً يعي فهم مقتضيات دينه. هذه المقومات لا تنفي خصوصيتي المصرية والتزاماتي تجاه مجتمعي المصري دون أن تتعارض أيضاً مع مقتضيات بقية المقومات.

وعي كل مصري بهذه المقومات ومقتضياتها الأخلاقية وتذكر ضرورة السير وفقاً لهم من شأنها أن يظهر المعدن المصري الحقيقي بأصالته وعقلانيته وحضارته التي ستعكسها بالضرورة سلوكياته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى